صفحات الناس

“قرى الأطفال”في سوريا: فرع أمني آخر؟/ مجد الخطيب

 

 

في مدخل شارع المالكي الدمشقي، الذي يحظى بحراسة أمنية مشددة كونه مكان إقامة كبار مسؤولي النظام السوري، تقف سيارة تُقلُّ أطباء عند الحاجز في أول الحي، ويهم العناصر بتفتيشها، قبل أن يقول أحد الركاب: “نحن أطباء نعمل في منظمة المدام سمر”، حينها يبتسم الضابط المسؤول عن الحاجز بابتسامة رضى، قائلاً: “أهلاً وسهلاً.. تفضلوا بالدخول”.

اسم منظمة “قرى الأطفال السوريين” المعروفة اختصاراً بـ”SOS” يبقى مجهولاً بالنسبة لعناصر الحواجز الأمنية التي تُقطّعُ أوصال العاصمة. لكن ذكر الاسم الآخر لـ”القرى” المعروف بـ”منظمة المدام سمر” يكفي للحصول على معاملة خاصة تمنع التعرض لأي من كوادرها، كما أن مركباتها يمكنها الدخول إلى جميع المربعات الأمنية، ولأعضائها حق المرور على الخط العسكري المخصص لضباط النظام على الحواجز.

رئيسة جمعية “SOS” سمر دعبول، ابنة محمد ديب دعبول المعروف بـ”أبو سليم” الذي شغل منصب مدير مكتب حافظ الأسد ومن ثم ابنه بشار، ما أمّن لها الكثير من الصلاحيات، ليس أقلها أن مقر إدارة جمعيتها يقع في حي المالكي، بالقرب من قصر الرئيس. ومقر الجمعية في الوقت نفسه هو المنزل الذي تقيم فيه سمر دعبول.

“قرى الأطفال” تعتبر منظمة غير حكومية، غير ربحية، كما تُعرّف عن نفسها، وتتخذ من النمسا مقراً رئيسياً لها وتنتشر فروعها في 134 دولة. وتأسس الفرع السوري لها في عهد حافظ الأسد في العام 1975، وتم افتتاح أول “قرى الأطفال” في العام 1981 في منطقة قدسيا، ومن بعدها تم افتتاح مركز ثانٍ للقرى في خان العسل في حلب والذي ظل العمل فيه قائماً حتى العام 2012، قبل أن يتم نقله إلى دمشق. وازداد نشاط الجمعية بعد العام 2011، وانتشرت بيوت لها في كل من صحنايا والدويلعة في ضواحي العاصمة، وكذلك في منطقة حصين البحر في طرطوس.

استطاعت “المدن” دخول إحدى “قرى الأطفال” في ضواحي دمشق، والواقعة في منطقة الهامة، بالقرب من جبل الورد، والتي تضم ما يقارب 200 طفل موزعين على بيوت مستقلة، تشرف على كل منزل منها مربية يطلق عليها لقب “الأم”، وهناك مربية بديلة عند غياب “الأم” تسمى بـ”الخالة”.

في جولة “المدن” على القرى اشتكى العديد من العاملين هناك من نظام المحسوبيات المعمول فيه من قبل المؤسسة، الذي ازداد بعد العام 2012 عندما أصبحت رواتب العاملين فيها تُصرف بالدولار باعتبارها منظمة غير حكومية. ويتراوح دخل العاملين العاديين فيها بين 500 إلى 1000 دولار شهرياً، في حين يتقاضى الموظف في الدوائر الحكومية أقل من 100 دولار، ما جعل القرى تشكل فرصة ثمينة للعمل، يتنافس عليها السوريون. ووفق جدول العاملين في القرى تبين أن العديد من الذين يعملون فيها والممسكين بالقرار داخل المركز، لديهم صلات أمنية عن طريق ضباط يخدمون في قوات النظام، إذ أن “مجلس الإدارة” الذي ترأسه سمر دعبول، هو من يختار العاملين في المركز.

