في نقد تحريف الخطاب الغربي الحديث/ موريس أبو ناضر
تكشف عالمة الأنتربولوجيا الأميركية العربية الأصل، لورا نادر في كتابها المترجم إلى العربية تحت عنوان «الثقافة والكرامة – حوار بين الشرق الأوسط والغرب» (مؤسسة الهنداوي- القاهرة)، أنها ابنة لوالدين سافرا مع الجيل الأوّل الى الولايات المتحدة الأميركية، وأنها تربّت على ثنائية اللغة والثقافة، الأمر الذي منحها فرصة للاطلاع على العديد من الحوارات حول معاني الثقافتين العربية والأميركية.
علّمت لورا بعد حيازتها على دكتوراه في الأنتربولوجيا من جامعة كاليفورنيا في بركلي، وألّفت كتباً تناولت فيها وضع المرأة، والعنف، والإرهاب، وبوجه أعمّ ثقافة الشرق الأوسط، بما فيها من جغرافيا، ولغة، وروابط دمّ، ومزارعين مستقرّين. وبدو رحّل، وغير ذلك.
انصبّ اهتمام الباحثة الأميركية العربية الأصل في كتابها الذي بين أيدينا على اكتشاف الصلات المعقّدة التي تربط الشرق بالغرب من وجهة نظر انتربولوجية، ومن أجل التمييز بين الصورة النمطية للعلاقة بين الشرق والغرب، وواقع هذه العلاقة. كما تستعين بالوثائق العربية منذ حملات الصليبييّن، حتى الأدب العربي المعاصر، من أجل التخلّص من المنظور الذي يرى به الشرق والغرب كل منهما الآخر.
تعتبر صاحبة الكتاب أن غزو نابليون لمصر، هو بداية سلسلة جديدة من التواصل بين العرب والغرب. فقد أثمر اهتماماً أوروبياً جديداً بالشرق، تمثّل في عصر البعثات الأوروبية المعروف بالاستشراق، كما تمثّل في بدأ الشرق في إعادة استكشاف الغرب، عبر رحّالة لم يعتبروا رواداً لإمبريالية إسلامية مكرّسة لإحداث تغيير في الدين والثقافة كما حاول المستشرقون، بل دوّنوا أخباراً تجريبية عن أوروبا بالدقّة نفسها التي اتبعها العديد من إخوانهم، لوصف رحلاتهم داخل العالم الإسلامي. لقد ذهب هؤلاء الرحالة بعقول منفتحة كما تقول الباحثة، معتبرين أن السفر وسيلة لتجربة ما هو مختلف عنهم ثقافياً، واجتماعياً، وليس استنكاره والشعور بالتفوّق عليه.
يمكن اعتبار رفاعة الطهطاوي (1770- 1849) من أوائل الرحالة الذين ذهبوا الى الغرب. فقد قصد باريس موفداً، وأمضى فيها خمس سنوات كتب في خاتمتها كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريس»، نقل فيه لأبناء جلدته صورة شاملة متعدّدة الأبعاد لباريس، ويعكس في نقله حماسة متقدة للتعلّم من الغرب، والتزاماً تاماً بذلك، مع ثباته الشديد وتمسّكه بثقافته العربية الإسلامية، محافظاً بذلك على كرامته وهويته الثقافية. أضف الى ذلك أن الطهطاوي الذي نقل الواقع نقلاً مباشراً كوصف طريقة تناول الفرنسيين لطعامهم، أو أصناف أطباقهم، أو لأدوات المائدة التي يستخدمونها، أو طريقة إعدادهم الطعام، أو معاملتهم للنساء، أو أسلوب حكمهم، تجنّب المقارنات الضمنية، أو الخفيّة التي تظهر في معظم الروايات الأورو- أميركية الحديثة، أو غيرها عن الشرق، بل يجعل مقارناته صريحة، وبعيدة عن العجرفة واستعلاء المكانة. فهو يشير على سبيل المثل الى أن العرب لهم الفضل في تعليم الأوروبيين فنون الرياضيات والعلوم والقانون والسياسة. ولا ريب «أن الفضل يعود للمتقدّم» كما يقول.
