في ذكرى الألم… بينما العالم يحتفل/ ناصر الرباط
يحتفل العالم، إلا بعضه، هذه الأيام بعيد الميلاد ورأس السنة. الأجواء أجواء فرح وانشراح وتبادل للهدايا، وقليل قليل من الدين لمن يريد. مدن الغرب والشرق والشمال والجنوب مزدانة بأبهى ما لديها، أضواؤها متلألئة، متاجرها مليئة بالشيّق والطريف والمسلي، وأهلها مشغولون بحمى الشراء والاستهلاك والاستمتاع. وبغض النظر عن المستقبل وما سيحمله، فالتفاؤل والأمل سيدا اللحظة، إلا في عالمنا العربي.
أنظمتنا الشمولية القمعية مهترئة وعقيمة، لكنها تتمسك بالسلطة بغض النظر عن الثمن. شعوبنا مُستضعفة ومُفقرة ومُجّهلة بتضافر مدبّري دنياها ودينها، كل يستنزف منها القليل الذي يمكن أن تعطيه ولا يعطيها في المقابل إلا وعوداً كاذبة وترهات مستهلكة. حداثتنا، التي بالكاد حصلنا على بعض انجازاتها عبر قرنين من الشد والجذب، مُزقت وديست بالبساطير والاخفاف في آن، وعادت للحلول محلها أنظمة فكرية ودينية وعسكرية – سياسية لم تخرج من كهوفها القروسطية إلا أخيراً. وبلادنا، بخاصة منها تلك التي تجرأت على الاحتجاج ذات يناير قبل خمس سنين، استُبيحت للقمع والقـــتل والتدمير على يد حكامها وثــوارها وكل من هب ودب من قوى إقليمية ودولــية، وجدت فيــها مرتعاً لمخططاتها أو مختبراً لأسلحتــها التي لم تُجرب بعد. كل بلدانها تقريباً، وفلسطين المــحتلة قبل كل بلد آخر، استكانت على السطح وخضعت للسلطة البطاشة ولو إلى حين. وبــعضها، بخاصة سورية والعراق واليمن وليبيا، انحدرت باتجاه حروب عاتية، وهي في طريقها إلى التمزق والانهيار وربما الاختفاء من الخريطة كدول وشعوب.
كل نشرة أخبار من قناة فضائية عربية اليوم تبدو كأنها جردة لحصيلة الموت والخراب التي ستليها غداً جردة أخرى. وهكذا دواليك من دون أي سقف لتصاعد الأرقام أو نهاية لتوالدها. كذا شخص قتل هنا، وكذا شخص «ارتقى» هناك، وعدد آخر استشهد في موقع آخر. المباني تهدمت، والمصالح الحيوية خُربت، والأعمال توقفت، والمحاصيل أُهدرت، والعملات انهارت، والحكومات تفككت، والنخب ثم عامة الناس هاجروا. مناظر المآسي تكاثرت بحيث لم تعد تثير لدى المُشاهد أكثر من الدهشة والاشمئزاز مما يمكن أن تبلغه الوحشية الإنسانية من دون كثير تعاطف مع الضحايا الذين تحولوا إلى صور خيالية مرعبة على الشاشة. لا المساعي لإنهاء أي من الحروب العدمية الدائرة ولا التدخلات الإقليمية أو العالمية استطاعت وقف نزيف الدم وخراب الأرض والحجر واقتلاع الناس من وطنهم، ولا هي ابتدأت بالتفتيش عن أساليب أخرى أنجع وأقدر على تناول هذه المآسي المستعصية. كلها تدور في حلقة مفرغة يبدو عليها أنها موجهة بالدرجة الأولى إلى الإعلام ولملء نشرات الأخبار.
في هذا كله، يبدو الألم الذي عشش في صدور الناس في بلادنا المنكوبة غريباً وبعيداً ولا صوت له. آلاف قضوا. بعضهم دفن من دون تعريف في قبور جماعية أو في العراء، وبعضهم حصل على رقم وضع على صورته في آلاف تقارير المنظمات الــــدولية عن انتهاكات حقوق الإنسان المريعة التي تحصل في بلاد حروبنا. ملايين الجرحى والمعوقين الذين لا يمكنهم مواجهة المستـــقبل من دون بنـــية خدمــية متكاملة لا يوجد منها أي مكون، يقبعون في أسرتهم أو على ما تبقى من أرصفة شوارعهم من دون اهتمام رســمي أو أممي بمصابهم أو عناية مستمرة إلا ما تجود به نفوس بعض الأفراد والجمعيات. والآلاف المؤلفة من المعتقلين والمغيبين والمــخطوفين لا يعـــرف عنــهم أحد من أهلهم شيئاً فيما يذوون في أقبيتهم ومعتقلاتهم وتحت تعذيب جلاديهم، الملتحين منهم والمشوربين، من دون كبير أمل للغالبية منهم برؤية ضوء الشمس ثانية. والملايين هُجرت من بيوتها وبلداتها ومدنها إلى مخيمات لجوء قاسية، أو إلى طــــرقات لجوء صعبة يقضي منهم كثيرون عليها قبل الوصول إلى الغرب- الحلم. وأعداد هؤلاء الضحايا تزداد يوماً بعد يوم ما يخـــلق مشــاكل أكثر استعصاءً على الحل، فيما يبقى زعماء مجرمون، لابسو بدلات عسكرية أو مدنية، في غيِّهم يرتعون. وتبقى عصبة الأمم، كما كانت تسمى أيام الاستعمار، لا الأمم المتحدة كما تدعي اليوم، تتعامل مع القضايا العربية بعقلية الاستعمار. دولها العظمى لا تُؤاخذ، وقراراتها لا تُنفذ، وتقاريرها عن الانتهاكات والتجاوزات تتراكم من دون أي مفعول، لكي يعود إليها مؤرخو المستقبل ربما عند توثيقهم لفشل النظام العالمي.
ليبيا والعراق واليمن وسورية تئن تحت سطوة آلامها. لا هي قادرة على الخروج بنفسها من دوامة الطغيان والطغيان المضاد اللذين أوصلتها إليهما أنظمتها وأعداؤها ومجاهدوها وخيباتها وفشلها في التعاطي مع واقعها، ولا يبدو أن هناك من سيساعدها على هذا الخروج من القوى المحلية والدولية التي تستفيد من مآسيها أو تعجز عن حلها. وإلى أن يخرج منها مَنْ يمكنه أن يدلها على سبيل هذا الخروج، كما كان وعد الربيع العربي في نهايات ٢٠١٠ وبدايات ٢٠١١، فالخشية أن تستمر جلجلة الآلام وتتمدد كما تتمدد.
واليوم ونحن نودع ٢٠١٥ الدموي ونستقبل ٢٠١٦، يبدو أن الذكرى التي ستبقى مع ناسنا المهمشين في بلداننا العربية المنكوبة وفي مهاجر الهروب، ستكون وحدها ذكرى الألم.
الحياة