ومن الشهادات التي حصلت عليها “المدن” في القرى، شكوى العديد من المربيات العاملات من الضغط النفسي الذي يعشنه في القرى. تقول آمنة، 36 عاماً: “بدأت الرقابة الأمنية تزداد على القرى منذ مطلع عام 2011، إذ تم استبدال العديد من المربيات بمربيات أخريات نتيجة الواسطات والمحسوبيات. ومعظم المربيات هنا يقف وراءهن ضباط من القصر الجمهوري حيث يعمل والد المعلمة”، وتشير برأسها ضاحكة، وتقصد بذلك “أبو سليم دعبول”.

وتقاطعت المصادر حول وجود العديد من حالات التحرش بين العاملين والأولاد، وكان آخرها قيام أحد الإداريين في “المشروع الإغاثي” في القرى باستدراج العديد من الفتيات، في سن الـ17 عاماً، إلى خارج القرى وإقامة علاقات جنسية معهن. وتم إغلاق الملف بطلب شخصي من سمر دعبول، خوفاً على سمعة المنظمة.

المركز الثاني للقرى في منطقة الصبورة، بالقرب من دمشق، يعرف باسم “مركز الإغاثة المؤقتة”، وقد افتتح في العام 2015، وترأس إدارته أمل حسن، من مدينة اللاذقية، وقد خُصص لاستقبال الأطفال المتضررين من الحرب السورية. وبداخله حوالي 120 طفلاً، قسم منهم من أولاد جنود في قوات النظام ممن قضوا في المعارك وقررت زوجاتهم إيداع الأطفال في القرى. والقسم الثاني هم من الأطفال الذين قضى ذويهم على يد قوات النظام، ممن بقوا من دون أهل، وتم اقتيادهم إلى القرى. في حين أن القسم الثالث هم الأولاد الذين ولدوا في معتقلات النظام، وتم استقدامهم إلى المركز، بحسب العاملين فيه.

إحدى المربيات بمرتبة “خالة” وترعى الأطفال في مركز الصبورة، قالت لـ”المدن”: “وضع مركز الصبورة رغم الصورة الخارجية التي تبين أن الحياة فيه طبيعية، يعتبر الأسوأ نتيجة استقباله للحالات الخاصة من متضرري الحرب السورية”. وتم رصد العديد من حالات التبول اللاإرادي، بين الأطفال، نتيجة ظروف العنف التي عاشوها، وسط استمرار الضغط النفسي في المركز.

التحدي الأبرز كان مع الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10-12 عاماً. وهؤلاء الأطفال مدركين للأمور من حولهم، وتذكر المربية حادثة: “لدينا أطفال من إدلب قضى أهلهم في قصف النظام للمدينة، وبعدها نزحوا إلى مدينة اللاذقية قبل أن يُجلبوا إلى القرى. هنا يعيش الأطفال في تناقض عندما نسعى إلى تعليمهم أن هناك عصابات إرهابية هي التي قتلت أهلهم، في حين أن ذاكرتهم تصر على أن طيران النظام هو الذي قصف منازلهم وقتل ذويهم”.

وتنشب الخلافات بين الأطفال في مراكز القرى، وحدث مرة عراك وضرب وصل إلى استخدام الحد المفرط من العنف بين أحد أبناء ضباط النظام القتلى وبين فتاة من ديرالزور. ابن الضابط ضرب الفتاة بعنف وتسبب لها بكدمات واضحة، بحجة أنها “خائنة” لأنها من ديرالزور.

تشتكي المربية من الضغط الأمني في مركز الصبورة، سواء إن كان على الأطفال، أو حتى على المربيات أنفسهن. تقول: “قرى الأطفال ليست كما تبدو عليه في الإعلانات، بل هي أشبه بفرع مخابرات للأطفال، في كثير من الأحيان”.

