في إصراره على المكابرة.. النظام السوري يقوّض نفسه بنفسه
قاسم عز الدين
الاصلاحات التي يعد بإجرائها النظام السوري، يمكن أن تُنفّس احتقان علاقته بتركيا ودول»المجتمع الدولي» وبعض المعارضة، لكنها لا تُلغي أسباب الأزمة بين السلطة والغالبية العظمى من الشباب والفئات الاجتماعية التي تعرّضت لتهميش السلطة. فالنظام ما زال مصراً على تأويل الأحداث في رواية تشيح بوجهها عن وعي الشعب السوري بحقوقه الاجتماعية وحرياته السياسية كباقي الثورات العربية. وفي تأويله هذا يأمل النظام تعزيز السلطة في استكمال إصلاحات بدأها «بسرعة دون تسرّع». وتدلّ هذه المقاربة على أن النظام يسعى إلى الحوار في إصلاحات فوقية تخدم أجنحة وفئات نافذة في السلطة وحدها. وهي الإصلاحات الدستورية والهيكلية نفسها تقريباً التي تأمل دول «المجتمع الدولي» الوصول منها إلى النيل من ممانعة النظام، سوى أن هذه الدول تتوخى أن تخدم أيضاً أجنحة «منفتحَة» من المعارضة. وسواء تبنّى النظام إصلاحات تخدم السلطة وحدها أم تخدم أيضاً القوى «المنفتحَة» الأخرى، يتيح المجال واسعاً لعبور «المخطط الأميركي ـ الصهيوني ـ السلفي» من «الثغرة» السورية على شكل «دفرسوار» مضاد لسوريا وللثورات العربية في آن. فدول «المجتمع الدولي» لا تتقصّد اليوم النيل من ممانعة النظام، إنما تتقصّد إجهاض مسار الثورات العربية من سوريا، والحؤول دون امتدادها إلى لبنان والعراق والأردن والسلطة الفلسطينية وربما أبعد. وهي تعتقد أن القوى النافذة التي تلبي الإصلاحات الدستورية و«الهيكلية» مصالحها وطموحاتها، كفيلة، على المدى الأبعد، بأن تنحو نحو مزيد من «الانفتاح» ونحو ما يسمى الاستقرار والسلام. لكن الفئات الشبابية والشعبية «المغَرَّر بها» تنتفض من أجل تجديد النظام في تفكيك سيطرة السلطة والحزب الحاكم على مرافق ومؤسسات الدولة. وذلك لمواكبة الثورات العربية في التحرر من استراتيجيات وسياسات «المجتمع الدولي»، والتحرر كذلك من استبداد السلطة وهدر الحقوق. ولا يكون تجديد النظام بغير ثورة من فوق أو من تحت، تشارك في صنعها «الفئات المُغرّر بها» بالضغط والمراقبة والاقتراح على غرار ميدان التحرير في القاهرة وميدان القصبة في تونس. وهذه المشاركة في الميدان هي خير سدّ أمام محاولة عُبور الثورات المضادة الداخلية والخارجية من الجبهة الشرقية. ويبدو أن النظام لا يأبه لخطورة مسؤوليته التاريخية في إمكانية إجهاض الثورات العربية، وفي أَثر إجهاضها الثقيل على ممانعة سوريا وعلى المقاومة وعلى لبنان وفلسطين والأردن والعراق وحتى على إيران وتركيا.
لقد ساهم النظام السوري بممانعته الطويلة وفي دعم المقاومة، بإعاقة استراتيجيات دول «المجتمع الدولي» في تعميق الإنهيار العربي وتطويع المنطقة وفي إعاقة تخريب الاكتفاء الذاتي والاستقرار الإجتماعي في سوريا. وفي هذه المساهمة، مهّد بين عوامل كثيرة أخرى، لانطلاق الثورات العربية في مسار طيْ مرحلة الإنهيار والتطويع ووقف التخريب الاقتصادي والاجتماعي. ولقاء هذه المساهمة غضّـت الغالبية العظمى من السوريين (والعرب) الطرف عن مظالم النظام في هدر الحريات السياسية وباقي الحقوق الإنسانية. بل ساندته في الأوقات العصيبة وضحّت بالغالي والنفيس في تحمّلها المسؤولية الوطنية والقومية، حفاظاً على صوت رسمي ممانع خارج اصطفاف النظام الرسمي العربي وراء «المجتمع الدولي». ومن جهته تحمّل النظام ضغوطاً وتهديدات شتى وفي أوقات متلاحقة طويلة. لكنه قطف مقابل ممانعته ثمار احتكار السلطة لكل مؤسسات الدولة ومرافق الحياة السياسية والاجتماعية أكثر من أربعين عاماً. وحصد غلّة ممانعة إقليمية استراتيجية تؤهله لدور الشريك المؤثر في الحقل الإقليمي، وفي العلاقة الصعبة مع دول «المجتمع الدولي». وقد أمسك، نتيجة ممانعته، بجزءٍ مهم من الملفات الفلسطينية واللبنانية والعراقية والعربية والإيرانية. وفرض على دول «المجتمع الدولي» اعتماده شريكاً أو محاوراً رئيساً لا مناص منه في فترة أو أخرى. كما فرض على هذه الدول أيضاً أن تحاذر مجابهة النظام خوف انعكاس عدم استقراره على باقي الملفات الشائكة.
