قصة تواطؤ في قطع الغذاء عن مدن سورية/ آني سبايرو
فرض حصار على المدنيين وقطع الغذاء والوقود عنهم هو جريمة حرب. ولكنه إستراتيجية كذلك ينتهجها كثر في النزاع السوري، وأبرزهم الحكومة السورية. وتتباين تقديرات أعداد السوريين الذين يعيشون تحت الحصار تبايناً كبيراً. فعلى سبل المثال، أبلغ مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في دمشق مكتب الأمين العام في كانون الأول (ديسمبر) المنصرم، أن عدد المدنيين المحاصرين هو 393.700 سوري. ولكن «سييج ووتش» قدرت أعدادهم في المدة ذاتها بأكثر من مليون نسمة. ويبدو ان التباين هذا يعود الى رغبة مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في دمشق الحفاظ على علاقات طيبة بنظام الرئيس بشار الأسد. واسترضاء نظام الأسد هو وراء تعديلات ادخلها المكتب هذا على «خطة الرد الإنساني 2016»، إثر مراجعة الحكومة السورية لها. وأزال يعقوب الحلو، المنسق في المكتب هذا، وكيفين كينيدي، المنسق الإقليمي في «مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في دمشق»، كل اشارة الى «حصار» أو «سكان محاصرين» نزولاً على اعتراضات سورية. ومن مقره في فندق الـ «فور سيزنز» في دمشق، وصف «مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية …» بعض المناطق بـ «يصعب بلوغها»، واعتبر أنها غير محاصرة، في حال وصلت إليها مساعدات غذائية في الأشهر الثلاثة الأخيرة، مهما كان حجم المساعدات ولو كان يكفي شهراً واحداً فحسب وليس ثلاثة. ولا يحتاج المرء إلا الى الخروج من دمشق ليرى بأم العين ضعف الفرق بين منطقة «يصعب بلوغها» وتلك الـ «محاصرة». فمضايا هي بلدة صغيرة تعد 42 ألف مدني بعيدة أقل من ساعة شمال شرقي فندق الخمس نجوم، «فور سيزنز». وكانت منتجعاً ذائع الصيت يُقصد في الإجازات، ولكنها اليوم صارت تُعرف بالمعاناة والجوع والتجويع الذي ينزله بأهلها الجيش السوري والميليشيات الحليفة. وعلى رغم ان 23 شخصاً فارقوا الحياة في مضايا نتيجة الجوع في 7 كانون الثاني (يناير) المنصرم، وفق «اطباء بلا حدود، لم يصنفها «مكتب الأمم المتحدة للشؤون…» على انها منطقة محاصرة قبل شباط (فبراير) الماضي. ومن 1.1 مليون نسمة يعيشون تحت الحصار، اكثر من 900 ألف منهم هم ضحية قوات موالية للحكومة. وفي الغوطة الشرقية، تذبل صحة نصف مليون مدني منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2012. وفي دوما، على بُعد عشرة اميال شمال شرقي دمشق، يتناوب الأطفال على الطعام. وقطع تنظيم «داعش» الغذاء عن حوالى 180 ألف نسمة في دير الزور، شمال شرقي سورية. ومنعت مجموعات معارضة المساعدات الإنسانية عن الفوعة وكفريا، وعدد سكانهما 15 ألف نسمة. ولكن القوات الحكومية بادرت الى مد البلدتين بمساعدات جوية.
وعلى وقع التجويع والهجمات المنظمة وتدمير البنى الصحية التحتية، قضى مئات آلاف السوريين نتيجة الحرب، وبلغ عدد الجرحى والمعوقين حوالى 1.9 مليون نسمة. ومنذ 2011، هبط متوسط الأمل في الحياة في سورية 15 عاماً، من 70.5 عام الى 55.4 عام. وهذا متوسط امل في الحياة يقل عن نظيره في أفغانستان والسودان. ومؤسسات رجحت كفة التعاون مع نظام الأسد على كفة بلوغ المحتاجين، مثل «مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية…» و»برنامج الغذاء العالمي» و»يونيسيف» و»منظمة الصحة العالمية»، وهي شريكة في المسؤولية عن هذه الكارثة.
