في التبرّؤ الطائفي من الثورة السورية
عمر قدور
لم تواجه ثورة من ثورات الربيع العربي ما واجهته الثورة السورية من وضع طائفي شائك تم استثماره على أسوأ وجه من أجل الطعن بها. ولعل هذا الوضع الذي كرسه النظام طويلاً، كان من أهم أسباب “اطمئنانه” الداخلي، فضلاً عن ثقته بحلفاء خارجيين سيواصلون دعمهم له على أسس عقائدية. هكذا قد تبدو القسمة نهائية بين أنصار الثورة وأعدائها، إذ ليس من المتوقع حدوث تحولات جذرية في الاصطفافات، ما دامت مبنية في جزء معتبر منها على قناعات طائفية غير قابلة للزحزحة، أقله في المدى المنظور. هذا لا يعني إطلاقاً استحالة الانتقال من معسكر النظام إلى جانب الثورة، بقدر ما يعني ملاحظة الديناميات التي تعيق الانتقال، والتي يجدر ملاحظتها ضمن كل كتلة طائفية على انفراد، إذ تكفلت هذه الآليات بمؤازرة النظام، فحاولت كبح جماح أولئك المتعطشين للثورة من شبابها؛ أولئك الذين باتوا بحكم “صعاليك” الطائفة!
منذ البداية دأب النظام على تصوير الثورة كمؤامرة سنيّة تبتغي الهيمنة على الطوائف الأخرى وإقصاءها، وتبتغي على نحو خاص الانتقام من الطائفة العلوية. ولكي ينجح في ترسيخ هذه الصورة كان لزاماً عليه مواجهة الثائرين من الطوائف الأخرى بأساليب أكثر خبثاً من القمع الوحشي المباشر الذي يُمارس على أقرانهم. إن وصف “حامي الأقليات”، الذي نسبه أنصار النظام إليه كان بحاجة إلى ضلوع ما يُسمى الأقليات فيه، سواء أكان عبر الاكتفاء بالصمت الذي يعني الموافقة أو عبر قيامها باستنفار أشد العصبيات الاجتماعية تخلفاً من أجل السيطرة على أبنائها ودعم رواية النظام. وبالتأكيد، يدرك الأخير جيداً المقدار المتفاوت من الضغط الذي تستطيع كل طائفة ممارسته، وعلى ذلك يختلف الدعم المستهدف من كل منها، وتتباين الوسائل التي يتم بها إظهار الدعم.
قد تكون المفارقة أن النظام الذي يستقوي خصوصاً بأبناء الطائفة العلوية يستشعر الخطر على نحو خاص من هذه الطائفة، إذ من المؤكد أن انخراط نسبة بارزة منها في الثورة سيعني سقوطه عاجلاً، وليس مستغرباً أن يُوجّه جزء أساسي من دعاية الإعلام الرسمي وشبه الرسمي لاستلابها وإثارة المخاوف الوجودية لدى أفرادها. لقد خاض النظام معركة مديدة من أجل احتكار تمثيل الطائفة، في الوقت الذي كان يدعي فيه تمثيل الوطن. وفي الواقع، تمكّن من تهميش بعض الزعامات التقليدية ومن ترويض بعضها الآخر الذي ارتضى المشاركة بفتات السلطة، ذلك فضلاً عن إفساد ما تيسر له من أبناء الطائفة عبر الرشاوى الصغيرة، مستغلاً حال الحرمان والشظف التي عانى منها الريف السوري على اختلاف الطوائف المنتمية إليه. بدءاً من انقلاب عام 1970 لم يتهاون النظام قط مع أي منافسة له ضمن الطائفة العلوية، بل إن ظاهرة الشبيحة كانت بدايةً بمثابة استعراض فظ لمدى سيطرته عليها، التي أعقبت الانتصار على الأخوان المسلمين. ومن المعلوم أن أبناء الطائفة هم أول من قاسى بطش الشبيحة وتحللهم من كافة القيم، أي أنهم دفعوا فوراً فاتورة باهظة مقابل الانتصار الذي يُفترض أن ينعموا به، وهذا ما يُتوقع أن يحدث على نحو أدهى وأمرّ فيما لو قُيّضت أدنى فرصة ليكسب النظام معركته الحالية.
مع سيطرته على الطائفة العلوية واحتكار تمثيلها أخذت متوالية السيطرة بالتوسع ضمن الطائفة لتطرد كل تمايز. وعلى العكس من مرحلة سبعينيات القرن الماضي، التي شهدت تنوعاً ومعارضة خلّفت آلاف المعتقلين من أبناء الطائفة فإنه بدءاً من منتصف الثمانينيات استتب الأمر للشبيحة كي ينكّلوا بالمارقين، من دون أدنى رادع أخلاقي أو اجتماعي. من الناحية السياسية تم إفقار الطائفة بنجاح ساحق، جنباً إلى جنب مع محاولة تغريبها الشامل عن المجتمع السوري ككل، وأتت ثمار تلك المرحلة لتعلن جلياً تبرؤَ الطائفة من الثورة منذ بدايتها، بل التبرؤ من فكرة الثورة بالمطلق. هي نكسة بالمعنى الكلي للكلمة أن تُجرَّد طائفة من دورها الوطني، وأن تقف على الضد من حركة التاريخ، بخاصة بعد المشاركة الحثيثة التي ميزت أبناء الطائفة من قبل، وبعد الانفتاح الذي عُرفوا به قياساً إلى البيئات الاجتماعية المحافظة.
