في ماهية الثورة السورية وأهمية تأثيرها: علا شيب الدين
علا شيب الدين
ينبش هذا المقال في الماهية التي بها كانت الثورة السورية هي هي، ومنها جُبِلَت وتكوَّنت. ماهية لم تزعزعها عواصف الفتن، ولا أعاصير القمع الوحشي، ولا المحاولات الحثيثة لجرِّها إلى أتون الصراع الطائفي أو الاقتتال الأهلي. إنها ذات الثورة وحقيقتها التي منها ثارت ثائرة الناس على كل ما من شأنه “حَيْوَنَة سورية”، من أجل “أنسنة سوريا”.
ليست كتابة اسم البلاد بهذين الشكلين، عفواً. بل هو تعمّد يُظهر الفارق المذهل بينهما. فذات التاء المربوطة إنْ هي إلا حيوانة رُبطت طويلاً بحبل العائلة المالكة الحاكمة، حتى أمست “أسدية” صرفة. فيما ذات الألف الممدودة، الممشوقة، والمشدودة صوب السماء، هي نفسها الثورة الطامحة إلى الأنسنة والإنسان الحقيقي توقاً وشوقاً.
يساهم هذا المقال في الإضاءة على ماهية ثورةٍ، فتيلُها أطفال من درعا كانوا قد حملوا معول الهدم، قبل أن يحمله بعدهم ملايين المقهورين التوّاقين إلى الحرية، كمواصلة لمسيرة هدم طويلة وشاقة، تكوينها مدنيّ سلميّ، غايتها إسقاط نظام عائلة هي حتماً ليست كريمة، لطالما اعتقدت أن حياتها أثمن من حياة الآخرين، ونقلت كل أزماتها وتشوّهاتها وأمراضها إلى كل شيء في بلد عظيم اسمه سوريا!
لنقرأ معاً بعض المبادئ المقتبسة من جملة مبادئ خلص إليها تجمُّع وطني مستقل لا ينتمي إلى حزب أو تيار سياسي، نسوقها هنا كمثال يعكس الماهية المذكورة. تجمُّعٌ، كانت القوى والفاعليات الثورية في الغوطة الشرقية بريف دمشق قد أعلنت تشكيله بتاريخ 27/1/2013، ليكون الناطق الرسمي باسمها، والهيئة السياسية والإدارية في المنطقة نفسها، كمنطقة محرَّرة. جاء في المبدأ الثاني: “نعلن التزام أهداف ثورتنا والعمل مع الآخرين من أبناء شعبنا من أجل إقامة النظام التعددي الحر البديل لنظام التسلط والاستبداد، ودولة العدالة والمساواة والقانون والمؤسسات، والتي تعتبر الإسلام الحامل الأساسي لحضارتها وتاريخها، وهو مصدر مبادئ عملها القائم على عدم التمييز بين مواطنيها على أساس العرق أو الدين أو المذهب”. في المبدأ الرابع: “العمل من خلال التنسيق ومكاتب الارتباط مع مختلف مجالس الجيش السوري الحر وكتائبه للمساهمة في بناء التشكيلات العسكرية وتوحيدها على أساس وطني حديث مستقل عن السياسة وتجاذباتها. مهمته حماية الوطن والدفاع عن حدوده”. في المبدأ السادس: “العمل على حماية الاستقلال الوطني، ووحدة البلاد أرضاً وشعباً، والوقوف بوجه كل محاولات ودعوات التجزئة والتقسيم”. في المبدأ التاسع: “نؤكد أن هذا التجمع يرى أن التنوع الإثني والعرقي والطائفي عامل غنى وليس عامل انقسام، ويقدم ميثاق شرف للعيش المشترك مع مكوّنات الشعب السوري كافةً”. هذه المبادئ وغيرها مما جاء في البيان الختامي للمؤتمر التأسيسي للتجمع، تُطرَح ويُشتغَل عليها في كل المناطق التي حرَّرها الثوار وباتت تحت سيطرتهم، وهناك محاولات دائمة لكي يكون للشعارات المرفوعة في الثورة معنى واقعي وعملي يتنبَّه دوماً إلى ماهية الثورة في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة. مساواة ليست مساواة الهبوط بالجميع إلى مستوى واحد، إنما الارتفاع بهم إلى مستوى واحد. مثل هذه المساواة هي بعض ما يمكن استنتاجه، مثلاً، من تسمية إحدى الجُمعات: “واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا”. فلمّا كان صحيحاً أن التسمية تدقّ ناقوس الخطر، وتنبِّه ربما إلى وقائع معيّنة، مؤكِّدةً ضرورة تجاوزها، ولمّ الشمل وتجنّب الشرذمة، ونبذ ما قد يفرِّق، ويحرف الثورة عن مسارها، فالصحيح أيضاً، أن التسمية نفسها، تشي بالماهية الجدلية للثورة، إذ الحبل الثخين القوي والمتماسك، أصله حبال رفيعة هشّة كانت متفرِّقة، جُدِلَت معاً فصارت حبلاً مجدولاً كما الضفيرة. إنه جَدْل جدَلي يلفت إلى قوة وحدة التنوع والاختلاف في الثورة.
