صبحي حديديصفحات سورية

قناة ‘الدنيا’ الموسكوفية


صبحي حديدي

خطاب الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف عن الإنتفاضة السورية، واستسهاله إطلاق صفة ‘الإرهابيين’ على بعض المتظاهرين، واستنكاره عزوف المعارضة عن الحوار مع النظام، يذكّر المرء بمفردات الحرب الباردة، حين كان القاموس أشبه بطبول تهدّد بالويل والثبور وعظائم الأمور، لكنها في نهاية المطاف لا تقرع إلا اللغة الخشبية التي تجرّدت من الدلالة، ولم تعد تكترث بتظهير أيّ معنى. وهكذا وجدتني أنساق إلى زيارة واحد من أشهر المعاقل الإعلامية والدعاوية في تلك الحرب، وأعرقها تاريخاً، وأغربها مآلاً: صحيفة الـ ‘برافدا’ الروسية.

.. أو ما تبقى منها الآن في الواقع، إذا كان قد تبقى فيها شيء من أعراف ماضيها الزاخر الحافل!

ذلك لأنّ زائر موقع الصحيفة على الإنترنيت، في الطبعة الإنكليزية، سوف يجد التالي على الصفحة الأولى: في الخبر الرئيسي تقرير عن ثقة الروس بالمواهب العقلية والسياسية والفلسفية لرئيسهم الراهن، وآخر عن قيام الحلف الأطلسي بتشديد الخناق على روسيا، وثالث عن إخفاق الغرب في ليبيا، ورابع عن رغبة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في تدمير صربيا، وخامس عن ساره جيسيكا باركر… الزائر يلاحظ، أيضاً، طغياناً غير عادي للموضوع الليبي، ومن زاوية تمتدح نظام العقيد معمر القذافي، علانية أو استبطاناً، حتى يخال المرء أنّ الـ’برافدا’ هي الملحق الروسي لصحيفة ‘الزحف الأخضر’ الليبية، أيام اللجان الثورية!

أمّا أذا تصفّح المرء المادّة المخصصة للشأن السوري، فإنّ الـ’برافدا’ تنقلب إلى طبعة موسكوفية من قناة ‘الدنيا’ السورية، فلا تغيب أخبار المندسين والعصابات المسلحة والإرهابيين، ولا تعدم محللاً أريباً يحذّر الكرملين من مغبّة التهاون مع ‘العرعوريين’ في صفوف المعارضة السورية، كما لا تفتقر أعمدة الصحيفة إلى الـ’منحبكجية’ على الطريقة الروسية. على سبيل المثال، يرى سيرغي بالماسوف أنّ ردّ الفعل الحادّ الذي صدر من الغرب ضدّ بشار الأسد كان ناجماً عن ‘حقيقة أنّ الأسد، في سعيه إلى تصفية الإسلاميين، أدخل المزيد من قوى الأمن والدبابات إلى شمالي درعا في بلدة نافا والمنطقة الحدودية مع لبنان في مقاطعة تل كالاح غرب حمص’!

وإلى جانب عدم اهتمام هذا المحلل العبقري بتدقيق أسماء بلدات نوى وتل كلخ، أيّ سخف في الزعم بأنّ الغرب غاضب من الأسد، دفاعاً عن الإسلاميين! وأيّ سماكة دماغ في مساجلة بالماسوف اللاحقة، من أنّ الأسد لا يُلام في قرار نشر الدبابات ما دامت ‘المعارضة ترفض السلام معه، بزعم أنه يطلق النار عليهم من مدافع الدبابات. ولكن، ماذا يمكن للأسد أن يفعل سوى هذا، حين تقتل المعارضة جنوده؟’؛ أو، في ‘سحبة’ أخرى أين منها مآثر مذيعي ومذيعات ‘الدنيا’، اتكاء صاحبنا على بيانات وزارة الداخلية السورية، لتكذيب التقارير عن مقابر جماعية، وللردّ على ‘الحملات المغرضة’ التي تشنها قناة ‘الجزيرة’ وسواها.

هل هذه هي الـ’برافدا’، دون سواها؟ كلا، بالطبع، ومن العبث أن يبحث المرء فيها عن رسوبات باقية من أيام زمان، ليس لأنّ العالم تبدّل في روسيا، وحيثما توزّع هذه الـ ‘برافدا’ الجديدة، فحسب؛ بل لأنّ المعارك المالية والقانونية الشرسة التي توجّب أن تُخاض من أجل بقاء الصحيفة واستمرار الاسم ذاته اقتضت مثل هذه الخيارات في التحرير، وفي الخبر والرأي والتغطية. ومن الإنصاف القول إنّ قلّة قليلة فقط من أهل الحنين إلى الماضي والمتباكين على الأطلال هم وحدهم الذين يعيبون على هذه الـ’برافدا’ أنها لم تعد تمثّل تلك الـ’برافدا’.

المرء، من جانب آخر، لا ينصف هؤلاء أنفسهم إذا لم يتفهم الأسباب العميقة، الوجدانية والتاريخية والعقائدية، التي تدفعهم إلى مقدار هائل من مشاعر النوستالجيا كلما قلّبوا صفحات الجريدة الراهنة، فلم يجدوا فيها ما هو أشدّ جاذبية للقرّاء من طرائف هذا المحلل الشبيح. ذلك لأنّ الـ’برافدا’ التاريخية لم تكن محض صحيفة سياسية، بل كانت أشبه بسجلّ وأرشيف وخزّان ذاكرة، سيما عند أولئك الذين ما تزال حميّة الماضي تغلي في عروقهم. ولعلّ الصحيفة عرفت من المصائر المتقلبة مقداراً يكاد يفوق ما عرفه الحزب الشيوعي السوفييتي ذاته، وحين كانت أرقام توزيعها تتجاوز 11 مليون نسخة يومياً، كانت مصداقية الصحيفة تهبط إلى الحضيض في يقين الرأي العام، وكانت تحكمها علاقة تناسب معاكسة: كلما طبعت المزيد من النسخ، ازدادت الهوة بينها وبين الشارع. والمرء يتذكر أن الإعلام الرسمي السوفييتي كان يتوزع على صحيفتين أساسيتين: ‘البرافدا’ (أي: الحقيقة) و’الإزفستيا’ (أي: الخبر)؛ وأمّا النكتة الشعبية، الذكية والصائبة تماماً، فكانت تقول: في الـ’برافدا’ لا يوجد ‘إزفستيا’، وفي الـ’إزفستيا’ لا توجد ‘برافدا’. والترجمة: جريدة الحقيقة لا تنطوي على الخبر، وجريدة الخبر ليس فيها حقيقة!

وبعد عام 1991، حين بلغت ‘بيريسترويكا’ ميخائيل غورباتشوف مآلاتها المنطقية الأخيرة، وقعت الصحيفة ضحية معارك شتى، وتنقّلت بين مستثمرين كثر، وتقلّبت توجهاتها، لكنّ ثابتها الوحيد في غمرة هذا التاريخ الصاخب المتبدّل كان ذلك القاموس الأشبه بالطبول، حيث لا حقيقة في الخبر، ولا خبر عن الحقيقة. وكيف، إذاً، لا تجد الـ’برافدا’ توأمة تامة مع شقيقتها ‘الدنيا’، على مبعدة آلاف الأميال، إذا كان الطبل هو الطبل؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى