في شأن النظام السوري وشركائه الأيديولوجيين
ياسين الحاج صالح *
خلافاً لأنظمة عربية أخرى، استفاد النظام السوري من خدمات نوعين من الأيديولوجيين غير التابعين له مباشرة: أيديولوجيي الحداثية وأيديولوجيي الممانعة.
ينشغل أيديولوجيو الحداثية بمواجهة الإسلاميين سياسياً وثقافياً، أو «القدامة» كذهنية و «الأصولية» كتفكير وسياسة، بينما يشغل الغرب عموماً، والمحور الأميركي الإسرائيلي بخاصة، مركزَ تفكير الممانعين. و «يؤصل» عموم هؤلاء موقفَهم العدائي سياسياً للغرب بتشكك عميق في الغرب الثقافي.
يبدو النظام السوري جامعاً لمَجْدَي الممانعة والحداثة معاً، فهو في موقع الخصومة لأميركا وإسرائيل، الأمر الذي جعل منه الإقليمَ القاعدة للممانعة وقِبلة مناضليها الموزعين بين البلاد العربية والغرب، وهو في الوقت نفسه خصم للإسلاميين المحليين، وراعٍ لضرب من حداثة مادية واجتماعية تجعله قريباً من قلوب حداثيين سوريين وعرب وغربيين. أما علاقته الطيبة مع الإسلاميين العرب، اللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين… فتُدْرَج ضمن إشكالية الممانعة والمصانعة لا إشكالية الحداثة والقدامة.
لم يتح مثل ذلك لأنظمة عربية أخرى. استفاد النظام التونسي من أيديولوجيي الحداثة لكنه كان فاشلاً في امتحان الممانعة بالطبع، أما نظام مبارك، فنال دعماً أقل من الحداثيين، وأسوأ الدرجات عند الممانعين. وإذا استعرضنا البلدان العربية واحداً واحداً، فإن أياً منها لم يفز ببركات الممانعين والحداثيين معاً غير النظام السوري. ولذلك حظي بصيت إيجابي، شعبي ونخبوي، في العالم العربي لم يحظَ بمثله غيرُه.
ولقد وضع هذا معارضي النظام السوريين، الذين يولون أهمية أولى لنمط ممارسة السلطة ومستوى الحريات العامة، في وضع بالغ السوء، فعموم الممانعين ضدهم، لأنهم (المعارضين الديموقراطيين) أخصام لقاعدة الممانعة، ولأن الديموقراطية التي ينادون بها بكل سذاجة لا تعدو كونها إضعافاً للبلاد ومدخلاً لهيمنة القوى الغربية على مقدراتها، وعموم الحداثيين ضدهم أيضاً، لأنهم أخصام لنظام حداثي، ولأن دعوتهم الديموقراطية الساذجة أيضاً ليست أكثر من حصان طروادة سيقفز منه الإسلاميون إلى حكم البلاد، ومجرد مدخل إلى «طغيان الأكثرية» الإسلامية. وهكذا، فهم خطأ في الحالتين.
وبالفعل، شهدت السنوات الأخيرة تخويناً واسعاً للمعارضين السوريين على أرضية الممانعة، والتحريض عليهم والتشهير بهم، بل وإظهار الشماتة باعتقال من قد يُعتقل منهم. هناك وقائع وأسماء معروفة في هذا الشأن، كان اللافت أن رؤوس حربتها مقيمون في الولايات المتحدة. وقد تزامن التخوين مع تسفيه لهم لا يقل شأناً، على يد أيديولوجيي الحداثة، الذين وجدوا أن واجبهم يملي عليهم نقد معارضي النظام على سذاجتهم و «ديموقراطويتهم»، وعلى أنهم لا يعادون الإسلاميين بالقدر المطلوب، ولا يرون أن السياسة جزء من الثقافة… إلخ. وإن لم يعبر هؤلاء عن موقف صريح إلى جانب النظام، فإنهم لا يجدون ما يقال عنه غير عموميات عن الاستبداد، كانوا يسارعون إلى العثور على ما يشابهها عند معارضيه بالقدر نفسه أو أكثر.
لقد مضت أوقات طويلة كان من الصعوبة بمكان أن يكون المرء فيها معارضاً سورياً.
الانتفاضة أربكت الطرفين، فلم يستطع الحداثيون، وهم قوم مشتغلون بالثقافة، المثابرةَ على الصمت، واضطروا لقول أشياء ناقدة للنظام، لكن بدا الأمر قياماً بواجب ثقيل، وليس تفاعلاً إيجابياً مع واقع مستجد لا يحدث مثله كل عقد، ولا حتى كل جيل، ولم يُظهر أحد منهم ما يشير إلى تعارض الثورة السورية، بل والثورات العربية عموماً، مع مخططاته الإدراكية القارة، أو استعداداً لمراجعة تلك المخططات وتعديلها بحيث تتفاعل بمرونة أكبر مع المتغيرات الجديدة. في المحصلة، قال الحداثيون الأشياء وضدها، إنهم ضد استبداد النظام وعنفه، لكنهم أضافوا من الاستدراكات ما يفرّغ هذه المواقف من محتواها، هذا مع مثابرة على التشاؤم، ومع انفصال نفسي عن كل ما يجري.
