كانت الشمس تشرق في الحجارة/ ريبر يوسف
(الفعل)
كان آباؤنا وأمهاتنا يصنعون لنا معابر على برك الماء الغامرة الطريق إلى المدرسة، عبر اللبنات والحجارة الفائضة عن حاجتهم؛ إذ بنوا بها بيوتنا، ثمة سحر في عملية تعاطينا مع فعل الذهاب الموثق برابط متين عبر أجزاء صغيرة هامة من بيوتنا، كانت هناك زاويتان تحملان ذات المعنى، الأولى امتداد بيوتنا العمودية نحو السماء، والثانية أفقية ممتدة على طول الشارع المغمور بالسماء المنعكسة في مياه الأمطار وشبكات الصرف الصحي المعطلة، كانت الشمس بُعَيد المطر تبرق وتشرق في الحجارة المتراصفة تلك، كان اللغز جاحظاً يهمُّ بفك الشيفرة /الرابط في فعل ذهابنا، إذاً، كان الطريق إلى المدرسة جذوراً ممتدة من بيوتنا سيّارةً على مدى الطريق؛ لتفضي إلى حيث ركن المعرفة، كان الطريق إلى المدرسة مدرسة بدوره، نورٌ خفيٌّ نام على آثار خطواتنا التي استدلت الزمن إلينا.
(الفاعل)
“لا تقطعي الشارع يا رباب فالسيارات تمرُّ”
كانت هذه الجملة من كتاب القراءة في المرحلة الابتدائية بالمدارس السورية، عامة المدارس السورية، من أحياء وحارات المالكي وأبو رمانة والمزة أوتوستراد في دمشق، إلى أصغر قرية بالجزيرة السورية، في أصغر قرية كان الأطفال يظنون بأن ثمة من يُطفئ الشمس لحظات الغروب، في أصغر قرية لم يعبر أحدٌ فيها شارعاً ولم يشاهد سيارة، كان العِلم يشبه الحمّى، كنّا نحن – أولاد الجزيرة – نحفظ المناهج الدراسية عن ظهر قلب، ومن ثم نرسم أشكالاً لها في خيالاتنا. إذاً، الدولة غائبة كانت، ونحن إذ نجد الرابطة الخفية تلك ما بين مفهوم المؤسسة والشعب نجد أن عملية التقسيم كانت على أهبتها طوال فترة حكم البعث لسورية، ولا سيما أنها ألغت وقتلت كافة آثار البلد النفسية والسياسية والاجتماعية التي كانت موجودة حتى قبل سيطرة حزب البعث على البلد بأكمله، كان النظام يتبنى فكرة الدولة الواحدة المتينة، بينما كان الخلل جليّاً في كافة التفاصيل، كانت هناك دولتان داخل سورية، دولة النظام (المدن التي كانت تحاكي خطابه العام عبر أدوات عديدة منها المناهج الدراسية) ودولة الناس (الدولة المرتمية خارج معادلات النظام الثقافية والسياسية والخدمية وغيرها). ساهم النظام في بلورة الخطاب الاجتماعي السوري وصياغته عبر رؤية معيّنة وهي أن المدن الواقعة في الجزيرة السورية (الرقة، دير الزور، الحسكة، القامشلي) هي مدن نامية متخلفة وفقيرة، في اللحظة التي كانت فيها منطقة الجزيرة تنير كافة سورية عبر نفطها وغازها وقمحها وقطنها، امتدت عملية إخراج الجزيرة السورية من معادلة “الدولة” لتشمل الخطاب الثقافي العام للبلد إذ تحولت في أحايين كثيرة إلى رمز للسخرية والتخلف وهكذا أمور عبر أدوات كثيرة منها التلفزيون بطريقة ما.
يمكن القول إن منطقة الجزيرة السورية أسقطت النظام السوري منذ عقود عديدة بأدوات ووسائل عديدة، إذ كانت خارج بنية النظام الثقافية وهذا جليٌّ في المناهج الدراسية للمرحلة الابتدائية في المدارس السورية عامة، كان السياق المعرفي خلال الدروس غائباً تماماً، كما لو أن ثمة احتلالاً أجنبياً لمنطقة الجزيرة، تصورْ معي مثلاً منهاجاً يتحدث عن أدوات وعناصر غير موجودة البتة في الجزيرة السورية، كما لو أن فرنسا تخاطب قرى سورية من لب الخطاب المعرفي والثقافي لدولتها وراء البحار، الأمر الذي جعلنا نتأمل طويلاً – نحن أبناء الجزيرة السورية – في أشكال إشارات المرور الغائبة والمجهولة عنا كانت والموجودة داخل المنهاج الدراسي السوري العام، انتظرنا الحياة الغائبة عنا والموجودة داخل كتب الدولة، انتظرنا ساعي البريد الذي لم يأت يوماً، وعامل التنظيفات الذي لم نشاهده بالصورة ذاتها الموجودة في الكتب، انتظرنا المستشفيات والمكتبات، انتظرنا الدولة التي لم نكن نرى منها سوى عِصيّ رجال مخابراتها، كانت هناك عمليات تعزز حالة العبودية في دواخلنا نحن أبناء الجزيرة، كان النظام حريصاً على إبقائنا في دوامة التناقض ذاك الممتد ما بين سياق الدولة العام وخيالنا الموحّد المشغول ببناء روابط غائبة في حيواتنا، إذاً، لم تكن هناك دولة في منطقة الجزيرة إنما احتلال أجنبي؛ وضعنا في خانة عبيد لخدمة الدولة ومدنها “المدنية”.
(المفعول به)
وضعت جدّتي القِدر المصنوع من (البافون) تحت ثدي الماعز، بينما هدهدتُ حركتها متجاسراً ومستجمعاً قوّتي؛ إذ حجزتُ رأسها وقرنيها الودودين بإبطي، أصختُ السمع إلى خرير الحليب المتهاطل بوفرة. في الأفق، لمحتُ بريقاً خاطفاً على شكل فلاشة حينذاك، كلّما توجستُ بالسؤال الهابط من السماء ظَهَرَت لي الصورة تلك، أنظر فيها ساعات الحيرة.
ضفة ثالثة