في البَطركيّة النسويّة/ منصف الوهايبي
هَيَّأْتُ نفسي لأن أتمدَّد
في تَخْت أمي، كما يفعل الطفل
حين يخاف أباه
محمود درويش
تعني البطريركيّة في أصولها اليونانيّة «حكم الأب» أو «سلطان الأب». وكان هشام شرابي ـ وأنا أفضّل نحته ـ قد استخدم «البطركيّة» بدل «البطريركيّة» كما في كتابه «البنية البطركيّة» المنشور في أواخر الثمانينات؛ وأقدّر أنّه فعل ذلك عن دراية بلطائف العربيّة، إذ تخيّر صيغة صرفيّة عربيّة مناسبة، وفضّله على «الأبويّة» و»النظام الأبوي» الذي سعى إلى تفكيكه؛ وكأنّه يفتّ سنبلة، دون أن يغفل مؤثّرات النقد النسوي التي ألمّت به؛ أكانت عربيّة أم غربيّة، ومؤثّرات الطفولة في مجتمع عربيّ لا سلطان فيه عادة إلاّ للأب الذي كان يمثل له في كلّ مراحل حياته، كما يقول، وبخاصّة في الطفولة التي ارتبطت لديه بالفردوس المفقود. وقد ذاع هذا المصطلح في العقود الماضية، في جلّ الدراسات الأنثروبولوجيّة والنسويّة.
وهي دراسات قد تتلاقى أكثر ممّا تتفارق كما قد يقع في الظنّ، إذ تعود بنا إلى عالم العشيرة أو القوم الرحّل؛ حيث سلطان الذكر الذي يزيح أو يقتل كلّ من يتهدّد سلطته أو ينافسه على ملكيّة الإناث. وهذا الأب «الأوّلي» لا يخضع لشيء؛ وإنّما هو يتجلّى في كامل قوّته أو قدرته، ولا قانون يحتكم إليه سوى متعته اللامحدودة الملغزة، أو الطريقة الرادعة التي يبسط بها سلطانه. والحقّ هو ليس أبا إلاّ في عالم الاستعارات، خاصّة أنّه يقع خارج أيّ نسب أو نسل. فهو مصدر نفسه أو أصل نفسه أو هو قانونه الخاصّ.
على أنّ هناك أنظمة أخرى عرفتها المجتمعات مثل «النظام الأمومي» أو ما أسميناه «البطريركيّة الأموميّة». ونحن العرب نظلم أنفسنا كثيرا، عندما نجزم بأنّنا جميعا ندين بـ»البطريركيّة الأبويّة»، وكأنّ المجتمعات الأخرى أو جلّها أموميّ» أو هي تقرّ بالمساواة التامّة بين المرأة والرجل. فقد أدانت سيمون دو بوفوار «الإيديولوجيا» المسيحيّة، وقالت إنّ مردّ القهر الاجتماعي الذي تعانيه المرأة الغربيّة، إلى هذه الإيديولوجيا. وفي أواخر القرن الماضي، رفعت حركة نساء اليوم الفرنسيّة شعارا مثيرا، ولكنّه سائغ أو مقبول في مجتمع لائكي: «هل يخشى الله المرأة؟». وكثير من السؤال جواب، فهذا الشعار، إدانة لا تخفى، لرؤية مسيحيّة للمرأة. وبيّنت ماري دالي في كلامها على اللغة الواصفة أو «الكلام على الكلام»؛ في الكتب الدينيّة المقدّسة، كيف أنّ الخطاب الديني هو مسند أبدا إلى ذكر أو مذكّر، وموجّه إلى مخاطب ذكر. وخلصت إلى القول: «إذا كان الله ذكرا، فعندئذ سوف يكون كلّ ذكر إلها». ولا يتّسع المجال هنا للخوض في قضايا التأنيث والتذكير، والمؤنّث اللفظي الذي تسمه علامات التأنيث أي التاء المربوطة والألف المقصورة والألف الممدودة، والمؤنّث المعنوي الذي يخلو منها؛ وما هو حقيقي وما هو مجازي أو أنّ التذكير هو الأصل في الأسماء، والتأنيث هو الفرع؛ فهذا مبحث قائم بذاته. وإنّما أثبت ما ذكرته التونسيّة إقبال الغربي من أنّ العلاقة بين المرأة اتّسمت في الديانات التوحيديّة، بنوع من التوتّر، وأنّ جلّ المقاربات النسويّة تذهب إلى أنّ الفكر الديني ـ وهو ليس الدين ـ معادٍ في جوهره للمرأة.
