في موضوعة التمثيل والممثلين السياسيين.
عزيز تبسي.
-1-
كتب جان سيغمان وهو يقارب ثورات الشعوب الأوروبية1848 ونتائجها:ولسوف تتحاشى(المقصود حكومات الأنظمة السياسية)،وهي المنبثقة عن نكبات عسكرية أو عن دعم جيوش صديقة،اللعب بالإبتكار الشيطاني لرومانسيين عديمي التبصر:أعني حق الإقتراع العام!”.
مازال هذا الإنجاز المعمد بتضحيات الشعوب هو الإنجاز السياسي اليقيني الذي لا يمكن تجاهله وتجاوزه،إلا بإبتكار آليات لتطويره ودعمه:كالدعوات لتوسيع نسب المشاركة،الرقابة على النزاهة،تكافؤ الفرص في الدعاية والميزانيات المخصصة لها،توفير الظهور الإعلامي بأزمنة متساوية لعموم المرشحين،وإطلاق المنظمات الرقابية غير الحكومية كعنصر ثوري من خارج البنى الدستورية يجدد القوة المحافظة في البناء السياسي التمثيلي،تفكيك المركزية البيروقراطية بتحويل عناصر من سلطة القرار إلى مواقع أخرى البلديات-الجامعات-المصانع…،تعزيز مشاركة الجماعات المهمشة………..ولا ينبغي الإستخفاف بحقيقة أن التجارب البرلمانية بعد الحرب العالمية الثانية تأسست على عنصر فاعل ومتين ،ثبات الرفاه الإقتصادي وقوته، كمنتوج وحصيلة لإندفاعة إقتصادية صناعية وزراعية ونقلات نوعية في تطور وسائل الإنتاج،مما فرض حالة إستقرار سياسي للأنظمة الرأسمالية يشبه الثبات، أنتج سلطة تبادلية لحزبين أو ثلاثة لا أكثر،محدودة بخيارات معلومة مسبقاً تتساوى فيها الخيارات العامة لمن كان له ماض إشتراكي مع المسيحي المُحّدث والوطني اللفظي، وعموم هذه التجارب إنحصرت فاعليتها وتثبتت لما ينوف عن نصف قرن في الجغرافية الأوروبية والأمريكية الشمالية وأستراليا،جديد التجربة أتى من أمريكا اللاتينية حين فعلت القوى الشعبية قوانينها،بتقويض وتحجيم الأدوار الفعلية لتدخل الجنرالات والمخابرات وسياسيين تابعين لهما،الحماة الرئيسيين للإحتكارات الإقتصادية الأمريكية والصناديق المالية الإمبريالية والمعبرين عنهما،عبرت عبر صناديق الإقتراع قوى إجتماعية وسياسية جديدة تحملها تحالفات شعبية وعمالية وفلاحية وحضور فاعل للسكان الأصليين،حسب كل تجربة ومميزاتها.
لكن في الشروط القهرية،ما هي العناصر التي تتأسس عليها هذه التجربة.من الذي يعطي حق الكلام بإسم مجموع لا يعرفونه ولا يعرفهم ولا يعبر عنهم؟
بداية نتذكر مالا ينسى :المشجب الفاشي،لنعلق عليه الأثار العميقة للتصفوية الفاشية الممنهجة والمستمرة منذ نصف قرن،ونضيف ضعف وتشتت القوى السياسية وعدم ثقتها ببعضها،وتبادلها الإتهام الدوري بالعمالة للأجهزة الأمنية ومفاعيل الإختراق الأمني،رغم أنه وللإنصاف كلها لا بعضها، تعاني من درجات متفاوتة من هذا الإختراق وآثاره،وبعضها إستكمل الإختراق الأمني بالتقاسم السياسي-الأيديولوجي للتصورات والمقاربات التي يتبناها مع الطغم العسكرية الحاكمة.
-2-
على وقع الإحتجاجات في محافظة درعا 18آذار2012 وتوسعها وتعمقها وتحولها إلى إنتفاضة شعبية ثورية،سعت القوى السياسية والشخصيات المستقلة ومن بقي صامداً من تشكيلات”ربيع دمشق”إلى إنتاج مقاربة تنظيمية-سياسية لها،وفي قراءة عاجلة لما تم إنتاجه،يمكن الوصول إلى حقيقة واضحة:أن هذه القوى أعادت إنتاج مقولاتها السابقة ولم تجري عليها نقداً أو تعديلاً،إستخدمت الإنتفاضة والتضحيات العظيمة التي قدمها الشعب الثائر،من أجل “تحريك “ملف القناعات الإصلاحية الراسخة عند قوى التجمع الوطني الديموقراطي والقوى الشيوعية-الفاشية التي عجزت خلال نصف قرن من إنتاج خطاب فكري وبرنامج سياسي منبثق عنه،يجعلها على تمايز عن مشروع الطغمة العسكرية،فتثبت في موقع التبعية الذيلية لها،وكل إنتاجها يُدرج في النسق التبريري لهذا الخيار النهائي الذي عبرت عنه لآلاف المرات بكونه،تحالف إستراتيجي.
وبقايا إعلان دمشق إعتمد خطاباً جذرياً على المستوى اللفظي وأقرب إلى المزادوة العمياء التي لا تعي حدودها وإمكاناتها،لذلك بقي عاجزاً عن إنتاج مقاربة للتغيير وشروطه وإمكاناته الواقعية وبرنامج تعبوي يساهم في نقل هذه التصورات إلى واقع ثوري.