إلتصاق الفرع السوري من “قرى الأطفال” بالنظام، أتى من واقع العقد الموقع بين حكومة النظام و”قرى الاطفال” بوصفها منظمة عالمية غير حكومية، ونص العقد على أن الطرف الحكومي الممثل بـ”وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل” له الحق في تعيين أعضاء “مجلس الإدارة”. وبهذا أصبحت المنظمة غير الحكومية، والتي تطرح نفسها على أنها “مستقلة”، مجرد أداة بيد النظام.

ومنذ العام 2011 تعمق التعاون بين المؤسسات الرسمية للنظام و”قرى الأطفال”، ولم تقتصر النشاطات على القرى بل تعدتها أيضاً إلى توسيع مشاريع عمل المنظمة الإغاثية والطبية، بالإضافة إلى ورشات الدعم النفسي. والتسهيلات التي تعطى لـ”قرى الأطفال”، على حساب المنظمات الدولية، ناتجة عن قرب “مجلس إدارة” المنظمة في سوريا من الدائرة الضيقة للنظام. وسعى النظام للاستفادة من نشاطات المنظمة لتلميع صورته في ملف الأطفال وحقوق الإنسان.

إذ تحظى النشاطات المشتركة بين النظام والقرى، بتغطية إعلامية خاصة، كان آخرها دعوة للمشاركة بالاحتفالية الثامنة لـ”يوم اليتيم” في “قرى الأطفال السورية”. الاحتفالية التي رعتها “وزارة الثقافة” في القرى الأطفال في 26 نيسان/إبريل، أنفقت عليها الوزارة حوالي 20 ألف دولار، بحسب مصادر داخلية. واستقدمت الوزارة رسامين من البرازيل، للإشراف على نشاطات الرسم لدى الأطفال، بالإضافة إلى إقامة عرض مسرحي ولوحات فنية راقصة، وتوزيع عدد من الكتيبات والمجلات المخصصة لتلك المناسبة.

المشاركة بين “قرى الأطفال” ووزارة الثقافة لم تكن الأولى، إذ عمد النظام إلى دعم حكومته بمختلف وزاراتها للعديد من الفعاليات التي أقامتها القرى، وسط تركيز إعلامي كبير عليها.

ولم تقتصر المشاركة على وزارات “الشؤون الاجتماعية والعمل” و”التربية” و”الثقافة”، بل أيضاً على بعض القطاعات الخاصة المحسوبة على النظام، وأهمها شركتا الاتصالات “سيرياتيل” و”ام تي ان”، اللتان دعمتا حملة إعلانية للقرى. وأقامت القرى العديد من الندوات والحملات الدعائية الممولة من قبل “سيرياتيل” في حملتها، التي كان شعارها: “تبرع، تكفّل، أرسل”.

وذكرت مصادر “المدن” أن “جمعية البستان” الخيرية المملوكة لرامي مخلوف، (لديها مليشيا عسكرية مقاتلة) بالإضافة إلى محمد حمشو، أحد أكبر الاقتصاديين الداعمين للأسد، تعتبر من أكبر المتبرعين لجمعية “قرى الأطفال”.

والمساحة المريحة التي تحظى بها القرى في مناطق النظام، مقارنة بالمنظمات غير الحكومية الأخرى، تعكس مقدار رضى النظام السياسي عن المنظمة، واعتماده عليها في محاولة لتبيض صورته عالمياً. فالقرى هي مثال عن الحرية التي يسمح بها النظام للمنظمات غير الحكومية بالعمل داخل مناطقه. كذلك هي استثمار في رعاية النظام للطفولة والأطفال، في مواجهة الحقائق التي قدمتها منظمة “save the children” الصادرة العام الماضي، والتي أشارت إلى أن الأطفال السوريين غير القادرين على الالتحاق بمدارسهم يبلغ عددهم 3 ملايين، في حين أن 6 ملايين طفل بحاجة إلى معونة ملحة. وأحصت المنظمة تدمير ربع المدارس الموجودة بسوريا نتيجة غارات طيران النظام وحلفائه.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى