قدريّة أم اختيار يتعذّر الخروج عنه؟
بشير عيسى
كلّما ولجنا عصراً جديداً، ازدادت حمولتنا المرَّة من التّاريخ. نعيد إنتاجه رغماً عنه، نفسّره، نؤوّله، نجاهد حتّى آخر نفسٍ كي لا ندفنه، مخافة أن تضيع معه ذواتنا الهائمة في سماء الغيب. أمّةٌ نذرت نفسها حارسةً لوصايا أسلافها، أهو قدرٌ؟ أم أنّ سلاطينها أرادت لها ذلك؟ وهل من طريقٍ يمكن اجتراحه؟ لنكتب في صفحاتنا ما تريده الأرواح المتمرّدة والعقول المغيّبة.
مازالت معاركنا تنشد تنويراً سبقنا إليه الآخرون منذ زمن، ونحن في صراعنا بين طغيان حنابلة ابن تيميّة، وفلسفة ابن رشد، مروراً بمتكلّمي المعتزلة.
المشكلة أنّ كتّابنا متماثلون وإن تعدّدت قراءاتهم، سيبقى الحاضر نسخاً لما تقدّم من الكتّاب، إذ لا شرعيّة لأيّ جديد أو قديم، بعد أن جفّ حبر النبوّة، فما العمل؟ ومتى يَقنع سادن الهيكل أن لا وصيّة له على ضمائر النّاس؟ وأن الأخلاق فرديّة، ومتى لم يتحرّر الفرد من خوفه، ويفتح لحلمه باب الأسئلة على الحريّة، والجمال، سنظلّ ندور في حلقة مفرغة تكرّس الاستبداد فكراً ووسيلة.
مأساتنا أنّنا نفترض نصّاً يقدّم الخلاص لآلام النّاس، من هنا ترغب كلّ قراءة في تملّكه، وهذا يشكّل أسّ العنف، حيث يتحوّل الخلاف إلى صراع إلغاء واستحواذ، وفي أحسن الأحوال، حوار يتحرّك على أرضيّة تحكمها المجاملات والنّفاق الدّيني والسّياسي. وبقدر ما تحضر التقيّة تغيب الشفافيّة، إذ في كلّ نكوص تمرّ به، ينكشف وجهها الحقيقي، وجه ذو نزعة تسلطيّة زمانيّة تتوارى خلف قيم، يفترض أنّها روحيّة، تترفع عن كلّ ما من شأنه أن يعيق سموّها. أمام هذه الغاية “النبيلة” يتمّ اختراع وسائل التّبرير، خدمةً لحماية “النّاموس الإلهي”، عندها تجوز إراقة الدّماء، لتطهير النّفس، وتقويم الدّين والذّود عنه، عبر تنقيته من الدخلاء والمنافقين، فالإنقاذ لا يتمّ إلا بالعودة إلى صحيح الدّين، والذي يتجلّى “بالصّحوة”، من هنا يأتي دورهم كرسل، اختارهم الله لتبليغ كلمته التي ضلت عنها البشريّة، فارتضت لنفسها أن تُحكم بشرائع غير شرعته، مقدّمين أرواحهم دون حساب، فماذا يريد الحاكم أفضل من ذلك، ليبقى عليهم راعٍيا وأميرا! أهو قدرنا أم أنّه خيار يتعذّر الخروج عنه؟
يقول الإمام “إن لم تكن أخي في الدّين، فأنت في الإنسانيّة أخي” والسّؤال: أين هي الإنسانيّة إذا توحّش الدّين؟ أن يقتل الإنسان دفاعا عن النّفس، أو الأرض أمرٌ مشروع، لكن من غير المعقول أن يقتل على أساس العرق، أو الدّين، أو المعتقد. إن الطامة الكبرى التي لحقت بالإنسانيّة، هي في تكريس المطلق على البشر رغماً عنهم، على اعتبار أنّهم ضالون، يتوجب هدايتهم إلى جادّة الصواب ولو كرهاً، وإلا استبيح دمهم وعرضهم ومالهم. لقد كان لدى العرب عصبيّة قبليّة مقابل تعدديّة دينيّة سمحة، وقد بقيت عصبيّتهم القبليّة مقابل خسارتهم لتعدّديتهم الدّينية، إذ حلت محلّها عصبيّة دينيّة فرّخت عصبيّة طائفيّة، أدّت إلى تشيئ الآخر، من ثم أفضت لامتلاكه. عندها أصبح السّيف ناسخاً لكل كلمة تخرج عليه، فانزوت الحكمة أمام ثقافة العنف، حورب الإبداع، “وكل بدعة ضلالة” وكُفرّت الفلسفة، “من تفلسف تزندق”، ومنذ ذلك الزّمن دخل العقل العربي في غيبوبة الغيب، وكلما حاول أن يصحو تقوم منابر الخوف عليه ولا تقعد.