من بداية تشكيل هيئة التنسيق الوطني،دعي”تجمع اليسار الماركسي”وهو تجمع محدود الفاعلية والتمثيل،(وللإنصاف لاتتوفر فرصة في شروط الديكتاتوريات المعمرة لتشكيل تنظيمات مناضلة وشعبية ولا لإختبار برامجها السياسية،وللبرهنة على ذلك يمكن العودة إلى وثائق الأحزاب أو بعضها التي خضعت تجاربها مع شعوبها لهذا الشرط السياسي القهري،إسبانيا-البرتغال-اليونان-عموم دول وسط وشرق أوروبا في المرحلة السوفياتية الخ)ومرتبك في خياراته السياسية ووضوحه المعرفي،يجمعه مع الحركة الشيوعية التقليدية التي شكلت منذ نصف قرن ظهيراً للطغمة العسكرية ومتكيفة مع خياراتها العامة،الكثير من القراءات والمقاربات أكثر بكثير مما يفرقه عنها ويميزه عن خياراتها العامة،ويتمكن هؤلاء من الحصول على مقعدين تمثيليين لكل تنظيم في هيئتها التنفيذية،رغم أنهم بمجموعهم بلا أي وزن تنظيمي أو سياسي،وكان الأجدر بهم الإلتحاق دون خجل بفرعية من فرعيات إحدى تشكيلات الحزب الشيوعي السوري الثلاث،إلا أن إنتهازيتهم العميقة هي وراء خيارهم الهزلي،وقبول كل جماعة منهم بمقعدين أتى تتويجاً لسمات الإحتيال والكذب والسرقة الكامنة بدواخلهم،ودفع بغير وعي لتدمير أسس التمثيل ومصداقيته في هذا الشكل الإعتباطي الذي أنتجوه ،إن كانت جماعاتهم لا تجمع تنظيمياً بين خمسة و عشرة أفراد على الأكثر وبلا أي مقومات تنظيمية كإصدار جريدة أو تشكيل هيئة.بعضهم سيغدر بهيئة التنسيق وتجمع اليسار الماركسي في آن،بعد إشتداد الإنتفاضة،ويغادرها إلى مواقع الفاشية حيث مكان التعيين السياسي للفظية اليسارية المبتذلة .لكن تسبب حضور هؤلاء الإحتيالي وتجند قوى أقل هامشية منهم في الدفاع عن تمثيلهم-غير المعبر عن حقيقة وضعهم،وهو ليس سراً من أسرار العمل السياسي- في إبتعاد إعلان دمشق عن هيئة التنسيق،الذي كان ممثلوه يشاركون بصمت في لقاءاتها التحضيرية،والتي يمكن إعتبارها شكلاً للمصالحة بين طرفي المعارضة التقليدية-تحت ضغط الإنتفاضة الشعبية-بين من بقي داخل إعلان دمشق والتجمع الوطني الديموقراطي.
وسيعقب مناضل وكاتب سوري حصيف كنوع من التقييم لما حصل”إنتهت النقاشات إلى تأسيس هيئة التنسيق،وهي تكوين جديد حلت فيه تنظيمات يسارية لا شأن لها ولا دور محل جماعة الإعلان”مقال:كي لا تصاب سوريا بداء البعث على يد المعارضة ميشيل كيلو جريدة السفير أيار2012
وحتى لا يأخذنا الإضطراب في التقييم لإعلان دمشق،الذي يمكن إعتباره الشكل الأكثر نضجاً،بحدود التجربة السياسية السورية،في مقاربة برنامج التغيير وإنتاج أدواته،وهو ثمرة لمسيرة طويلة من النقاشات واللقاءات والتفاعلات بين بقايا الأطر الحزبية وإندفاعة”لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا” والمثقفين والشخصيات العامة لما بات يعرف ب”ربيع دمشق” ،لكن ماتبقى من تجربته قبل 18 آذار 2011وبعدها يمكن إعتباره بقايا إعلان دمشق،بعد أن إنفض عنه معظم من ساهم في إنطلاقته،ولم يبقى فيه سوى حزب الشعب الديموقراطي ومجموعة محدودة من المستقلين،وقوى تشبه في خصائصها “أحزاب”تجمع اليسار الماركسي.ويمضي هؤلاء إلى المجلس الوطني،ويحصلون على أكبر عدد ممكن من المقاعد في هيئاته العليا بما يفوق وزنهم ودورهم وفعاليتهم.
هذا نمط من العبث في التمثيل الحقيقي للإنتفاضة وقواها الحركية الفاعلة،وإستبداله بتمثيلات بيروقراطية راكدة مملة ممجوجة،وسنجد مثله في مقاربة لتفاوت التمثيل بين القوى الإسلامية الحركية وجماعة الإخوان المسلمين وكتائب الجيش الحر والضباط المنشقين وغيرهم.
مما أنتج وعزز حالة التفارق والتناقض بين ما بات يعرف بقوى الأرض:قوى الإنتفاضة الشعبية الثورية وممكناتها وخياراتها،وقوى المكاتب والدهاليز والفنادق:بيروقراطيو الفساد والرشوة والإنحطاط السياسي.
عزيز تبسي حلب أيلول2012.
خاص بصفحات سورية.