الممانعون، وهم قوم نضال لا ثقافة، قالوا أشياء كثيرة يلغي بعضها بعضاً. إنهم لا يرضون طبعا أن يُقتَل السوريون، لكن بدا أن السوريين المقتولين مغرَّرٌ بهم، لا يفهمون السياسات الدولية، ولا يتبينون المخططات الغربية المتربصة ببلدهم، ولا يرون أن «المقاومة» (= حزب الله) مستهدفة، فإذا أحرق منتفضون سوريون أعلاماً لحزب الله، بعد أن اصطف الأخير بصورة حاسمة إلى جانب النظام، كان هذا دليلاً على أن الانتفاضة السورية مؤامرة دولية. وسيمضي بعضهم إلى حد نفي أي تماثل بين الانتفاضة السورية والثورتين التونسية والمصرية، وتفسير الأخيرتين بتبعية نظامي حكمهما للغرب، وليس بأوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية يتساوى معهما على أرضيتها النظامُ السوري. ولم يكد يطرح جدياً سؤال عن نصيب النظام السوري من الحداثة المنتِجة، أو عن جدية اعتراضه على الهيمنة الأميركية الإسرائيلية في الإقليم.
تعاني الحداثية العربية من تثبّت فكري على شكل قديم للرجعية الاجتماعية والثقافية والسياسية، ذاك المرتبط بالبيئات الإسلامية التقليدية، لكنها لا تتبين شكلاً حديثاً للرجعية حداثياً وفاشياً، هو الذي يفتك بالمجتمع السوري اليوم، ولا يميزون من جهة أخرى ضمن الشكل القديم للرجعية، بين نزعة محافظة تدافع عن درجات أعلى من الاستقلال الاجتماعي، وإنْ ليس بالضرورة من الحرية الفردية، وبين صيغة رجعية مقاتلة تتمثل في السلفية الجهادية. لا مجال للمقارنة بين المحافظ الاجتماعي وبين الرجعي الحداثي، فهذا يدافع بضراوة عن أوضاع امتيازية تقارب العبودية، ويُظهر استعداداً طيباً للقتل الجماعي الواسع النطاق، وهو -بالمناسبة- ليس اكتشافاً حديثاً، فنحن نعرفه في سورية منذ أكثر من جيل، وهو يتجسد مؤسسياً في أجهزة الأمن وميلشيات الشبيحة المرتبطة بها. لكن الحداثيين لم يأخذوا علماً به، وليس مؤكداً أنهم سيأخذون اليوم علماً به، بل هناك من الشواهد المتواترة على ضرب من القرابة بين الداعية الحداثي وجنرالات المخابرات، الأصل فيها على الأرجح هو العدو المشترك، أي الإسلامية. أما المحافظ التقليدي، فهو يجمع اليوم بين التدين والدفاع عن الحرية، وإن تكن الحرية التي يعنيها أقرب إلى الاستقلال الاجتماعي، كما قلنا. هناك رجعيون دينيون متطرفون، سلفيون جهاديون وما شابه، لكنهم أقرب إلى الرجعية الحديثة، وإلى أساليبها الفاشية منهم إلى المحافظة التقليدية، وأصول هؤلاء حداثية، وإن تكن شرعيتهم دينية. وبين التنويعتين، المحافظة الاجتماعية والسلفية الجهادية، ثمة التنويعة الإخوانية، وهي تترجح بين المحافظة الاجتماعية والثقافية وبين الرجعية المقاتلة.
وبدورها تعاني الممانعة من تثبّت مشابه على السيطرة الأجنبية التقليدية اللاغية للاستقلال الوطني أو المقيِّدة له، ولا تتبين أشكالاً من السيطرة السياسية لا تقف عند إلغاء الاستقلال الاجتماعي واستقلال الأفراد، بل تسحق الجميع وتتعامل مع المحكومين كأنهم عبيد. ليس لهياكل السيطرة هذه قضية تتجاوز خلودها الذاتي، وهي لا تصلح بحال أساساً لمقاومة أي سيطرة أجنبية، فإذا كان المراد بلورة سياسة ناجعة حيال السيطرة الأميركية الإسرائيلية، فلا مناص من تفكيك الطغيان الحديث، هياكلَ حكمٍ وأيديولوجياتٍ ونُظُمَ مصالح. ولا بد أيضاً من التخلص من ازدواج المعايير السياسية والأخلاقية الواسم لعقيدة الممانعة: نصرة الممانعين، ظالمين أو مظلومين، وعلو النبرة ضد غيرهم. ولقد ظهر هذا الضرب من النفاق بوضوح حيال الانتفاضة السورية.
تشترك الأيديولوجيتان في الانحياز للسلطة (متقدمةً مَرة، وصامدة مرة) ضد المجتمع (متخلفاً مرة، وغير مؤتمن على القضية مرة)، وفي منزع لاإنساني عميق. الحداثية السورية (والعربية) متمركزة حول الأشياء والواجهات لا حول الإنسان وحقوقه وحرياته وإبداعه، والممانعة حول القضية و «الوطن» لا حول سكان البلد. لا وجود للمجتمع، ويقع خارج نطاق التفكير كيف ينتج وكيف ينتظم وكيف يفكر وكيف يتعاون، ومم يشكو وماذا يأمل.
لكن ها هو يدخل بصخب إلى المشهد.
ختاماً، الحداثية والممانعة سندان أيديولوجيان للنظام الذي يستعبد السوريين. من شأن نقدهما أن يكون مساهمة في الانتفاضة التحررية للشعب السوري. هذه المقالة مجرد طرح أولي للقضية.
* كاتب سوري