وحصار مضايا وعدد من البلدات الصغيرة بدأ في تموز (يوليو) 2015. وهو عقاب جماعي انتهج للاقتصاص من 500 مقاتل معارض رفضوا إلقاء السلاح في الزبداني المجاورة. وبعد 4 سنوات على الحرب، كان اطفال مضايا، يعانون شبه مجاعة وكانوا غير محصنين ضد الأوبئة (لم يتلقوا لقاحات كافية) وكانت صحتهم هشة. وأبرمت مجموعات مسلحة صفقة تقضي بإدخال مساعدات انسانية الى مضايا في ايلول (سبتمبر) مقابل دخول المساعدات الى الفوعة وكفريا. ولكن فور إبرام الاتفاق، بدأ عناصر «حزب الله» بزرع 4500 لغم ارضي في حقول غرب مضايا للحؤول دون خسارة الحكومة نفوذها نتيجة فرار مدنيين كثر منها. وخيارات اهالي مضايا ضيقة فإما المنازعة البطيئة على وقع المجاعة والأوبئة وإما الموت برصاص قناص أو انفجار لغم. وفي 19 تشرين الأول (اكتوبر) المنصرم، دخلت مواكب المساعدات مضايا والزبداني والفوعة وكفريا. ونظم «مكتب الأمم المتحدة…» عملية الإغاثة الإنسانية في الفوعة وكفريا من الأراضي التركية. ولكن الحكومة السورية اشرفت على المساعدات التى بلغت مضايا والزبداني. وخلت المساعدات المرسلة الى الزبداني من الغذاء، واقتصرت على 250 مسحوق نظافة وكريم حلاقة. وأُدخلت معدات طبية تالفة وغذاء منتهي الصلاحية الى مضايا. وفي 48 ساعة، أصيب اطفال البلدة هذه بالتقيؤ والإسهال. وتبين ان مدة صلاحية 320 صندوقاً من 650 صندوق بسكويت، منتهية وبائتة. ولم تعلق الحكومة السورية على ما حصل، وأعلن «مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية…» أن الحادث وليد خطأ بشري.
ولا شك في أن الحادث سببه تناول البسكويت، ولكن انتهاء الصلاحية ليس علته. فأعراض الأطفال هي أعراض متلازمة «إعادة التغذية» بعد انقطاع، وهي حال من خلل حاد في الأيض يصيب الناس المحرومين من الغذاء والفيتامينات والمعادن حين يتناولون فجأة الكاربوهيدرات (النشويات…) من غير مساندة غذائية او عناية طبية.
وقبل تطويق مضايا بالألغام، سوَّر الجيش السوري الحدود مع لبنان وتركيا بها. وثمة 700 ألف لغم على الحدود السورية – التركية. وبين تشرين الأول 2014 وتشرين الأول 2015، أودت الألغام بحياة 67 مدنياً و24 مقاتلاً. وافتتحت الأمم المتحدة في 2012 مكتب UN Mine Action Service (UNMAS) في دمشق لمباشرة برنامج نزع الألغام. ولكنه (المكتب) اضطر الى الإغلاق بعد ستة اشهر. فوزارة الخارجية السورية لم تمنح فريق عمله تأشيرات الدخول والإقامة.
وفي 2014، اجاز مجلس الأمن عمليات انسانية داخل الأراضي السورية، ولو لم توافق عليها حكومة دمشق. فأرسل المكتب الأممي لنزع الألغام فريق عمله الى جنوب تركيا، وساهم في نزع 364 لغماً، و»طهَّر» 17 منزلاً وثلاث مدارس ومستشفى و4 ملاعب و21 متجراً من الألغام. وقضت خطة «مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية…» أن يقصد فريق UNMAS حلب وإدلب لمواصلة عمله، وحاز تمويلاً قيمته 32 مليون دولار. ولكن الحكومة السورية طلبت تعديل خطة المكتب هذا وإلغاء بند إزالة الألغام، ووافق كينيدي وحلو على التعديل. وزعم المحامي البريطاني، ستيفن أو براين، وهو على رأس «مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية…»، ان نزع الألغام يخالف القوانين السورية. وقال في ملتقى «دافوس» الاقتصادي في كانون الثاني الأخير:» ثمة قانون سوري… يعتبر ان كل من ينزع معدات حربية غير متفجرة… هو مقاتل». ولكن لا نظير لمثل هذا القانون في سورية. وفي وقت ينتهج العالم سياسة فضفاضة ومبهمة، يغامر السوريون بحياتهم أو بأطرافهم الجسمانية في بحثهم اليائس عن الغذاء والطعام.
* طبيبة أطفال وخبيرة في شؤون الصحة العامة، عن «فورين أفيرز» الأميركية، 29/3/2016، إعداد منال نحاس
الحياة