قصة بدر الدين في سورية بصفتها مؤشر الحرب المقبلة/ حازم الامين
أي حاجة يلبيها نوع التغطية الإعلامية للذكرى السنوية الأولى لمقتل قائد «حزب الله» في سورية مصطفى بدر الدين؟ التغطية التي تولتها وسائل إعلام وصحف موالية لـ «حزب الله» ومدعومة منه، يشعر متتبعها بأن ثمة عطلاً خيالياً جوهرياً أصاب أصحاب الحملة، وجعل من تناولهم قتيلهم وذكراه السنوية مناسبة لكشف مقدار غير معهود من الهذيان.
فالصحف «غير الحزبية»، وغير الإسلامية، القريبة من الحزب، وجد قراؤها أنفسهم حيال لغة مغرقة في الهرطقة في تناولها المناسبة.
«هذه سيرتي اقرأوها، فقد عدت شهيداً حاملاً راية النصر».
«اخترقت رصاصات سيارته على طريق مطار دمشق. لم يكن موعد الشهادة، فأمام القائد مهمات كبرى».
هذه عبارات مقتطعة من بعض ما كتبته صحيفة «الواقعية الاشتراكية» المقربة من «حزب الله». أما وسائل الإعلام «غير الواقعي» الموالي للحزب فذهبت إلى تصوير دور لـ «الملائكة» في استدعاء الرجل لـ «حماية المقام في دمشق»!
تؤشر هذه اللغة إلى مفترق نفسي جماعي تكابده الجماعة في حروبها على الجبهات المختلفة. فإذا وضع المرء هذه اللغة في سياقها الزمني، وفي ترافقها مع أوضاع ثقيلة ترزح تحتها جماعة القتال إلى جانب النظام السوري، فسيخرج باستنتاج مفاده أن في هذه اللغة مقداراً من أنين كان صاحبه قد توهم نصراً، وها هو يُكابد تبعات وهمه.
الروايات المنقولة عن بدر الدين في ذكرى مقتله السنوية، تنطوي على حاجة الجماعة لتأسيس خرافة، وضمها إلى خرافات رافقت كل حروب هذه الجماعة. إنه الرجل الذي لا يُهزم، وما مقتله إلا غيبة صغرى بانتظار انبعاث ما.
العودة سنوات قليلة إلى الوراء تتيح فرصة مقارنة بين هذيانات الجماعات الأهلية في الحروب التي تخوضها. رواية «القاعدة» عن حرب الفلوجة في 2004، تُذكر بما يُصيب الحزب اليوم. تلك الرواية كما كتبها أبو أنس الشامي جعلت الهزيمة في تلك الحرب انتصاراً أُخروياً. مقاتلو «القاعدة» الحفاة كانوا يسددون رصاصاً مباركاً للأميركيين فتخترق الرصاصة الواحدة رتلاً كاملاً من الدبابات وتحرقه.
ليس هذا هذياناً مطلقاً. هو جزء من علاقة يقيمها الحزب مع جماعته. اللغة التي قرر أن يخاطب بها مجتمعه. فهو لا يريدها أن تعرف عن الحرب التي يخوضها أكثر من ذلك. والإشاعة التي طاولته لجهة تورط قيادته بمقتل بدر الدين يُجاب عنها بهذه اللغة.
وليس بعيداً من ذلك الشريط الذي بثته محطة تلفزيونية قريبة من الحزب أعملت فيه خيالها وحاكت تغطية تلفزيونية ميدانية لـ «ظهور المهدي المنتظر». صحيح أن الشريط كان «فيكشن» تلفزيونياً، لكن خيال معديه لم يسعفهم بغير هذه الوجهة، ذاك أن المهمة اليوم هي خلق القابلية لهذا النوع من «الفيكشن»، ودفع المشاعر في هذه الوجهة. و «حزب الله» استثمر هنا، ولطاما أعد الساحة لـ «انتصارات» في أعقاب كوارث محدقة. «النصر الإلهي» في 2006، ترافق مع مؤشرات مشابهة، فما إن أعلن وقف النار حينذاك حتى أخرجت الآلة الأيديولوجية للحزب «غادجيتز» النصر وطرحته في أسواق الحروب الأهلية.