أن يظهر على وسائل الإعلام الموالية أشخاصٌ من أسرة ليتبرأوا من شقيقاتهم أو أشقائهم، وحتى أن تظهر أم لتتبرأ من ابنها، هذه الظاهرة لم تشهدها سوريا في أشد العصور حلكة، فقد اقتصرت سابقاً على تبرؤ بعض العائلات من أبنائها إن ارتكبوا فعلاً مشيناً بالمعنى الأخلاقي. أما في السياسة، فقد كان من المعتاد أن تشهد الأسرة السورية تنوعاً في الميول والمشارب. تكتمل اللعبة القذرة في دفع عائلات علوية حصراً لإعلان تبرؤها من أبنائها على خلفية مشاركتهم بالثورة، لا لأن النظام عاجز عن الضغط على عائلات من ألوان طائفية مغايرة لتفعل ذلك بل لأنه يستهدف هذه الطائفة تحديداً ويريد تكريس وضعها على الجانب المقابل لعموم السوريين. وحتى إن أخذنا بالحسبان العائلات التي اندفعت إلى التبرؤ من بناتها أو أبنائها بلا أي ضغط مباشر من السلطة ليس بوسعنا القول إنها تصرفت بملء إرادتها. فمن المعلوم أن سيطرة النظام توالت حتى الحلقات الأدنى اجتماعياً، لتكتسب طابعاً مركباً على الصعيدين الاجتماعي والطائفي؛ الأمر يغدو شبيهاً بأن ترتكب أسرة ما يُسمى “جريمة شرف” لتتبرأ مما يُعتقد في وسطها الاجتماعي أنه عار كبير.
في الدلالات العميقة، فإن أسوأ ما فعله النظام بالطائفة العلوية هو الانحدار بها لتتخذ شكل الطائفة وتظهر بشكل متماسك يتبرأ من شبهة التنوع. وفي المؤدى الحقيقي النزول بالطائفة المعروفة بالتحرر الاجتماعي لتصبح أقل من غيرها حرية. فالحرية لا تتوقف عند المظاهر الاجتماعية من لباس وغيره، بل تتعين بمقدار حرية كل فرد واختياره لقراراته بملء إرادته. وأن تتبرأ كتلة اجتماعية من خيار سياسي فهذا يعني أولاً إنكار حرية كل فرد منها، ويعني تالياً وجود هيمنة مطلقة ضمنها بحيث تستطيع الفئة المهيمنة عليها تحديد المسار الذي تريد واستلاب السواد الأعظم تحت أوهام مختلفة، منها وهم المشاركة في الهيمنة.
استكمالاً للعبة القذرة، تحاشى النظام استخدام العنف المفرط مع الثائرين من أبناء الطائفة، محققاً بذلك غايات عديدة منها عدم تسليط الضوء على مشاركتهم بالثورة، ومنها أيضاً محاولة زرع الفرقة بينهم وبين أقرانهم، الذين تعرضوا لمستوى أعلى من العنف. لكن المحك الفعلي هو فيما لو تزايدت نسبة هؤلاء الناشطين وبات من الصعب السيطرة عليها اجتماعياً. أغلب الظن أن النظام لن يميز حينها بين طائفة وأخرى، لأن المقايضة الحالية تقوم أساساً على تقاسم الدور الأمني، وعندما تفشل الآليات الاجتماعية والطائفية في تنفيذ المهمة الموكلة إليها، فمن المتوقع أن يلجأ إلى التعويض عنها بالأسلوب الأمني المعهود.
قد يكتشف العلويون في وقت قريب، أن ابتلاءهم بهذا النوع من السلطة هو أكبر مصيبة حاقت بهم في العصر الحديث، فالديكتاتورية التي تدّعي حماية طائفة لا تفعل في الواقع سوى الاحتماء بها، ونسب سيئات الديكتاتورية إليها، هذا فضلاً عن إفساد الطائفة ذاتها بفكرة السلطة. أما الأسوأ، فهو أن يضطرنا النظام إلى استخدام هذه التوصيفات في الحقل السياسي، فمن المرجح أن العلويين لن يكونوا طائفة سياسية بمعزل عنه وعن إعاقته لهم، وحتى في الظروف الحالية قد لا يطول الأمر كثيراً لتبدأ الكتلة الخائفة منهم بإعلان تبرؤها من ممارسات النظام، أما بخصوص الكتلة المؤيدة فإن الدواعي الوطنية والأخلاقية والإنسانية تدفع إلى التمسك بأمل أن تقرر التخلي عن نظام، لا يفعل شيئاً سوى تقديمها قرباناً له.
المستقبل