في بيتنا ليبرمان!/ صبحي حديدي
من قلب مستوطنة إسرائيلية في الجولان السوري المحتل، ولأنّ مناخ الانتخابات البلدية يقتضي قسطاً من التشويق الدرامي، كُشف النقاب عن فصل جديد في المسلسل، العتيق، الخاصّ بجولات التفاوض السرّية بين النظام السوري وإسرائيل. صاحب الكشف الأحدث كان أفيغادور ليبرمان، زعيم حزب ‘إسرائيل بيتنا’، وزير الخارجية السابق، ونائب رئيس الوزراء حتى أواخر 2012، تاريخ اضطراره إلى الاستقالة بسبب قضايا فساد وإساءة ثقة. وأمّا الكشف فهو أنّ النظام السوري كان على وشك توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، بوساطة أمريكية مباشرة (تولاها الدبلوماسي الأمريكي المخضرم فردريك هوف، الذي تواصل مع بشار الأسد مباشرة)؛ وتحمّس لها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وشاركه الحماس إيهود باراك وزير الدفاع آنذاك، واعترض عليها ليبرمان نفسه (ولهذا يفضح أسرارها اليوم!).
عنصران لافتان يتقاطعان في هذه الحكاية، رغم أنهما يتكاملان تماماً في تعزيز السمات الكلاسيكية لسلوك النظام السوري إزاء ملفّ التفاوض السرّي مع إسرائيل، سواء في عهد الأسد الابن، أو على امتداد ثلاثة عقود من حكم أبيه: أنّ الجهة الوسيطة لم تكن واحدة، أمريكية في هذه الحال، بل متعددة (تركيا بصفة خاصة)؛ وأنّ الخطاب الرسمي للنظام، أسوة بخطابات حلفائه وأنصاره في ‘محور الممانعة’، كان يواصل الضجيج والعجيج حول ‘الصمود’ و’التصدّي’ و’المقاومة’… إلى هذَيْن العنصرَيْن، فضح ليبرمان عنصراً ثالثاً لعله الأكثر دراماتيكية: أنّ انتفاضات ‘الربيع العربي’ عموماً، والانتفاضة السورية خصوصاً، هي التي أربكت مشروع الوساطة الأمريكية، قبل أن تتسبب في وأده تماماً، وإغلاقه: ليس إلى إشعار آخر، بل إلى أجل طويل غير مسمّى، لأنّ أيّ أجل صار مرتبطاً بمصير النظام السوري ذاته.
لم يكن مدهشاً، والحال هذه، أن تشهد الأسابيع الأولى من الانتفاضة السورية تلك التذكرة الصريحة من رامي مخلوف، ابن خال الأسد، وتمساح المال والأعمال، وصيرفي النظام: أنّ الارتباط وثيق بين أمن ‘الحركة التصحيحية’ وأمن إسرائيل؛ وأنه هكذا كان على الدوام، في المنعطفات الكبرى والصغرى، وهكذا يتوجب أن يظلّ اليوم تحديداً، حين تصبح منجاة النظام على المحك. وقبلها في مناسبة ذات مغزى، أجرى ماهر الأسد، العمود الثاني في البيت الأسدي، مفاوضات سرّية مع إيتان بن تسور، المدير العام الأسبق لوزارة الخارجية الإسرائيلية؛ في العاصمة الأردنية عمّان، أواسط 2003. وكان اختيار الشقيق لهذه المهمة غريباً من حيث الشكل، بالنظر إلى أنّ خبرته في السياسة، فكيف بالتفاوض الشاقّ المعقد، ليست ضعيفة فحسب، بل محدودة تماماً، وأقرب إلى الدرجة صفر. أمّا من حيث المحتوى فقد كان اختياره يقول ببساطة: نحن نتفاوض على بيت السلطة أوّلاً، وعلى نظامها ثانياً؛ وليست سورية، الدولة أو الجيش أو حزب البعث… إلا عناصر ديكور، مكمِّلة في أفضل تقدير!
مناسبة أخرى، ذات سمة دراماتيكية بدورها، وقعت أواخر العام 1999، في حياة الأسد الأب، حين كانت أكثر من نار هادئة، في واشنطن ودمشق والقدس المحتلة، تطبخ المسوّدات والخرائط الضرورية، قبيل التوصّل إلى اتفاقية سلام بين إسرائيل والنظام السوري. آنذاك نشرت صحيفة ‘هآرتس′ الإسرائيلية خبراً لافتاً، سرعان ما أكدته صحف عربية نقلاً عن ‘مصادر سورية مسؤولة’، حول ترتيبات كان يتولّى أمرها عبد الوهاب الدراوشة، عضو الكنيست آنذاك، لعقد ‘قمّة روحية’ استثنائية في دمشق. لائحة ضيوف تلك القمّة ضمّت مفتي سورية، الشيخ أحمد كفتارو؛ ويسرائيل لاو، كبير حاخامات إسرائيل؛ والحاخامات إلياهو بكشي، عوفاديا يوسف (الزعيم التاريخي لحركة ‘شاس′) ويوسف جيجاتي (حاخام اليهود السوريين). وكان مطلوباً من القمّة أن تكسر، على الجانبين السوري والإسرائيلي في الواقع، طبقة أولى من الجليد النفسي، السميك والصلب والعتيق، الذي كان لا بدّ من كسر طبقاته واحدة تلو الأخرى، قبل الشروع في التطبيع.
أقدار تلك القمة حسمتها وقائع متلاحقة، بينها التحضيرات لقمّة أخرى أهمّ، في جنيف، بين الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون والأسد الأب؛ ثمّ ما أسفرت عنه من فشل ذريع قاد الأسد إلى اليقين بأنّ التفرّغ لترتيبات توريث نجله بشار، بات أكثر إلحاحاً من إبرام معاهدة سلام مع إسرائيل. بيد أنّ لقاءً مشهوداً، و’تاريخياً حسب توصيف الصحافة الإسرائيلية، سوف يستوحي مشروع القمّة الروحية تلك، ويجمع مفتي النظام السوري أحمد بدر الدين حسون، والحاخام الأكبر للجالية اليهودية في النرويج يوئاف ملكيئور؛ سعياً، هنا أيضاً، وبضوء أخضر من الأسد الابن هذه المرّة، إلى اختبار إمكانية كسر الجليد جديد. ذلك لأنّ اللقاء لم يكن روحياً فحسب، كما حرص حسون على التأكيد، بل تضمّن طلب الحاخام من المفتي أن يبذل مساعيه الحميدة نقل رفاة الجاسوس الإسرائيلي الشهير ايلي كوهين إلى إسرائيل. وذاك طلب سياسي بامتياز، خاصة إذا تأمّل المرء ردّ المفتي على الحاخام: سوف يصبح الطلب واقعياً، بعد تحقيق السلام بين البلدين!
ويبقى أنّ ليبرمان، زعيم ‘إسرائيل بيتنا’، هو الصهيوني الأحدث الذي يذكّر ـ مَنْ تنفعه الذكرى، أوّلاً ـ بأنّ بيت النظام السوري ليس أقلّ من باحة خلفية للبيت الإسرائيلي؛ وأسباب بقائه، أو بالأحرى استمرار وجوده في صيغة الاستبداد والفساد والنهب والحكم العائلي، مرهونة بما يقدّم من خدمات لأمن إسرائيل.