في سورية… يحيا القتل وتسقط السياسة
نور الله السيّد
رفض النظام السوري منذ اليوم الأول للأزمة السورية التحرك على محور السياسة مفضلاً العنف، تحدث لفترة من الزمن عن الحوار والإصلاح، الإصلاح باعتباره ثمرة حل سياسي لم يُتفق عليه، وإنما بإعتباره شيء قرره حزب البعث عام 2005 وحان الآن وقت تنفيذه ولكن ‘الإصلاحات’ ومواقيتها لم تكن إلا لكسب الوقت بغية تأكيد الحل الأمني، الذي انتهى إلى العسكرة والعبثية بقصف طائرات النظام للقرى والمدن السورية بالقنابل العنقودية وبراميل المتفجرات، وقصف صفوف الناس أمام المخابز، لعل الناس ترعوي وتعود إلى سجنها. أما الحوار الذي أداره النظام مع شخصيات انتقاها، فانتهت نتائجه إلى أقرب سلة مهملات تأكيداً مرة ثانية أن ذلك كان لكسب الوقت بغية العسكرة.
دفع النظام بالجيش للانخراط في قمع المظاهرات في مدينة درعا منذ نيسان عام 2011، بعد أقل من شهرين من بدء الانتفاضة السورية، ظاناً أن هذا سيمكنه من قمع الانتفاضة في مهدها ومن ثم قَمْع باقي الجيوب التي ظهرت هنا وهناك. وتابع النظام السوري توريط الجيش السوري في معظم المحافظات السورية معللاً النفس بانتصار قريب. ولكن شيئاً من هذا لم يحدث. وفي خلال العشرين شهراً الماضية لم يُقدّم النظام أي مبادرة سياسية بل فعل ما هو أنكى من ذلك بإجهاضه كل المبادرات التي طرحت: مبادرة الجامعة العربية ومبادرة كوفي أنان، ومبادرات أخرى رفضها قبل أن تظهر للملأ من دول تُعتبر صديقة له أو كانت صديقة له مثل تركيا.
وأكد رئيس النظام السوري في كلمته أمام مجلس الوزراء برئاسة المنشق رياض حجاب بتاريخ 26 حزيران 2012 أن سورية ‘في حالة حرب حقيقية بكل جوانبها وبكل ما تعني هذه الكلمة من معنى وعندما نكون في حالة حرب فكل سياستنا وكل توجهاتنا وكل القطاعات تكون موجهة من أجل الانتصار في هذه الحرب وفي معاركها، وبهذا أغلق النظام جميع الأبواب إلا باب الحرب آملاً في الانتصار.
وهو باب أُغلق منذ اليوم الأول للأزمة السورية عندما أعلن النظام أن سورية تتعرض لمؤامرة. والنظام في الحقيقة غير قادر على طرح أي مبادرة سياسية لأن ذلك سيعني تغييراً ما، تغييراً سياسياً بالطبع، سيطال بنية النظام السوري وسيعني نهايته، مباشرة أو بعد فترة محدودة.
وفي تاريخ الدول، تقدم الدولة التي تعاني من أزمة مع مواطنيها مبادرات سياسية للخروج من الأزمة. ولكن النظام السوري يخرج عن نموذج الدولة التي تقبل وجود طرفين على الأقل أحدهما المعارضة، وهو لا يزال يعيش نموذج الدولة المستبدة، دول الحزب الواحد، حيث على الجميع أن يقبلوا قرارات القيادة العليا، والقيادة العليا في الحالة السورية هي رأس النظام، وأي شذوذ عن ذلك هو بمثابة مؤامرة يجب إسقاطها ودحرها. وهي أنظمة لا تعرف معنى السياسة وإنما تعرف معنى السيطرة. وأن تسوس هذه الأنظمة شعوبها يعني أن تسيطر عليها وتوجهها كما تريد، أي أن تتحكم بها.
