في عين القنّاص أو في مرماه/ إبرهيم الزيدي
حدث في حلب، حلب التي لا أعرفها، حلب التي لا تعرفني، حلب التي لم تعد تعرف أحداً، حلب التي زرتها لحضور حفل زفاف أحد الأصدقاء الهارب من خدمة الحرب، فألقت عليه القبض قبل أن تقرأ عرّافة الفرح فنجان عرسه، واقتادته إلى حتفه، وهو بكامل أناقته، فغادرتُ مأتمه ببطء مَن لم يسعفه الحظ ليموت، وهمتُ على وجهي في شوارع بدت لي كمثل توابيت تبحث عن جنازات. ثم وجدتُني بين مجموعة من الناس لاذوا في زاوية شارع، عرفتُ في ما بعد أنه “شارع القوتلي”، الذي يقع في مرمى قنّاص “باب النصر”.
كان عددنا في ازدياد. على الرصيف المقابل جمهرة أخرى تريد الوصول إلى المكان الذي نحن فيه، ونحن نريد الوصول إلى المكان الذي هي فيه، يفصل بيننا عرض الشارع الذي ازدحم فراغه ببرد الترقب. شاب من الفريق المقابل لا يتجاوز عمره سنّ المراهقة، قرر كسر الصمت بين الفريقين، فانطلق راكضاً بسرعة الخوف، لثوانٍ لا أعرف عددها. انقبضت نفوس الفريقين. ثمة رصاصة قدحت في عرض الشارع، ثم ارتطمت بعمود نور، وأزّت بعيداً عنّا، فهلّل الفريقان لنجاة ذلك الشاب، وعلت همهمات، لا بل التصفيق أيضاً، وكأننا في مسابقة، لكننا مع الأسف كنا في سباق مع الموت.
صبية من فريقنا أو رصيفنا ترتدي خفافة رياضية، هي الأخرى قررت أن تخوض التجربة. كانت برفقة شقيقتها الأصغر سناً، وكانت كلٌّ منهما تمسك يد الأخرى، انطلقتا في اتجاه الرصيف المقابل، فتجمّد الدم في عروق الفريقين، قبل أن يعلو التصفيق، وتشعل الفرحة ألق العيون التي تراقب المشهد. لقد خاب ظن القنّاص مرةً ثانية، وطاشت رصاصته.
ثمة طفلة أفلتت من يد أمها التي كانت مشغولة بجمع الأمنيات، وخطت في الربع الأول من شارع الموت، فتحولنا كلنا إلى آباء وأمهات لتلك الطفلة، وتسابق إليها صراخنا، إلى أن التقطها أحدهم، قبل أن تطبع قدماها على خد الشارع القبلة الثالثة. يا لتلك الطفلة، كيف نثرت جمرها في مواقد أرواحنا جميعاً؟!
آنذاك أدركتُ أن المشكلة ليست في صوغ الكلمات. المشكلة الحقيقية في صوغ الأحاسيس والمشاعر والعواطف، وذلك الوجيب الذي يتملك القلب في تلك اللحظات. كان فريقنا كلما نقص واحداً، انضمّ إليه أكثر من راغب أو مضطر للعبور. هذا ما حصل لدى الفريق المقابل. وبقي القناص وحيداً، يمسح الشارع بعينه، وفوهة بندقيته. يا لتلك الوقفة كم نقّصت من عمري، ونغّصت؟!
لم تنفعنا كثرتنا. فالكثرة لا تغلب الشجاعة دائماً. إذ ما فائدة الكثرة، والقنّاص هو الوحيد القادر أن يضغط زرّ الـ Delete في حاسوب الله، ويمحونا من سجل الحياة؟!
أعرف أنني لم يعد لي حياة لأحياها، أمّا أن لا يكون لي قبر أموت فيه، فهذا ما لم أستطع تصوره. الموت هنا، وهو سيفضي إلى تلك النتيجة. لذلك أخذت موقع مراقب لمغامرات الآخرين، لأنني لا أريد أن أموت مجاناً، وأن تمتلئ جثتي بالحقد على رجل قتلني، فقط لأنني عبرت الشارع. ما الذي يعرفه عني ليقتلني ذلك القناص؟! لو أنه يمنحني فرصة التعريف بنفسي قبل أن يطفئ سراج روحي بنفخة من بندقيته، لكنت فعلتُ، فلربما تكون بيننا قواسم مشتركة. لربما نكون، هو وأنا، تخرجنا في الكلية نفسها في الجامعة، أو جلسنا في المقهى نفسه ذات يوم. لربما ركبنا البولمان نفسه في أحد أسفارنا، بل لربما تشاركنا المقعد نفسه، وتجاذبنا أطراف الحديث، كما هي العادة بين المسافرين. لو أن لديه الوقت والرغبة لسماعي، لما أخبرته عن المجال الحيوي لكلمة “ربما”. بل كنت ذكّرتُه بأننا ننتمي إلى المكان نفسه، ونتنفس الهواء نفسه. لكنه للأسف، ليس في وارد الاستماع إليّ، وليس مهتما بما قرأته من كتب، أو بمعرفة الموسيقى التي أفضلها، أو الألوان التي أرتاح إليها. مهمته حوّلت الوطن إلى كفن، تقتضي الضرورة أن يملأه بالأموات. قطعاً هو لا يعرف أن لديَّ أطفالاً يفرحون كلما رنّ الهاتف، أو توقفت أمام بيتنا سيارة، ظناً منهم أنها تقلّني إليهم.
لو أتيح لي أن أناقشه، لسألته عن الفرق الرياضية التي يشجعها، قبل أن أسأله عن اسمه، من حيث أن المأساة السورية بدّلت حياة السورين، وغيّرتها كليّاً، وصرفت اهتماماتهم، وأذهلتهم عن كل شيء، إلا عن كرة القدم. لا تزال غالبية الشعب السوري مهتمة بدوري أبطال أوروبا، ولا يزال فوز برشلونة مثار حوارات طويلة بين مَن بقي من الشباب السوريين، وهو، كقنّاص، من الممكن أن يكون معجباً بليونيل ميسي كهدّاف، مع الأخذ في الإعتبار أهداف كلٍّ منهما.
النهار