وعلى مفترق الطرق الذي يحف بمناسبة الذكرى السنوية لمقتل بدر الدين، لا بأس من تزخيم خطاب الهذيان. فسورية تشهد انعطافة كبرى في موقع القوى المتحاربة فيها. الأميركيون قصفوا مرة أخرى جيش النظام في البادية، وعلى تخوم نفوذ الحزب عند الحدود السورية – العراقية. هناك حيث يسعى الإيرانيون إلى شق طريق تربط حدودهم بسورية عبر العراق. وهناك أيضاً حيث قرر الأميركيون أن مسرح المواجهة مع الإيرانيين سيكون عند الحدود، بين سورية والعراق والأردن.
الحزب غارق بـ «الانتصارات» حتى أذنيه. لكن موازين القوى تؤشر إلى غير ذلك. خطوة واحدة تعيده إلى موقع مختلف. الأميركيون باشروا المهمة، والحزب يملك تلك اللغة لتصريف موقعه الجديد في وعي جماعته، أو لا وعيها.
إنه النصر، يقترب مع كل خطوة أميركية أو إسرائيلية. وثمة قوى غير واقعية تقاتل مع الحزب في البادية السورية. الانتصارات غير المرئية تسجل هناك في الصحراء. ووسائل الإعلام تنقل احتفالات الحزب بالذكرى السنوية الأولى لمقتل قائده.
إنها المحطات التي تعجز فيها القوى عن تناول ذاتها بلغة تعكس الواقع. نوع من الهروب الجماعي من مواجهة النفس بحقيقة ثقيلة. واستعاضة عن تحسس الخطر بأن نجعله جزءاً من منظومة هذيانية. والحزب إذ يُقدم على ذلك، لا يمارس هو نفسه هذا الهرب، إنما يسعى إلى دفع الواقع عن خيال جماعته ومداركها. فهو يعرف أن بدر الدين ليس ملاكاً، وأن قدراته في القتال بشرية، وهو أصلاً قتل في سياق حرب واقعية، لكنه يعرف أيضاً أن اللحظة تتطلب أن تنفصل الجماعة عن وعيها الواقعي به.
إنها «البروباغندا»، وهذه ليست وسيلة غبية في مخاطبة الجماعات، على رغم ما ينطوي عليه سطح خطابها من غباء. فحين وقف مراسل «الجزيرة» أحمد منصور خارج الفلوجة وقال أن الملائكة تقاتل في المدينة، وأنه يُعاين «الأجنة تخرج من بطون الأمهات»، لم يكن يخاطب عقولاً، إنما يستجيب حاجة جماعية للهذيان أملتها انعطافة الحرب آنذاك.
ليست الهزيمة ما تستبقه هذه اللغة، وليس انتصاراً على كل حال. هي استجابة لشعور الجماعة بتحول يلوح في الأفق، وأن موقعها سيهتز، وأن موازين قوى تنعقد على حسابها أو خارج ضبطها. هو شيء من ذكاء الجماعة، وقدرتها على التقاط التحولات، لكنه أيضاً تعبير عن عجزها الأصلي عن الاندراج فيها.
«حزب الله» واقعي وبراغماتي إلى أبعد الحدود في لحظات قوته، لكنه انكفائي ومراوغ وهذياني في الانعطافات التي لا يملك فيها زمام التحولات. والغارة الأميركية الأخيرة على مواقع جيش النظام في البادية قوبلت ببرودة روسية تؤشر إلى تحول ما على وشك الظهور.
الإسرائيليون كانوا قبل أشهر دخلوا على خط الهذيان ببدر الدين. أعلنوا أنهم لم يقتلوه، وهذه سابقة في خطابهم الأمني. لا شيء مؤكّداً في قضية قائد «حزب الله» في سورية، لكن الرواية الإسرائيلية تعزز القابلية لصوغ الخرافة، ولدفعها إلى منطقة متقدمة في وعي الجماعة لنفسها. وهذا كله يحصل على وقع حدث تنتظره الجماعة ولا تملك ما يمكّنها من ضبطه. فهل هذه مؤشرات حرب مقبلة؟
الحياة