ويستطرد قائلاً: إن البلاد الإسلامية قد برعت في العلوم الشرعية، ولكنها احتاجت الى البلاد الغربية في كسب ما لا تعرفه. وهذا ما يعود ويؤكّده في «إمام في باريس» إذ يستشعر قارؤه كما تقول الباحثة عن القرب والحميمية بين مصر وفرنسا، وليس التباعد بين ثقافتين مختلفتين ومتشابهتين في الوقت نفسه، وتضيف الباحثة أن العقل هو أهم ما يتجلّى طوال صفحات الكتاب، باعتباره نقطة انطلاق نحو ترسيخ الإنسانية المشتركة التي تجمع بين العرب والغربيين، ولكن الطهطاوي لا يحاول بالرغم من ذلك تجنّب الاختلافات أو إخفاءها، بل يستغّلها ليؤكّد إمكانية تحقيق التعايش المشترك.
ويمكن اعتبار ادوارد سعيد بعد الطهطاوي أحد المراجعين الساعين الى الكشف عن التحريف في الخطاب الغربي، بهدف الوصول الى منظور أكثر واقعية يشبه منظور الطهطاوي. فكلاهما يجهد لتكوين منظور بإمكانه التغلّب على العصبيات، وضيق الأفق المرتبطين بالغرب الذي اعتبر نفسه مركز الكون، ومصدر مدنية جديدة، وما يثير اهتمام الباحثة الأميركية في كتابات سعيد، هو كيف يربط من خلال تعليقه على الغرب، بين الغرب وبقية العالم. إذ بينما قيّد الطهطاوي نفسه بسلوكيات الفرنسيين وتقاليدهم ومؤسساتهم في باريس، ركّز سعيد على التناول الأكاديمي الغربي للشرق، بعد أكثر من قرن من الاستعمار والإمبريالية ذلك أن تركيز سعيد الأساسي كان منصبّاً على استخدامات التمثيل الأكاديمي للأمور في إطار القوى المهيمنة التي كان عليها إدارة الشرق، بل وحتى صياغة تشكيله من النواحي السياسية والعسكرية والأيديولوجية. كان الطهطاوي بكلام آخر مثل ميشال فوكو اليوم، مهتماً بعملية السيطرة خارجياً، أما تحليل سعيد فقد وسّع نطاق عملية السيطرة خارجياً، ولهذا يعدّ كتابه «الاستشراق» كتالوغاً يستعرض فيه مظاهر الانحياز الغربي ضدّ العرب المسلمين، التي تظهر من خلال الأعمال الأدبية، والأعمال التي تعرض قصص الرحلات والنصوص الأكاديمية وغيرها.
سعى سعيد الى أن يعرّي على ما تقول صاحبة الكتاب، هذا النوع من الخطاب الغربي، ويكشف عن طبيعته القمعية، ومشاركة العرب في صنعه. وللتدليل على ذلك، اقتبس كلمات فرانز فانون التي تقول «الرجل الأبيض هو من يصنع مفهوم الزنجية، ولكن الزنوج أنفسهم هم من يؤسسون لمفهوم الزنجية».
في متابعتها للعلاقات بين الشرق والغرب، تتوقّف الباحثة أيضاً عند أعمال ميسون سكرية التي تركّز في أبحاثها على عملية صياغة الأفكار، إبان المواجهات الاستعمارية الجديدة التي يتمّ خلالها تحويل الثقافات من ثقافات وطنية الى ثقافة تتماشى مع الثقافة الأميركية وذلك بتعليم الشباب ريادة الأعمال والقيادة والانتقال من المدرسة الى العمل، والتشبّه بنمط الحياة الأميركية في الأكل والشرب والتفكير. كما تتوقّف عند أعمال الباحث اللبناني جورج صليبا الذي يدرّس في جامعة كولومبيا الأميركية، بخاصة عمله الذي عنونه «العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية»، وفيه يعرض صليبا نصوصاً فلكية كتبت في العالم الإسلامي في ما بين القرنين التاسع والثالث عشر (مثل أعمال ابن الشاطر في دمشق) وتم دمجها في ما بعد ضمن أعمال علماء عصر النهضة في أوروبا، من أمثال كوبرنيكوس حتى صارت في النهاية جزءاً من التراث العلمي الغربي. وعلى الرغم من الرغبة في إثبات أسبقية العلم الغربي، فإن أكثر الأفكار الرياضية والفلكية إبداعاً التي استخدمت خلال عصر النهضة الأوروبي، كانت مأخوذة من الحضارات العربية الإسلامية والصينية، كما تؤكّد الباحثة الأميركية نقلاً عن الباحث اللبناني جورج صليبا.
يقدم كتاب لورا نادر العالمة في الأنتربولوجيا تجربة شخصية ومهنية يزيد عمرها على نصف قرن من الزمان، ويثرينا برؤى الشرق والغرب كل منهما تجاه الآخر.
الحياة