لكن الثورات العربية طوَت مرحلة الانهيار والتطويع والتخريب الإقتصادي ــ الإجتماعي. وطوَت مع تلك المرحلة «استراتيجية» اعتماد عاملي الممانعة والمقاومة وحدهما في مواجهة استراتيجيات وسياسات دول «المجتمع الدولي». فهذه الاستراتيجيات والسياسات راكمت منذ منتصف السبعينيات ضحاياها في انهيار الأمن القومي والمصالح الوطنية، وفي انهيار دور مؤسسات الدولة والمرافق العامة، وفي القضاء على الاستقرار الإجتماعي في الأمن الغذائي والتعليم والصحة والعمل… إلخ كما راكمت مصالح الطبقة السياسية و«رجال الأعمال» وراء «الانفتاح» في نهب الثروة العامة والتسلّط على الدولة وفي استبدادها وتسلّحها بقمع الأجهزة الأمنية والحماية الخارجية. ولم تخضع الغالبية الساحقة المتضرّرة من الانهيار والتطويع والتخريب، يوماً. وقد نضج غليانها إثر الأزمات المتلاحقة التي عصفت بالمنظومة الناظمة لهذه الاستراتيجيات والسياسات، من فشل حروب الأمبراطوريات في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين، إلى أزمات البطالة والطاقة والمناخ والغذاء والأزمة المالية… إلخ، وفي خضم هذا العصف المأكول لم يخترع الشباب الثائر ثورة عربية من لا شيء. لكنهم أعادوا الهرم المقلوب على رأسه إلى قاعدته الطبيعية. وهي قاعدة تجمع في سلّة واحدة بين التحرر من الإلحاق السياسي والتبعية الاقتصادية والغزو العسكري والأمني، وبين الحقوق الإجتماعية والثقافية، والحرية من استبداد السلطة وفساد الطبقة السياسية وزبائنتها من «رجال الأعمال». وما زال هذا المسار في بداياته لكنه يعبّر عن تحوّل جذري نحو مسار مرحلة تاريخية جديدة تحاول الثورات المضادة الخارجية والداخلية إجهاضها بشتى السبُل. ولا تشذ سوريا عن هذا المسار الذي يعصف في كل البلدان العربية. فهو يطرح على النظام إمّا التخلّف عن مواكبة التحوّل نحو الإكتفاء بالممانعة، وبإجراء إصلاحات فوقية في السلطة تصب في نهاية المطاف في طاحونة الثورات المضادة الخارجية والداخلية. وإمّا توظيف رصيد الممانعة في ثورة من فوق تحمي سوريا وتفضي إلى توسيع وتعميق مسار الثورات العربية في كل بلدان الجبهة الشرقية.
والسلطة السورية شانها شأن كل سلطة حكمت عقوداً طويلة، نمت في أحشائها مراكز قوى وفئات تتعارض مصالحها وطموحاتها مع التحوّل نحو تحقيق أهداف الثورات العربية. وقد نمت مصالح وطموحات هذه القوى والفئات طيلة مرحلة الممانعة في الأجهزة الأمنية وفي الحزب الحاكم وفي إدارات الدولة. وفي «الاقتصاد الاجتماعي» الذي أتاح استيلاء حاشية السلطة، وراء «الانفتاح»، على الأرض والقطاعات الإنتاجية والتجارة. وقد وصلت هذه المجموعات عام 2005 إثر الانسحاب السوري من لبنان، إلى مقايضة رئيس الجمهورية حول إطلاق أيديها في الفساد والاستبداد مقابل دعم سياسته في استمرار الممانعة. وفرضت انفتاح «السوق الإجتماعية» على المصالح الأوروبية في طريق حرية التجارة و«الشراكة» والإستثمار الخليجي في الريع العقاري و«المنتجعات السياحية» وغيرها. وفي خمس سنوات تجاوزت عائداتها عشرات مليارات الدولارات من أشكال السمسرة والتجارة والريع وحماية أعمال «المستثمرين». وكان من نتائج ازدهار هذه القوى والفئات في أحشاء السلطة، أن تدهورت الأرياف وانهار الاستقرار الاجتماعي بانهيار الاكتفاء الذاتي من الغذاء الذي حمى سوريا من تأثير الضغوطات الأميركية والأوروبية وقت شدائد امتحانات الممانعة. كما كان من نتائج ازدهار «أعمالها»، استفحال البطالة والفقر وزيادة الهوّة بين الفوارق الإجتماعية في الأرياف وهوامش المدن، إلى جانب استبداد السلطة وقمع الأجهزة الأمنية. ولا عجب والحالة هذه أن تبدأ الاحتجاجات من درعا ضد نفوذ المتسلطين على الأراضي في منطقة زراعية هي عماد السيادة الغذائية السورية من الحبوب. ولا عجب أيضاً أن تلحق بها الأرياف والهوامش السورية، فيما يراهن كبار تجار دمشق وحلب على استمرار شراكتهم مع أصحاب النفوذ في السلطة، بانتظار أن يقفزوا من القارب حين تشتد الاحتجاجات وتتجذّر الانتفاضة الشعبية، وحين تشتد ضغوط «المجتمع الدولي» لمحاصرة النظام.