وفي هذا السياق الحضاري الملتبس، قد يجد المصطلح الذي وسمنا به هذا المقترب، مسوّغا له، بالرغم من أنّ «البطريركيّة النسويّة» نوع من «الأوكسيمور» أو «الضديد» كما نترجمه في تونس، وإن كنت أجد له مقابلا أوْفَى دلالة، عند حازم القرطاجنّي؛ هو «الاختلاق الامتناعي» أي ما يجمع بين ضديديْن، يمكن تصوّرهما، ولكن دون أن ينهض لهما سند في الأعيان أو في الواقع. والحقّ أنّ المصطلح الذائع في العقود الأخيرة هو «الإسلام النسوي» أو «النسويّة الإسلاميّة» وهو مصطلح تركيّ النشأة على ما يرجّح الدارسون، وحجّتهم كتاب نوليفر غول «الحداثة المحظورة» (1999) إذ هي أوّل من استخدمه. وكان من الطبيعيّ أن يعترض عليه كثيرون لا يجدون أيّ مسوّغ للربط بين الإسلام والحركات النسويّة؛ فلكلّ منهما سياقه المخصوص ومرجعيّاته. بل هي «نسويّات إسلاميّة» تطرح من القضايا والإشكالات أكثر ممّا تقدّم من الحلول؛ وتختلف كما تقول إقبال الغربي باختلاف السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
ولكن لا خلاف في أنّ أكثر المضطلِعات بهذه «النسويّة الإسلاميّة» أكاديميّات «علمانيّات»، يطرحن هذا الخطاب «للإحالة على البدائل الإسلاميّة للحركات النسويّة الغربيّة»، وبعضهنّ يرى أنّ الإسلام طريق سالك لبلوغ المساواة بين الجنسين. ويمكن أن نذكر منهنّ فاطمة المرنيسي في «الحريم السياسي» و «ما وراء الحجاب»، وهي تستخدم المصطلح «بطريركيّة» بمعنى «أبوّة»؛ وتسلّم به في صيغة تنمّ عن «تعميم» ما، لا يأخذ بالحسبان حجب الزمان والمكان، أو هي تأخذ بقوانين كليّة، أو هي تعنى بالقيمة في ذاتها ولذاتها، وتراعي المعادلة الصعبة بين الخاصّ والعام. ولعلّه ثمرة إحساسها وتفكيرها، وليس من حقّنا أن نطالبها بعرض الأنساق في تراتبها الزمني؛ وهي التي تكتب تاريخ الحريم، بوعي تاريخيّ حادّ أعني وعي المستقبل؛ أو الاتجاه الذي يتّجهه التاريخ. وكتابة التاريخ قد لا تجري إلاّ على هذه الوتيرة حيث ينطوي الاتجاه على رغبة في التغيير. وربّما يتجلّى هذا في قراءتها الذكيّة لبعض الأحاديث النبويّة التي تمنع في الظاهر تولّي المرأة الولايات العامّة، أو مشاركة المرأة في العمل السياسي أو الشأن العام، بعبارتنا اليوم. والمقصود هنا الحديث الذي رواه الصحابي أبو بكرة الثقفي (ت.51 هـ)، عن النبي لمّا بلغه أنّ أهل فارس ولّوا أمرهم بنت كسرى. وهو عند البخاري «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة»، وفي مسند أحمد «لن يفلح قوم تملكهم امرأة». ولم يروه سواه. والمرنيسي لا تقبل بهذه الرواية، وتسوق حجّة منع الخليفة عمر شهادة أبي بكرة في شبهة زنى أو قضيّة زنى أبي المغيرة، وحرصه على بناء الأسرة الإسلاميّة من منظور بطريركي؛ وتعتبر ذلك ضربا من التحديث.
