في المسؤولية عن مقتل الكرديات في باريس
رستم محمود *
في وقت استثنائي، وقعت حادثة اغتيال الناشطات الكرديات الثلاث في العاصمة الفرنسية باريس. حيث للمرة الأولى، تجرى مداولات شفافة وصادقة، بين أطراف سياسية كردية فاعلة في تركيا، ومؤسسات ذات قرار في الدولة التركية، وبقبول سياسي وشعبي عمومي، مداولات ربما تضع حداً للتصارع المديد والأليم؛ الذي خيم على ذلك البلد منذ قرابة ثلث قرن، وتأتي عملية الاغتيال الجماعي هذه، لتضيف تعكيراً بالغاً على هذه المداولات، سياسياً وشعبياً، وتشنج أجواء الثقة المتبادلة بين جميع الأطراف.
تحيط بالحادثة أربع فرضيات منطقية، محددة وموجزة لهوية الأطراف، التي يمكن أن تكون قد قامت بهذا الفعل، في هذه الظروف.
احتمال أول بالغ الضحالة، يذهب لإمكانية أن تكون الحادثة جنائية شخصية، تستقصد إحدى الضحايا الثلاث، وهو تصور لا يستحوذ على حد معقول من الإمكانية. فالشخصيات الثلاث ناشطات في الشأن العام، السياسي الثقافي، ولا يرتبطن بأية علاقات مالية بأحد، ولم يعرف لهن أية مشاحنات شخصية مع أحد، بحسب مقربين منهن. كما أن طريقة تنفيذ العملية – طلقة واحدة في الرأس- لا تشير إلى فعل انتقامي شخصي ذاتي، وهو شكل يوحي بتنفيذ قرار حكم بالإعدام عليهن، أو على واحدة منهن على الأقل. كما أن مسرح الجريمة عام للغاية – المعهد الكردي في باريس- وهو شرط موحي بأن الفاعل يستقصد إيصال رسائل عمومية، غير شخصية، عبر رمزية المكان. فأماكن الإقامة الشخصية للضحايا، ربما كان مسرحاً أقل خطورة ومغامرة بالنسبة للفاعل، إن كانت القضية شخصية، لكنه فضل مكاناً عاماً ومزدحماً ومراقباً بدقة، لتحديد مراميه ما فوق الشخصية من هذه العملية.
من طرف آخر، فأن فرضية أن يكون الحدث تصفية حسابات ضمن أجنحة حزب العمال الكردستاني لا تستحوذ على نسبة معقولة. فالضحية المقصودة في هذه الحالة، سكينة جانسيز (55 سنة) أحدى مؤسسات الحزب المذكور، لم يُعرف عنها موقعها البارز ضمن صف القيادات الأولى في الحزب المذكور، وبالضبط لم تكن صاحبة توجه ورؤية خصوصية ضمن الرؤى المختلفة في الحزب، وهو الشرط المنطقي الذي يحيط بعمليات تصفية الحسابات في الأحزاب عادة. كما أن بوادر اختلافات حادة بين أجنحة الحزب لم تظهر بعد، من عملية المداولات السياسية الأخيرة. فرمزية التفاوض مع شخص اوجلان بالذات، ربما تفوق أي اعتبار انقسامي تصارعي ضمن الحزب، خصوصاً أن الغالبية المطلقة من الأطراف الفاعلة ضمن حزب العمال الكردستاني، لا تأخذ عملية التفاوض بجدية بالغة حتى الآن، فهي لا تثق بالوعود والإشارات الصادرة من الدولة التركية بسهولة، بسبب التاريخ المديد لفشل مثل هذه المداولات، بين أطراف من الحزب مع الدولة التركية.
يبقى احتمالان بارزان، يمكن أن يحددا هوية الفاعل في هذه العملية.
فأما أن تكون تنظيمات قومية تركيا متعصبة، قد تورطت في العملية، كتنظيمات «الذئاب الغبر» الراديكالية، لتعكر جو تلك المداولات السياسية التي تستحوذ على قبول شعبي تركي عال، لأول مرة في تاريخ الدولة التركية الحديثة. خصوصاً، أن أحد التيارات القومية التركية التقليدية غير المتعصبة، تعبر عن تأييدها لمثل هذه المفاوضات. فحزب الشعب الجمهوري، والذي يستحوذ على ما يقارب الثلث من مقاعد البرلمان التركي، ويعتبر التيار التاريخي المعبر عن التوجهات الأتاتوركية،عبر في أكثر من مناسبة عن رضاه عن مثل هذه العملية، والتي قد تفضي إلى تأسيس سلام تاريخي في تركيا. وكان رئيس الحزب كمال كليجدار أوغلو قد عبر منذ أيام عن ذلك، قائلاً: «إن هذه العملية تستحوذ على قبول شعبي، فحزبنا مع حزب العدالة والتنمية يسيطر على 75 في المئة من أعضاء البرلمان، وعلى وزن جماهيري كاسح، ويمكن أن يشكلا معاً ضمانة لتمرير أي اتفاق». هذه التوجه يقلق للغاية التيارات القومية التركية الراديكالية، المنبثقة فكرياً من حزب الحركة القومية، الذي يكتشف نفسه وحيداً في مقارعة هذا التوجه السياسي الحديث، الذي قد يغير وجه وهوية الدولة التركية، وينحيه جانباً من كل المستقبل التركي. لذا فأن هذا الحزب يعتبر عملية القضاء على هذه التوجهات منذ المنبت شيء بالغ الضرورة.
الفرضية الرابعة والأخيرة، تذهب للتشكيك بأطراف إقليمية يهمها عدم الوئام والتصالح بين حزب العمال الكردستاني وتركيا، حيث تعتبر تلك الأطراف هذا الحزب من أهم أدواتها وأوراقها في المواجهة المفتوحة مع تركيا، وعملية السلام هذه لو تمت، فأنها سوف تقلب جل معادلة توازنها الإقليمي مع تركيا. تقف أجهزة الاستخبارات الإيرانية في مقدمة تلك الأطراف الإقليمية. خصوصاً أن هذا الجهاز له تاريخ في ممارسة مثل تلك العمليات ضد الناشطين الأكراد في أوروبا، منذ عملية اغتيال الدكتور عبد الرحمن قاسملو رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني، في العاصمة النمسوية عام 1989، مع اثنين من رفاقه، ومن ثم اغتيال السكرتير الآخر للحزب صادق شرفكندي في برلين عام 1992. فسلوك التنفيذ يوحي بتشابه بالغ بين ظروف العمليات الثلاث. فالسياسة الأمنية الإقليمية لإيران ستواجه حرجاً بالغاً؛ لو وصلت المحادثات التركية الكردية لأية نتيجة، وهي ضربة قاصمة ستضاف إلى خسارتها السورية.
على أبواب إغلاق ملف الصراع الأليم الذي شغل كل مواطني تركيا لثلث قرن كئيب، فأن النهايات إن قاربت، لا تبدو معبدة بالآمال فحسب، لذا فأن هذه العملية تتطلب شخصيات بحساسيات خاصة، يملكون قدراً كافياً من طاقة العبور والتحلي بالصبر، ومن كل الأطراف.
* كاتب سوري
الحياة