وضغوطات «المجتمع الدولي» على النظام السوري قديمة ـ متجددة، للنيل من ممانعته ودعمه للمقاومة. لكن دول «المجتمع الدولي» ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والقانونية تنشغل في زمن الثورات العربية بهموم إيقاف مسار الثورات عن التوسّع في كل بلدان المنطقة. وتشنّ ضدها ثورات مضادة تسعى إلى تفريغ الثورات من مضمونها التحرري الوطني والاجتماعي والثقافي. وتسعى إلى تلغيم مسار الثورات إلى «إصلاحات هيكلية» هي عبارة عن نسخة أشدّ وطأة من إصلاحات منتصف السبعينيات. وفي هذا السياق تضغط دول «المجتمع الدولي» على النظام السوري لإجراء إصلاحات دستورية تتيح منافسة المعارضة على السلطة، متوخية قطع الطريق على مسار الثورات العربية. ومن جهته يسعى النظام إلى حصر الإصلاحات نفسها تقريباً في السلطة. لكن مسار الثورات العربية تجاوز أحلام دول «المجتمع الدولي» وتجاوز وعود السلطة في هذه الإصلاحات. فهو مسار ثورة من فوق أو ثورة من تحت، نحو دولة مستقلة عن الإلحاق والتبعية ومستقلة عن سيطرة السلطة على مؤسسات الدولة ومرافقها العامة. وما زال هذا المسار يتيح أمام النظام السوري فرصة تجديد نفسه في ثورة من فوق، تُجنّبه وتجنّب المنطقة بأسرها عُبور الثورات المضادة الخارجية والداخلية من «دفرسوار» الجبهة الشرقية. والأمر لا يحتاج إلى كل هذه الجهود الأمنية والعسكرية والإعلامية التي يحرّكها النظام لمواجهة «المؤامرات الخارجية» والداخلية. إنما يحتاج إلى إلتحاق أجنحة الممانعة في النظام، بمسار الثورات العربية والإعتماد على «الفئات المُغرّر بها» والفئات التي لم يُغرّر بها في مسار تجديد النظام، وفي مواجهة الثورات المضادة الداخلية والخارجية. فالثورة من فوق لا تتم في الغرف المغلقة ولا في إعداد التقارير والخطط العرقوبية، ولا حتى في الحوار مع المعارضة السياسية وغيرها. فهي تتم في ميدان المرجة وساحات التحرير حيث سلطة الشباب وبسطاء الناس نحو مشروع دولة لا مشروع سلطة. وحيث مآل الثورة في مواجهة الثورات المضادة الخارجية والداخلية مرهون باستمرار الضغط والمراقبة والاقتراح، كما هو ميدان التحرير في القاهرة وميدان القصبة في تونس. فالأهم من الإصلاحات نفسها هو أن يشارك الشباب وبسطاء الناس في صناعتها.
وهذه المسؤولية التاريخية هي في عمقها مسؤولية حماية مسار الثورات العربية من الثورات المضادة الخارجية والداخلية التي تسعى إلى العبور من «دفرسوار» الجبهة الشرقية. وهي مسؤولية تاريخية تقع على عاتق القوى الممانعة في النظام السوري من أجل توظيف ميادين التحرير في ثورة من فوق تتيح توسيع مسار الثورات العربية في لبنان وفي الأردن وفي العراق وفلسطين وربما أبعد. فسوريا هي بيضة القبان في إنجاز التحوّل على المدى الأقرب في كل هذه المنطقة، بينما ثقل الثورة في مصر حاسم استراتيجي على المدى الأبعد. وأعداء هذه المسؤولية التاريخية هم في أحشاء السلطة والأجهزة الأمنية وفي «الاقتصاد الاجتماعي» المرتبط بالسلطة وبسياسات «المجتمع الدولي». وهم أيضاً في اعلام السلطة، وفي النُخبة السياسية والثقافية التي تفتقد جرأة النقد البنّاء فتتملّق ممالئة. أما الأعداء الآخرون أينما كانوا في الداخل أم في «المجتمع الدولي»، لا يزنون مثقال ذرّة أمام ثورة من فوق رصيدها الممانعة وميادين التحرير.
الظروف ما زالت متاحة على الرغم من جرح عميق أصاب الشعب السوري البطل، إلاَ إذا بقي النظام مصراً على المكابرة في تقويض نفسه بنفسه. فمن سنن الخالق في خلقه أنه إذا أراد أن يخرب النَمل، يخلق لها أجنحة فتطير.
السفير