لقد اختزل سواد المسلمين العلم بالشق الدّيني، وبات رجل الدّين “عالما”، فأيّ بؤس تعيشه هذه الأمّة؟ العلاّمة البوطي يرى أنّ حريّة الإنسان تكمن في عبودية الله، فكيف استقام معه هذا؟ بينما يطالب الإسلام المعارض بالديمقراطيّة ليطبق شرع الله، فأيّ حريّة وديمقراطيّة ننتظر من ربيعنا العربي؟ هل استبدال دكتاتور بطاغية وربّما بأمراء طوائف هو ما سوف ننتظره؟ هذا هو فضاؤنا الذي عجزنا عن خلخلته، لا يمكن أن ينتج سوى مزيداً من الإقصاء والعنف وتشريعاً لثقافة الكراهيّة، إذ لم يعد الوطن قادراً على حمل كلّ أبنائه، فالثّورة تقتضي القصاص من كلّ الفلول والموالين، والنتيجة جراحٌ تُنمّي وحوشا، لتفترس ما تبقّى من إنسانيّتنا.
ثمّة وقفة مع ذواتنا وموروثنا الثقافي لم ننتصر لها بعد، وما لم ننجزها، سنبقى ندور بحلقة مفرغة من العنف والثأر، تطحن البشر قبل الحجر. فعن أيّ ربيع نتحدّث ونحن لم نخرج من شتاء نصوصنا الطّويل. في بلادنا تدور حروبٌ ظالمة، نصرة النّهب لأسياد العولمة، نغفر بها لمن احتلنا وسرقنا، ولا نغفر لبعضنا “فصراع ذوي القربى أشدّ مضاضةً” فما أحوجنا اليوم إلى رجالات بقامة غاندي ومارتن لوثر كينغ ومانديلا، كي نسلك الطّريق الصّعب، إذ ربّما حينها، نتمكن من إنقاذ ما يمكن إنقاذه. في بلادنا لا يأتي أحرار العالم لنصرتنا، بل يأتوننا من كل فج عميق، مدجّجين بفتاوى شيوخ العمالة، كي يحجزوا فوق دمنا مكانا لهم في الجنّة، فيما أسيادهم يصادرون أرضنا ونفطنا!
على هذا الأساس، يقطع الغرب السياسي كلّ السّبل التي من شأنها أن تفضي إلى الحوار، مادام هناك طرفا لا يرضى عنه، لذلك يحرّضّ ويموّل ويرسل السّلاح ويختلق الحجج والأكاذيب لإطالة أمد الصّراع، حتى إذا ما تعب المحاربون، دخل دخول الفاتحين، نصراً للحريّة والديمقراطية!
محالٌ أن تتحقق الديمقراطيّة عندنا، ما لم يتمّ فصل الدّيني عن السّياسي، بمعنى أن تكون في الرّأس قبل الصّندوق، كما يراها المفكّر جورج طرابيشي، كونها ثمرة تراكم معرفي، تستوجب القطيعة مع خطاب التريّث، والسّؤال هنا: هل من مكان للديمقراطيّة في رؤوس من لم يغادرها هوس الثأر منذ اجتماع السّقيفة.
موقع الآوان