في السؤال عن صعود الجماعات الجهادية…/ ماجد كيالي
منذ بروز «التنظيمات الجهادية» المسلحة في المشهد السوري، المحسوبة على جماعة «القاعدة» وأخواتها، باتت ثورة السوريين، بعد عامها الأول، في وضع مختلف في طبيعتها ومظاهرها ومقولاتها السياسية. ومعلوم أن هذه الجماعات ليس فقط لا تقبل الانضواء في أي من أطر الثورة، السياسية أو العسكرية، وإنما هي، من الأصل، لا تحسب حالها على هذه الثورة، إذ إن أجندتها تفيض عن الوطن والشعب السوريين، وحتى إذا كان ثمة بينها من يحسب حاله على الجهد الرامي لإسقاط النظام، فإنه يميّز نفسه بادعاء مقاصد أخرى، لا علاقة لها بطلب السوريين على الحرية والكرامة والمساواة التي تضمّنتها الوثائق التأسيسية للمجلس الوطني ثم للائتلاف الوطني، وحتى «وثيقة العهد والميثاق» التي أصدرتها جماعة «الإخوان» (آذار/ مارس 2012).
والحال فقد استطاعت هذه الجماعات أخذ الثورة السورية نحو تغليب العسكرة، وتبني خطط عسكرية غير مدروسة، بما يفوق قدرة السوريين، أو البيئات الشعبية الحاضنة للثورة، على التحمّل، وبما يرضي أهواء الموظّفين أو المموّلين. وإلى هذا وذاك فهذه الجماعات حاولت طبع الثورة بطابعها «الديني» والطائفي المتشدّد، والغريب عن طبيعة المجتمع السوري، بوسائل القسر والإرغام وليس بالرضا والإقناع، وبواقع هيمنتها العسكرية والقمعية وليس بسبب النموذج الذي حاولته في المناطق «المحرّرة».
في المحصلة، أثقلت هذه الجماعات على السوريين كثيراً، إذ غيّرت صورة ثورتهم إزاء العالم، وإزاء أنفسهم، وبدت بمثابة عامل تفتيت في المجتمع، لا عامل إجماع فيه، وعامل هدم لا عامل بناء، وعامل نكوص لا عامل تقدم، بحيث إن النظام استثمر فيها، وليس فقط في «داعش»، إن باختراقاته لها أو من دون ذلك.
المشكلة الأساسية في منشأ هذه الجماعات أنها حقاً بمثابة نبت غريب عن البيئة الشعبية السورية، في الفكر والبنية والإمكانات، بدليل أن معظم قادة هذه الجماعات من المقاتلين العرب والأجانب، وهذا يشمل الأفراد الذين يشكّلون الحلقات الصلبة فيها. فحتى أبو محمد الجولاني، مثلاً، لا أحد يعرف من هو على وجه التحديد. طبعاً، هذا لا ينفي أنه بات ثمة سوريون في هذه الجماعة أو تلك، لكن وجود هؤلاء ليس أصيلاً، وإنما هو لاحق لوجود هذه الجماعات. وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى ما باتت تختبره البيئات الشعبية السورية الخاضعة للنظام، أو الخاضعة لهيمنة هذه الجماعات المسلحة.
ليس القصد من هذا الكلام التقليل من أهمية أو خطورة هذه الجماعات، وإنما الغرض وضع الأمور في نصابها الطبيعي، من دون مبالغات أيضاً. فمع التقدير الكبير للباحثين المتبحّرين في أصول منظمة «القاعدة» وتاريخها، وأخواتها كـ «داعش» و «النصرة»، وتطور فكرها، الفقهي أو السياسي، فمن السذاجة بمكان اختزال القضية على هذا النحو. ومعلوم أن تنظيم «القاعدة» نفسه لم يتأسّس على الفكر فقط، وإنما قام ونما وتوسع بفضل تدفق تمويلات مالية وإمدادات تسلح وتسهيلات استخباراتية ودولتية هائلة. ثم إن «القاعدة» لم يعد هو ذاته إذ بات «قواعد»، تبعاً لجهات التمويل والتوظيف والإسناد.