يمكن استشفاف ماهية الثورة من بعض التعبيرات اللغوية الخاصة بالثوار، كقول الضابط يوسف الجادر (أبو فرات) قائد العملية العسكرية التي انتهت بتحرير مدرسة المشاة 15/12/2012 في حلب: “والله مزعوج لأنو هاي الدبابات دباباتنا، وهذا العتاد عتادنا. كل ما بشوف حدا مقتول مِنّا أو منهم بزعَل”. في ساعات المعركة الأخيرة، استشهد أبو فرات، وظلت كلماته تلك، أثراً يدلّل دوماً على شخصية محارِب حق، شجاع وصاحب قيم وخُلق قويم، لم يكذب ولم ينافق، إنما قاتَلَ من أجل قضية عادلة. قضية شعب يريد الحرية والعيش الكريم.
قد يظن قارئٌ ما أن هذه الأمثلة تعارِض بقوة ماهية الثورة في احترام الإنسان وقيم السلم، لكن ذلك غير صحيح، فهي في الواقع أمثلة تصبّ في الماهية نفسها. نستطيع أن نستخلص من الأمثلة القليلة التي ذكرناها هنا أن الشعب السوري، على الرغم من الصراع الدامي الطويل الأمد، لا تزال لديه طاقة على الحب والعطف، ولم تنطفئ جذوة السلمية في ثورته، وبقيت مظاهر الحراك المدني تعمّ البلاد في أشكال متنوعة، لعل التظاهر أهمها. لماذا لم تمت مدنية الثورة؟ لأنها ماهيتها وجبلتها الأولية. وبها كانت الثورة هي هي، ولها ستظل تحنّ وتشتاق. ما كان حَمْل السلاح في الثورة السورية خياراً، بل اضطرار. وما من أحد – حتى أعداء الثورة (ضمنياً)- يمكنه أن ينكر سلميتها التي دامت شهوراً طويلة في قبالة وحشية قل نظيرها في التاريخ! إن كلاً من العَسْكرة، وملامح التطرف الديني التي “طرأت” على جزء من الثورة، هما نتيجة طبيعية وواقعية ومنطقية لقمع العصابة الحاكمة وإرهابها. منطقياً كذلك، باندثار الأسباب تزول النتائج. هذا الكلام هو ما نعتقده ردّاً مناسباً على كل تصريح أو تلميح مفاده: لكي لا تتحول سوريا “إمارة إسلامية”، يجب أن تبقى مزرعة لعائلة الأسد! العسكرة عَرَض، فيما المدنية في الثورة ماهية، وشتّان. العَرَض لا يقوم بذاته، ويتبدّل ويتغير، لكن الماهية قائمة بذاتها، هي حقيقة الشيء، وبها يكون هو هو.
