في كل منا “خليفة”/ حسام عيتاني
من مشارف بغداد إلى حلب، تشتعل حروب تتشارك كلها في غياب آفاق الحلول والتسويات بل حتى الانتصارات الحاسمة عنها. حروب تتقابل فيها هويات صلبة ومطلقات غيبية على نحو ينذر بانحدار إلى همجية لا قرار ولا قعر لها.
ابتلعت أساطير الماضي المشرق العربي وفشل في الانتقال من حكم الاستبداد العصبي الطائفي إلى الدولة الحديثة. وبات همّ جماعاته إرجاء كل بحث في شكل المستقبل إلى ما بعد القضاء على «العدو». الأولوية أن ننتصر «نحن» عليهم «هم». أن ندمرهم ونحرق مدنهم وقراهم. أن نفني نسلهم النجس ونشرد أطفالهم وعائلاتهم. أن نغير المعطى الديموغرافي ونطهر الأرض من رجسهم. «هم» زبدة الإرهاب وأس الجهل والتخلف، فليذهبوا إلى المنافي التي لا عودة منها. فليحيوا حيواتهم الدنيئة في بلدان الهجرة والاغتراب وليزرعوا حقدهم وكراهياتهم هناك بعيداً من ربوعنا الطاهرة. هكذا نفكر «نحن» ونخطط لمستقبلهم.
أما مستقبلنا، فأمره بسيط، لأننا سنبني جنة الله على الأرض وترعى أغنامنا قرب ذئابنا بأمن وسلام، ذلك أننا نختزن بيننا كل قيم العالم والتسامح، ولم يمر في التاريخ ما لوّث أخلاقنا وانسجامنا وفضائلنا.
هذا ما يمكن فهمه من أقوال رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي من محضر اجتماعه بوزير الخارجية الأميركي جون كيري. وهذا ما ينطق به التسجيل المنسوب إلى «الخليفة» أبو بكر البغدادي. والحال أن الرجلين كررا خطاباً واحداً بنبرتين مختلفتين. خطاب النفي والإقصاء وتدمير الآخر كتعبير عن خواء الذات.
ليس لدى الواحد منهما ما يعد به أنصاره غير الحرب على الأعداء والحشد والتجمع حول فريقه. قد يقال إن فارقاً شاسعاً يفصل بين المالكي الذي فاز بأكثرية واضحة في الانتخابات النيابية التي جرت في نيسان (أبريل) الماضي، وبين البغدادي الذي أنشأ «دولته» وعيّن نفسه خليفة بوسائل الغلبة والشوكة، وهذا صحيح في الشكل، لكن نظرة أوسع قليلا إلى آليات الارتقاء السياسي في بلادنا، لا تُظهر فارقاً جوهرياً بين صناديق الاقتراع وحراب البنادق. والمالكي الذي يذكّر ضيفه الأميركي بهذا الفوز وبالحق الدستوري للكتلة الأكبر في اختيار مرشحها إلى رئاسة الوزراء، يتناسى أن «الكتلة الأكبر» في الانتخابات السابقة مُنعت بالتهديد والوعيد من تولي الرئاسة، وأنه اجتهد في الأعوام الأربعة الماضية وفعل كل ما في وسعه ليثير مخاوف جماعته وغضبها ويقضي على كل محاولات التسوية السلمية. البغدادي يغرف من ذات المعين داعياً «المسلمين» إلى الهجرة لدولته كي يكونوا وقود حرب لا نهاية لها.
ولئن ضاق المجال هنا عن التوسع في شرح الأسس المشتركة للمشروع «الداعشي– المالكي»، في الوسع الزعم أن أياً منهما لا يحمل نظرة إلى المستقبل، إلى كيفية إدارة الاقتصاد بما يتعدى الجباية والريع النفطي. بما يتجاوز استراتيجية الاحتلال والمناطق المحررة والمعادية (مفيد هنا الاطلاع على ورقة «مبادرة الإصلاح العربي» عن «الاستراتيجية الاستعمارية لداعش في سورية»). أو مضمون المناهج التعليمية وكيف ستدار الجامعات في صحراء العنف والجثث المطروحة في الشمس وقوافل اللاجئين.
ويبدو أن في كل منا «خليفة» صغير لا يرى أبعد من أنفه، ولا يريد غير الصعود إلى المناصب التي حددها له عقله السقيم ولو على أكوام الجثث والأنقاض. وإلا كيف نفسر تلك الصراعات المضحكة والمشينة في آن، بين مسؤولي «الائتلاف» السوري، في وقت تكاد الثورة السورية تخسر آخر موطئ قدم لها لمصلحة قوات النظام و «داعش».
«الخليفة» في داخلنا لا يرى غير مسرور السياف واقفاً ينتظر أوامره بقطع الرؤوس وإرسال المشاهد الرهيبة إلى «يوتيوب».
الحياة