قانون أحزاب جديد!
ميشيل كيلو
من المفرح حقا أن يصدر قانون أحزاب جديد في سوريا. من المفرح كذلك أن يصدر القانون عن جهة رسمية لطالما قالت إن حزبها وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية المتحالفة معه يمثلان سائر أطياف وطبقات ومصالح وآيديولوجيات المجتمع السوري السياسية والثقافية، والاقتصادية والاجتماعية، القائمة والمحتملة القيام، اليوم وغدا وإلى أبد الآبدين. في المقابل، من المحزن أن يصدر القانون بالطريقة التي قدمه من خلالها الإعلام السوري، وهو رسمي بنسبة ألف في المائة، وتحدثت عن «رعاية تأسيس الأحزاب وتنظيم عملها». الجهة التي تعترف بأن حزبها وحلفاءه ارتكبوا أخطاء جسيمة جعلتهم بحاجة إلى إصلاح جذري، بعد أن اكتشفوا أنهم لا يمثلون المجتمع السوري ومصالحه وطبقاته وآيديولوجياته، ولهذا تقر لأول مرة منذ قرابة خمسين عاما بحق السوريين في تكوين أحزاب أخرى، تريد – صدقوا أو لا تصدقوا – «رعايتها وتنظيم عملها»، وهذا يعني في واقع سوريا وفي ضوء خبراته أنها تريد، بكل بساطة، أحزابا محدودة الحرية، ناقصة المسؤولية عن نفسها ومقيدة الصلاحيات والإرادة والاستقلالية، قرر مصدر القانون أنها تحتاج إلى رعاية وتنظيم من الجهة الرسمية، التي لم يعرف عنها حسن رعاية أحزاب الجبهة، حليفتها، التي أسلمت أمرها لها، وألزمت نفسها برسم سياساتها في ضوء مقررات حزب البعث القطرية وبرامجه، وبالامتناع عن «النضال» بين الطلبة وفي الجيش، فكانت النتيجة تفتيتها – بمعنى الكلمة الحرفي – وغيابها عن الشأن العام، حتى إن أحدا لا يتعب نفسه اليوم لمعرفة كم صار عددها، وإن عرف البعض أنها كانت خمسة عند تأسيس الجبهة، ثم انشقت جميعها، حتى إن الحزب الشيوعي – على سبيل المثال – المعروف بصرامة تنظيمه وخضوع أعضائه شبه الأعمى لقادته، صار أربعة أحزاب وبعض الكسور. أما رعاية البعث نفسه من قبل قياداته، فتستحق أن يفرد لها كتاب طويل جدا، يبين كيف تحول من حزب جماهيري حقا قبل استيلائه بانقلاب عسكري على السلطة، إلى واحدة من أدوات سلطة أمنية صرف، وكيف فقد استقلاليته عن أهل الحكم وما كان له من رصيد جدي لدى الشعب، وعزل عن الناس ومشكلاتهم، كما ظهر خلال أحداث الأشهر الأخيرة في كل مكان، علما بأنه انقلب منذ سنوات كثيرة إلى ما يكاد يكون تنظيما افتراضيا، بدلالة دراسة أجريت عام 2006 حول نسبة حضور اجتماعاته، بينت أن من يواظبون عليها لا يتعدون في دمشق العاصمة، مركز السلطة الحديدية، 6.4% من أعضائه. وللعلم، فإن النظم الشمولية جميعها تقتل أحزابها وتقوض آيديولوجيتها، مع أنها لا تتوقف عن التحدث باسمها ومنح شرعيتها منها، على الرغم من أنها تفرغها من معانيها بل وتقلبها إلى نقيضها.
أنتقل الآن إلى رعاية تأسيس وتنظيم الأحزاب الجديدة، فمن الذي سيرعاها؟ يقول القانون الجديد إنه وزارة الداخلية، التي سيرأس وزيرها لجنة اسمها «لجنة شؤون الأحزاب» تضمه إلى نائب رئيس محكمة النقض عضوا، وثلاث شخصيات عامة مستقلة يسميهم رئيس الجمهورية لمدة ثلاث سنوات. إن لجنة الإشراف هذه هي إذن هيئة رسمية بنسبة مائة في المائة، ستكون الأحزاب التي تسمح بتأسيسها تحت يدها، كما ستبين تفاصيل الشرح.
سيقدم طلب تأسيس الحزب إلى هذه اللجنة، موقعا من خمسين مؤسسا لا يجوز أن يكون أي منهم محكوما بجرم شائن (المادة 9). بما أن السياسة كانت دوما «جرما شائنا» في سوريا، وبما أن معظم المهتمين سياسيا محكومون بهذا الجرم الشائن، فإن من يريد تأسيس حزب سيبحث على الأرجح، حتى لا أقول بالتأكيد، عن مؤسسيه خارج عالم السياسة، وإلا رفضت اللجنة منحه الترخيص القانوني، وآخذا بالاعتبار نقطة مهمة هي ألا يقوم الحزب «على أساس ديني أو قبلي أو مناطقي أو فئوي أو مهني» (المادة 5)، ويكون ملزما بممارسة نشاطه… «بهدف المشاركة في السلطة وفقا لقانون الانتخابات العامة» (المادة 4). بينما يجب على طلب التأسيس أن يتضمن (المادة 10):
– عنوان المقر الرئيسي للحزب ومقاره الفرعية إن وجدت، على أن تكون جميعها داخل سوريا، وألا يكون أي منها ضمن أبنية إحدى الجهات العامة أو المؤسسات الخاصة أو الهيئات التعليمية أو الأماكن الدينية أو الجمعيات الخيرية (ليس هناك أي حزب يخالف هذا الشرط اليوم غير حزب البعث الحاكم، الذي يبدو بوضوح أن القانون لن يطبق عليه). سؤال: هل يعقل أن يستأجر حزب قيد التأسيس مقرا أو مقرات (أجرتها ملايين الليرات سنويا) قبل الترخيص له؟
– الأهداف والمبادئ التي يقوم عليها الحزب والبرامج والوسائل التي ينتهجها لتحقيق هذه الأهداف.
