في سجن الأسود والأبيض
عبده وازن
علّمنا يوسف عبدلكي أنّ النظر الى العالم بالاسود والابيض لا يزال ممكناً، بل هو ضروري في احيان كثيرة. هذان اللونان اللذان هما لونان وليسا بلونين في آن، جعل منهما هذا الفنان الطليعي مرجعاً بصرياً وميتافيزيقياً، واقعيّاً وما فوق واقعي. وراح من خلالهما يستعيد مشهدية غير مألوفة لما يحيط به من أشياء عادية ونافلة حيناً، طبيعية ورمزية حيناً آخر، مادية وإنسانية، مأسوية وغنائية… أزهار ومزهريات وطاولات وصحون وأقداح وملاعق وسكاكين وفناجين وأسماك ورؤوس أسماك بعيون مفتوحة دهشةً وعصافير، عصافير في أقفاصها أو مذبوحة أو مقتولة… وأحذية، أحذية رجال ونساء خُلعت قبل لحظات أو هي تنتظر من ينتعلها. وإن لم يكن الحذاء يذكّر هنا بحذاء فان غوغ الشهير، المفعم برائحة التراب والقدمين، فهو يستدعي حال الفراغ الذي سبق انتعاله أو أعقب خلعه. إنه حذاء رجل أو امرأة، حذاء إنسان، أو حذاء لا بد من أن ينتعله احد ما.
هذه «الخريطة» التشكيلية لا تمثل إلا ناحية من عالم يوسف عبدلكي الرحب والذي لم يخلُ من الأشخاص والبورتريهات والالوان. إنها أشياؤه الطبيعية الصامتة أو «الميتة» وفق التعبير التقني الغربي، أشياؤه الحية والناطقة والحافلة بالرموز والاشارات. في أحد رسومه الذي لا يمكنني نسيانه ترتفع السكين المغروزة في خشب الطاولة بالقرب من عصفور قُتل للتوّ ربما. ليس اللافت هنا المشهد المأسوي فقط بل هذه المجاورة بين السكين التي غرزتها يد الجزار التي لا يمكن المشاهد إلاّ أن يتخيلها، والعصفور القتيل المستلقي على جناحيه وكأنه ينتظر أن يفردهما ويطير في لحظة غير متوقعة.
لعل ما تخفيه هذه الرسوم بالاسود والابيض هو ما تسعى الى إظهاره مواربةً او مداهنةً. هذه الاشياء التي تبدو للوهلة الاولى بسيطة وعادية ليست إلاّ عناصر عالم هو في حال دائم من التشكل. عالم يبدأ دوماً على الورق كما في العين والمخيلة والوجدان، أعمق الوجدان. عالم مقطّع الاوصال، عالم لا يكتمل إلا في هذا التقطّع المتواصل. هو عالمنا المهجور، عالمنا الذي كان صاخباً قبل حين، عالمنا الجميل المعلق مثل فكرة لم تكتمل. هو أيضاً عالم الضحايا الذين يخفون في صميمهم صور الجزارين ويبوحون بها رغماً عنهم. كأنك هنا إذ ترى اليد المقطوعة ترى السكين التي قطعتها واليد التي تحمل السكين.
أكتب عن يوسف عبدلكي وهو لا يزال موقوفاً مع رفيقين أو رفاق له، في أحد السجون السورية. أوقفوه على الحاجز واقتادوه الى سجن بات صغيراً وسط هذا السجن الكبير الذي تمثله الآن سورية النظام والبعث والقتل والخوف والانتظار… سجن يوسف سابقاً في الثمانينات ثم هجر وطنه الى باريس، المنفى الذي شاءه موقتاً. ولمّا صدّق بشائر الربيع السوري الذي جرى الكلام عنه بُعيد حلول بشار الأسد على كرسي الرئاسة، غادر منفاه عام 2005 حاملاً جوازه السوري الذي لم يتخلّ عنه. أمضى يوسف نحو ربع قرن في فرنسا بصفتها أرض إقامة موقتة، رسم فيها وأقام معارض ودرس ونال شهادة الدكتوراه، لكنه أصر على رفض التجنس والحصول على جواز سفر فرنسي. هذا الشغف السوري والحنين والوطنية النقية جعلته أشبه بشجرة عميقة الجذور لم تتمكن عواصف المنفى من اقتلاعها. لا يعرف رجال الشرطة الذين قبضوا على يوسف مَن يكون وأيّ رسام هو، ولا يعرفون شيئاً عن وطنيته الصادقة، كلّ ما يعلمون عنه لا يتخطى التقرير الاستخباراتي الذي رُفع به.
يوسف عبدلكي أتذكره كل يوم عندما أفتح الكومبيوتر. على الصفحة الاولى تطلّ عليّ لوحة له بالالوان تمثل أشخاصاً مضطهدين حتماً. هذه اللوحة «علقت» بالصدفة على الكومبيوتر، وفي الصفحة الرئيسة، نتيجة خطأ تقني. ومن يومذاك لم أبدّلها جراء إعجابي بها وبصاحبها، هذا الرسام الكبير، رسام الحرية.