ومن أدوات التحكم القتل، والقتل الجاري في سورية هو مثال ذلك. وهذا القتل ليس قتل الحرب، وإنما قتل للقتل، إذ ما معنى قصف أبنية بطوابقها بصواريخ الطائرات لأن معارضاً أو معارضين مسلحين اختبأوا في إحداها، أو أن يُدك حي بأكمله وعلى رأس من فيه لاشتباه وجود مجموعة مسلحة في الحي. أو إلقاء طائرة لبرميل متفجرات على قرية أو بلدة زاد عدد قذائف المدافع والدبابات والصواريخ التي أطلقت على ريف مدينة دمشق عن عشر آلاف قذيفة، أي بأكثر من خمس قذائف لكل معارض مسلح علماً بأن كل قذيفة تكفي لتهديم بيت. أحياء بكاملها من أطراف دمشق وريفها سويّت بالأرض. وهو أمر يتكرر في حمص وحلب ودير الزور وغيرها من البلدات والمدن. فلماذا كل هذا الدمار إن لم يكن لمجرد التدمير، كما القتل لمجرد القتل! قتل بوحشية سيذكره التاريخ طويلاً. قال رجال الأسد: إما الأسد أو تدمير البلد، وهم ماضون في تحقيق وعيدهم.
أقال النظام حزب البعث من الفعل، وهو الحزب الحاكم الذي لم يدل بتصريح سياسي واحد عما يجري في البلاد، إلا من سِّقْط الكلام، وكأنه غير موجود في الحكم أو أنه حزب في دولة أخرى، حزب لا علاقة له بالسياسة وكرس النظام الترهيب سياسة، وأقال المواطنين والبلد من الفعل السياسي حينما خنق ربيع دمشق في المهد، عندما حاول بعض السوريين الظهور على السطح والقول بأننا هنا، فأغلق منتدياتهم وأصواتهم لأنه لا يمكن لأحد آخر أن يشاركه المسرح، والمشاركة تعني إدخال فعل السياسة، ولا سياسة في سورية.
لم يكن العنف الذي عاشته سورية في ثمانينيات القرن الماضي مفروضاً على النظام، بل هو في معظمه من صُنع النظام نفسه ليستخدمه مبرراً لقتل من يهدده، وقتل عشرات الآلاف من السوريين. وهو استخدم القتل قبل ذلك للتخلص من رفاق الطريق وكل من هدده في سورية أو لبنان على وجه الخصوص. لبنان الذي لم يتوقف النظام عن إرسال رسائل قاتلة لشخصياته منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين وحتى الشهر الماضي، ولم يبعث له بأي رسالة سياسية أو دبلوماسية تنشد التعاون والتنمية. وهو يبحث عن إرسال رسائل قاتلة لدول الجوار، ولكنها رسائل ضلت طريقها حتى الآن.
ما سبق ليس إلا من بديهيات النظام السوري وأسس بنيته، فكيف للمخضرم الإبراهيمي وللعالم أجمع أنهما لم يدركا ذلك؟ وكيف لهما أن ينتظرا قبول النظام السوري لأي مبادرة سياسية ستطيح به مهما كانت؟ قبول هدنة العيد على بساطتها ورمزيتها كان يعني بالنسبة للنظام السوري اعترافاً بالمعارضة، ونظام مثل النظام السوري لا يمكنه أن يعترف بأي معارضة، ومن وجهة نظره فإن معارضيه ليسوا إلا منفذي المؤامرة. وسيبقى جواب النظام للإبراهيمي وللعالم هو الجواب التقليدي نفسه: أوقفوا المؤامرة ويمكن أن نتقدم بعدها على المحور السياسي. ولن يكون بإمكان الإبراهيمي فك متلازمة المؤامرة-القتل.
قَتلَ النظام السوري منذ تسلم الإبراهيمي مهمته رسمياً في أول أيلول الماضي أكثر من اثني عشر ألف مواطن، ولا تزال آلته تتابع القتل بلا كلل، ولا يزال الإبراهيمي يبحث عن ملامح لحل ولن يجدها ولن يجد أي حل، ومبادرته أخذت مكانها في الفعل الناقص قبل أن تولد.
بعد كل هذا الإنكار والقتل، فهل من حل سياسي يكون النظام فيه طرفاً؟ لا يبدو هذا ممكنناً، ولا حل إلا حلٌ على طريقة النظام: القتل. ولكنه قتل النظام هذه المرة ووأده في غور عميق. وهي رغبة تتأكد كل يوم لدى السوريين بعد كل ما حل بهم من خراب ودمار، وهو حل لن يشفي ما تكدس في قلوبهم من غل على مدى عشرين شهراً من القتل واثنين وأربعين عاماً من السجن، لتبدأ السياسة بعد ذلك، وما أحوجهم إليها بعد طول غياب.
‘ استاذ جامعي سوري
القدس العربي