– كيفية تنظيم هيئات الحزب… مع تأمين كامل الممارسة الديمقراطية داخلها.
– النظام المالي للحزب وتحدد فيه مختلف موارده، وكذلك قواعد وإجراءات مسك قيود حساباته.
هذه الشروط، التي تكون في العادة متغيرة ومرنة في الأحزاب كما في حياتها السياسية المتبدلة، يجب أن تتحقق قبل تقديم الطلب، كأن يكون للحزب مقرات وموارد مختلفة يعرفها وهو يحدد الوسائل التي سينتهجها لتحقيق أهدافه. اللافت هنا هو طابع الشروط الفضفاضة، الذي يسمح بتدخل لجنة شؤون الأحزاب في شؤونها، لترويضها وإبقائها تحت العين واليد، وإلا ما معنى شرط تأمين «كامل» الممارسة الديمقراطية داخل هيئات الحزب، ومن الذي سيحدد كمالها من نقصانها غير «لجنة الإشراف». يبدو، أخيرا، أن «تأمين الممارسة» المطلوب سيكون قبل تأسيس الحزب، ما دام أحد شروط الترخيص له!
بعد تأمين هذه الشروط، على الحزب الالتزام بما يلي (المادة 5):
– تشكيل هيئاته واختيار قيادته ومباشرة نشاطه على أساس ديمقراطي (تحدده لجنة إشراف شكلتها سلطة لا تطيق منذ 50 عاما سماع كلمة ديمقراطية!).
– ألا تنطوي وسائل الحزب على إقامة أي تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية علنية أو سرية، أو استخدام العنف بأشكاله كافة أو التهديد به أو التحريض عليه. (لن يطبق هذا المطلب المحق جدا والمهم جدا على البعث، لذلك سيكون لدينا حزب مسلح من أخمص قدميه إلى قمة رأسه، يواجه أحزابا منزوعة الأنياب؟)
– ألا يكون الحزب فرعا أو تابعا لحزب أو تنظيم سياسي غير سوري (مرة أخرى الازدواجية: بعث قومي وغيره قُطري حكما).
ما صلاحيات اللجنة ورئيسها؟ إنها هي التي تعطي الترخيص، وتراقب الحسابات، وتتدخل في حياة الحزب الداخلية مراعاة لـ«تأمين كامل الممارسة الديمقراطية في هيئاته»، وهي التي تشرف على موارده المالية، التي يجب أن يضعها تحت تصرفها في أي وقت، والتي من حقها الاعتراض على أي تغيير يطاول قيادته أو قوامه التنظيمي أو أنظمته الداخلية، ومراقبة مقراته ووثائقه ووسائل اتصالاته وتفتيشها أو مصادرتها بقرار قضائي، وهي التي تعتبر «أمواله في حكم الأموال العامة والقائمين على شؤونه في حكم الموظفين العامين» (المادة 24)، والتي لها حق حله بطلب معلل يقدم إلى القضاء، إن هو أخل (من وجهة نظرها طبعا) بأي شرط من شروط تأسيسه، وهي التي توقف نشاطه بصفة مستعجلة بطلب من المحكمة يوجه إلى رئيس اللجنة، والتي تفرض عليه عقوبات وغرامات مالية، بعد أن حددت هويته بطريقة تجعل من السهل اختراقه، إن حدث وتم الترخيص له أصلا.
تطرح نفسها هنا ملاحظات ثلاث لا ترد في القانون، أولاها: أن التداخل بين الأجهزة السورية، التي يخترقها الأمن جميعها بخبرته الواسعة في ضبط الحياة العامة خارج أي قانون، يمكن هذه الأجهزة من قراءة وتفسير وتطبيق نص القانون الجديد بالأسلوب الذي يروق لها، والذي سيؤدي، في حال عدم كبحه ووقفه، إلى تأسيس أحزاب ستغدو أدوات لها تشبه أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية الحالية، التي ليست اليوم غير بؤر سلطوية تمد خيوطها الواهية إلى قطاعات معينة من المجتمع، لتضبطها قدر الإمكان وتعكس باقتدار ما يجري فيها مما قد يمس بالأمن. وثانيتها: أن تطبيق القانون على البعث يعني نهايته. وبما أن هذا يكاد يكون ضربا من المحال، فإن عدم تطبيقه عليه يعني إفراغ القانون من مضمونه، والحيلولة دون تأسيس أو نشوء أحزاب جديدة ومستقلة حقا في سورية. وثالثتها أنه سيسمح للبعث بامتلاك تنظيمات عسكرية وشبه عسكرية، وسيبقى حزبا قوميا، وستبقى وزارة الداخلية ولجنة الإشراف تابعة له، فيكون لدينا في الواقع نوعان من الأحزاب: حزب سلطة وأحزاب تحت رقابته وإشرافه، حزب أجهزة تسيطر على كل شيء باسم البعث، وأحزاب تابعة لها وظيفة قريبة جدا من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية الحالية، لكنهم يسمونها جديدة، مع أنها ستلعب أدوارا قديمة وعفا عليها الزمن!
* كاتب سوري معارض
الشرق الأوسط