تتلبّس صورة المرأة أو الأنثى عامّة، في تراثنا، وفي تراث شعوب أخرى كثيرة، بلبُوس لغة الاستعارة فهي تحطّ من شأن المرأة على قدر ما تُعلي منها؛ وتنتقم للجسد الغائب أو المستلب في البنى والعلائق الاجتماعيّة ـ الثقافيّة السائدة، فتضخّمه وترفعه إلى مستوى الألوهيّة. وقد يحمل ذلك على أنّه صقل للذات النسويّة وإعادة اعتبار للشخصيّة الفرديّة المطموسة حيث لا سلطة إلاّ سلطة الذكر، أو على أنّ في فكّ العلائق الاجتماعيّة؛ إقرارا بالحريّة الفرديّة وبسلطة المثل الأعلى. وإذا كان ثمة اعتراض وجيه على هذه الصورة، فمردّه إلى مظاهر التضخيم التي كثيرا ما تتخذ طابعا سحريّا، وفي القول بانقلاب الأعيان بدل نمائها وتطورها. ولكنّ هذا الاعتراض ينبغي أن لا يحجب تلك المظاهر الايجابيّة في الصوفيّة. فالصوفيّة هي التي احتفت بالأنثى الكونيّة الخالقة، وأحلّت المرأة محلاّ كبيرا في مدارج الترقّي، فساوتها بالرجل، بل جعلتها متفوّقة عليه.
يقول ابن عربي في فتوحاته المكيّة: «إنّ الإنسان ابن أمّه حقيقة والروح ابن طبيعة بدنه، وهي أمّه التي أرضعته ونشأ في بطنها وتغذّى بدمها، وإنّ من وفّقه الله ولزم عبوديّته؛ رجّح جانب أمّه، لأنّها أحقّ به لظهور نشأته ووجود عينه؛ فهو لأبيه ابن فراش، وهو ابن لأمّه حقيقة». ويقول جلال الدين الرومي: «شعاع هي المرأة من النور الأقدس». ويقول الحلاّج عبارته الملغزة التي لا يقدر على فكّ سرّها إلاّ الصوفيّة أمثاله: «لقد ولدت أمّي أباها»، مشيرا إلى أنّ الأمّ من حيث هي وجوده الأبدي اللانهائي الكامن في الوجود.
إنّ صورة الأنثى الكونيّة الخالقة ليست معزولة عن طابع النزوع إلى التوحّد بالذات الإلهيّة. هذا النزوع الذي عبّر عنه ابن عربي بالحنين الذي يصل بين أطراف ثلاثة هي الذات الإلهيّة والمرأة والرجل. وهو حنين متبادل؛ فالرجل يحنّ إلى ربّه لأنّه أصله، والربّ يحنّ إلى الرجل لأنّه المرآة التي يتأمّل فيها صورته، والرجل يحنّ إلى المرأة حنين الكلّ إلى جزئه؛ فالمرأة هي المرآة التي تتجلّى فيها صورته؛ والمرأة تحنّ إلى الرجل حنين الجزء إلى الكلّ. وتتمازج هذه الأطراف الثلاثة في ذات واحدة هي الذات المعشوقة من حيث هي مدار الوحدة والاكتمال الأسمى. وفي هذه الوحدة تحظى المرأة بمكانة متميّزة فهي كما يقول الكاشاني جزء من الرجل؛ وكلّ جزء دليل على أصله؛ فالمرأة دليل على الرجل، والدليل مقدّم على المدلول. ويعزز ابن عربي هذه الصورة فيقول «إن الرجل آدم» موضوع بين أنثييْن: بين ذات الحقّ التي صدر عنها، وحوّاء التي صدرت عنه. فآدم لا يخلق إذ هو العقل الأوّل في هذا المنظور الصوفي، في حين أن المرأة حوّاء هي النفس الكليّة التي خلقت العالم.
كاتب تونسي
القدس العربي