***
الماهية الجدلية السالفة الذكر، جعلت علاقة الثورة السورية بكل شيء علاقة جدلية، يعمِّدها التأثر والتأثير. تأثرت الثورة، مثلاً، بما بدا للثائرين عدم اكتراث من المجتمع الدولي بمِحَنِهم ومآسيهم، وإحجامه عن مد يد العون لهم. وترْكهم، سنوات، يكتوون بنيران حاكمهم وزمرته. وقد كان هذا التأثر بادياً دوماً – وإنْ بتفاوت- في شعاراتها ولافتاتها، حتى أن إحدى الجُمعات سُمِّيت:” المجتمع الدولي شريك الأسد في المجازر”. يبدو أن هيغل كان مُحقّاً حين تكلم عن الرغبة في نيل الاعتراف والتقدير، كمحرِّك للتاريخ، تدفع البشر إلى الدخول في عراك حتى الموت، يسعى فيه كل فرد لنيل اعتراف الآخر بقيمته وجدارته. إذ شعور الثائرين السوريين بمرارة كبرى سببها عدم الاعتراف بثورتهم، وبهم كثائرين، كان له الأثر البالغ، ولّد لديهم إصراراً مضاعَفاً على الاستمرار بالثورة، على الرغم من التكلفة الباهظة لهذا الاستمرار بشرياً ومادياً!
إلا أن تأثير الثورة كان، على ما يبدو، أعمق من تأثّرها. حتى أنه قد يهجس المرء حيالها، فيتصوَّر أن استمرارها ربما يؤجِّج نيرانها أكثر فأكثر فتشعِل حرباً عالمية ثالثة. لكن الهاجس نفسه قد لا يكون مقلِقاً لذاك الذي يدرك أن لنيران هذه الثورة، وظيفتين: الحرق، والإنارة. فإذا كان من شأن الحرق ترميد ماضي الاستبداد والاستعباد والفساد، فالإنارة من شأنها الإشراق. لقد بلغ تأثير الثورة السورية السياسي والأخلاقي مبلغاً مهماً محلياً وإقليمياً وعالمياً، ومارست الثورة أدواراً تجلّى بعضها في “نشر الوعي”، حتى صارت كأنها قدوة، وما رفْع علم الاستقلال الخاص بها في تظاهرات معارِضة لأنظمة الطغيان في دول أخرى، وما ترديد بعض هتافاتها، وتداول أغنياتها وأهزوجاتها وألحانها في أنحاء شتى من العالم إلا أمثلة على ذلك. فهي برهنت، عبر التجربة، أن في مقدور كل شعب أن يهزم العالم إذا ما وقف في وجه إرادته الحرة، وأن يفرض سياسة بديلة من التي ثار عليها ويفرض انتهاجها، وخصوصاً أن ما يناضل السوريون من أجله هو الديموقراطية، وهذه ظاهرة عالمية. هي ليست ملكاً شخصياً للغرب، مثلاً، بل للإنسان، لأنها طريقه وتجربته أينما حلّ وكان. كما أن الكرامة والحرية والعدالة والمساواة هذه كلها حقوق إنسانية لا شأن لها بمكان وزمان، أو دين وعرق ومذهب وقومية وفكرة وعقيدة.
قل الشيء نفسه، بالنسبة إلى أدوار أخرى مارستها الثورة وكان لها تأثير مهم، كـ”الفضح”. فالثورة بدت كأنها قد عرّت كل شيء، حتى باتت الكاشف الإنساني الأهم، والاختبار الحقيقي والجدّي لصدقية أو لا صدقية كل شيء، عبر انقشاع الضباب عن كل شيء. ساهمت الثورة السورية في فضح عالم حقوق الإنسان الزائف، و”الأسرة” الدولية الأكثر زيفاً. فما جرى في سوريا من مجازر وجرائم حرب ضد الإنسانية، نكاد نجزم أنه سيظل وصمة عار على جبين البشرية. وسيذكر التاريخ، في صفحاته الأولى، أن ثمة شعبا من شعوب القرن الحادي والعشرين ظل أعواماً يُذبَح ويُباد ويُستباح، وظل العالم بزعاماته الرخيصة المتواطئة مع عميلها الرخيص المتواطئ، متفرِّجاً على المذابح الكبرى! هكذا، ستظل الثقة بالمنظمات الدولية، وبالأمم المتحدة، ومجلس الأمن على وجه الخصوص، في انحدار مستمر حتى الوصول إلى نقطة اللاعودة، التي قد تنطلق منها المطالَبة العالمية بإسقاط النظام العالمي القائم على التسلط والسيطرة والاستغلال، سعياً لبناء نظام بديل يُعلي من قيمة المجتمعات المدنية الحقيقية حول العالم، مجتمعات يكون لها شأن مهم في الحد من السلطة المطلقة لأي نظام.
*كاتبة سورية
النهار