هكذا، إذا كان يحق لنا أن نتساءل ما إذا كان بإمكان «القاعدة» (أو «طالبان») أن يفرض حاله في المشهد الأفغاني، بمعزل عن صراعات الحرب الباردة، وعن دعم الدول العربية النفطية والولايات المتحدة وتسهيلاتها، فإنه يحق لنا أن نتساءل، بالمثل، عن إمكان بروز الجماعات الجهادية في المشهد السوري من دون الدعم والتسهيل من دول عربية وإقليمية، ما يفرض علينا أن نبحث في أجندة الدول وأدراج مكاتب استخباراتها قبل البحث في الكتب و «الفتاوى» والمساجد.
على ذلك ربما كان الأجدى التأنّي كثيراً في شأن إحالة ظهور الجماعات الجهادية إلى البيئات الشعبية في سورية، المعروفة بتديّنها المعتدل، أي غير السياسي، أو إلى الحركات الإسلامية العاملة فيها، سواء في المدن أو في الأرياف، لأن هذه لم تنتج جماعات وازنة في هذا الاتجاه، وبالأخص على هذا المقدار الذي نراه من الفاعلية والنفوذ، وفي هذا المدى الزمني القصير.
ولعل من المفيد أن نتذكّر، في هذا السياق، أن هذه الجماعات لم تظهر إلا بعد اندلاع ثورة السوريين بأشهر عدة، وأنها لم تنشط ولم تنمُ إلى هذه الدرجة، إلا في المناطق «المحررة». بل إن هذه الجماعات، فوق ما تقدم، لم تظهر بصفتها صاحبة نظرية في الإسلام، أو في السياسة، ولم تكشف عن وجود منظرين بين ظهرانيها، مثلاً، أو عن أدبيات تبين فيها آراءها الفقهية ومحاجّاتها النظرية مع الفرق الإسلامية الأخرى. لذا، فإن القضية لا علاقة لها باطلاع الإسلاميين السوريين، الجهاديين أو غير الجهاديين، على كتب ابن تيمية، أو أبو الأعلى المودودي أو سيد قطب، وتفسير هذه الظاهرة على هذا الأساس لا علاقة له بالواقع، على الأرجح، بمقدار علاقته باستنتاجات بعض المثقفين والباحثين فقط، بدليل أن الأطروحات النظرية والممارسات العملية لهذه الجماعات على الأرض، وفي المجتمع، تنمّ عن سذاجة وتهور، كما عن جهل ومزاجية، أكثر من أي شيء آخر.
وباختصار، فهذه الجماعات لم تظهر قط باعتبارها نتاجاً للمجادلات، أو للحراكات الفكرية والسياسية في إطار الجماعات الإسلامية في سورية، أو كتعبير عن التديّن الريفي أو عن ترييف الدين، لأن المسألة ليست على هذا النحو، لا بالنسبة للريف ولا بالنسبة للظاهرة ذاتها. فالريف في سورية أرياف تبعاً لتنوع المجتمع، وإذا استثنينا الشرق والشمال الشرقي، فإن الأرياف أشبه بمدن صغرى، بمقدار ما أن المدن بمثابة أرياف كبيرة، لكن مع شبكات طرق وكتل معمارية إسمنتية، ومظاهر مدنية استهلاكية وخدمية. وهذا من دون نفي وجود سلفية في سورية، هي في غالبيتها السائدة مجرد سلفية دعوية ومعتدلة.
وعلى أية حال فالقول بغربة الجماعات الجهادية، واعتبارها جماعات مصطنعة، لا يعني الاستخفاف بما تحدثه من تغييرات في إدراكات السوريين، وفي طبيعة ثورتهم. فالظواهر المصطنعة يمكن أن تعيد إنتاج ذاتها في الواقع الذي تعمل فيه، بحيث تصبح جزءاً منه، يكيّفها وتكيّفه معها، ما يمكن ملاحظته، مثلاً، في انكفاء «الإخوان»، والجماعات الإسلامية الأخرى، لمصلحة صعود جماعات السلفية الجهادية، وفي محاولة تكيّف بعض البيئات الشعبية معها.
* كاتب فلسطيني – سوري
الحياة