صفحات المستقبل

كان لي وطنٌ اسمه الميدان!/ لمى راجح

 

 

عندما أتحدث عن حي الميدان الدمشقي، أحاول مجاهدةَ نفسي وعقلي على ألّا ينسيا ملامحه، فالنسيان يعني الانسلاخ، وهذا ما أحاول الهروب منه؛ حيث لم يكن حي الميدان بالنسبة لي مجرد مكان ولدت وعشت فيه، بل طالما شكّل هويةً وانتماءً، وكان له بصمة مؤثرة في نمط حياتي وطريقة تفكيري.

سيطرت عادات أبناء الميدان وتقاليدهم على اللاوعي عندي، نتيجة رسوخها في نفسي عبر الوعي الجمعي العام، وكان ارتباطي بالحي نتيجةً حتميةً لوجود أقربائي وعيشهم معنا. إذ سكن معنا في الحي كل من جدي وجدتي وثلاثة من أعمامي؛ كذلك سكنت جدتي، أم والدتي، في الحي نفسه، ما جعل انتماءنا له أكبر.

رسخَ في الوعي الجمعي لدى معظم الأسر الميدانية رفض لمغادرة الميدان، أو الانسلاخ عنه، وسيطرت أفكار «القبيلة» على الأنساق الفكرية لدى معظم أهله، من قبيل «الدم ما بصير مي»، «اللي بيشلح جلدو بيبرد»، «الضفر ما بيطلع من اللحم». وحتى خلال سنوات الدراسة الجامعية، كنتُ ميالة إلى ألّا أنسلخ عن أبناء عمومي من أهالي حي الميدان، فمعظم أصدقائي في الجامعة هم أصدقاء الحي.

بالإضافة إلى ذلك، سيطر الطابع الإسلامي على الجو العام، وهو ما كان له دور كبير في تماسك أبنائه، وسيظهر ذلك جلياً خلال اندلاع الحراك السلمي. لكن هذا التماسك العقائدي لم يمنع وجود حارةٍ يقطنها مسيحيون، ويطلق عليه «حارة المسيحية»، وكذلك حارة لأبناء الطائفة العلوية، ويطلق عليها «حارة الجورة».

وعلى الرغم من قوة المكوّن الديني كوسيط للتماسك الاجتماعي لأهالي الميدان، كانت أعراف الحي أقوى من المكوّن الديني في التأثير على الرأي العام المحلي في كثير من الأحيان.

يعدُّ حي الميدان اليوم من أكبر الأحياء في دمشق، وعلى الرغم من اعتبار البعض أن حي الميدان ليس من الأحياء الدمشقية الأصلية كونه يقع خارج سور دمشق الأثري وأبوابها السبع، فقد حرص أهالي الميدان على أن يكونوا بوتقة تنصهر ضمن نسيج تقاليد الدمشقيين وأعرافهم.

عندما أحاول التحدّث اليوم عن حي الميدان، أجد ذاكرتي أشبه ما تكون بذاكرة السمكة، مخلخلة، وتعج بالصور غير المترابطة عنه؛ أما تفاصيلها، فهي مبعثرة، ودون أن أشعر أصفُ حيين من أحيائه، الأول، حيث تربيت وترعرعت وسأطلقُ عليه اسم الحارة الأولى، والثاني عندما انتقلت مع أهلي للعيش في القسم الغربي منه.

العشق الأول، الحارة الأولى

عندما شرعتُ في الكتابة عن الحارة الأولى، حاولتُ أن أجعل لها كياناً منفصلاً عن باقي حارات الميدان، ولكن محاولاتي باءت بالفشل. فالحارة مرتبطة بكل أجزائها بباقي حاراته، وعاداتها وتقاليدها جزء لا يتجزأ عن عادات وتقاليد أهله.

نشأتُ في بيت صغير، يقع في الطابق الثالث ويحتل صدر الحارة الأولى، التي تمتد بين شارع المجتهد وشارع الكورنيش، وكان لشرفتي الفضل في أسري داخل جدران الحارة الأولى، حيث احتلت رأس الحارة، وكشفت لي عن تحركات قاطنيها وأبنائها، ما مكنني من مراقبة الأولاد وهم يلعبون في الحارة؛ أما عند حلول الليل، فقد كنتُ أنصت من باب الفضول لأحاديث شباب الحارة الذين كانوا يجتمعون عند البناء الذي أسكن فيه. حينها، كنتُ مراهقةً تحاول اكتشاف عالم الجنس الآخر، بما تسمح به الأعراف، ودون أن ينتبه لها أحد، فتخدشَ صورة الحياء المرسومة لها.

كان لشرفتي أيضاً الفضل في منح طعمٍ آخرَ للعيد، حيث تتحول الساحة التي تطل عليها إلى ساحة العيد، ويتم تجهيز الحارة، وتُنصب الأراجيح بها. تأتيها العائلات الميدانية مع أطفالها بهدف الحصول على قسط من التسلية، مما أدى لارتباط أهل الميدان بالحارة كونها أصبحت قبلةً لهم خلال فترة الأعياد. وأيضاً مصدر رزق للباعة ممن يفترشون الطرقات ويبيعون «غزلة البنات»، «الهيطلية»، والعصائر، فتمتزج أصواتهم وهم ينادون على بضاعتهم بأصوات غيرهم ممن ينادون على الأطفال لركوب الأراجيح، أو تجريب لعب ابتكروها لكسب بعض المال.

محمد، الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 17 عاماً؛ كان يقف في أحد أركان الساحة ويصرخ بأعلى صوته: «قرّب.. قرّب.. ليرتك خمسة»، وهي عبارة عن لعبة بسيطة، تقوم على فكرة أنه يوجد صحن داخله خمس ليرات معدنيّة، وعلى الطفل أن يحاول رمي ليرة واحدة من بعيد نحو الصحن، وفي حال أصاب ووقعت الليرة في الصحن، يربح عوضاً عنها خمس ليرات.

بالإضافة لذلك، كان ارتباطي بالحارة الأولى ناتجاً عن طبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة حينها. كان هناك زخمٌ كبيرٌ للجيرة وأبناء الحارة الواحدة، ويعني ذلك أن الجميع يلتزم بمراعاة حرمة الآخرين، والحفاظ على الجيرة. كان ذلك واضحاً ومتجلياً من خلال سلوك أهل الحارة، فالجو الاجتماعي العام أشبه بـ«حتوتة» من حكايات شهرزاد؛ حيث يجمعُ أهالي الحي عقدٌ اجتماعيٌ شفهيٌ متوارثٌ منسوجٌ من خيوط العادات والتقاليد، تحرص معظم العائلات على الحفاظ عليه من خلال تعليم أبنائها تلك العادات.

كذلك امتاز الحي بتماسكه الاجتماعي، لأن جميع العائلات الميدانية تعرف بعضها بعضاً، ويلقبون بعضهم بعائلة «فلان»، وأبناء عائلة «فلان»؛ وأيضاً للنساء مكانتهن في الحي، ويلقبونهن نسبةً لآبائهن كــ «بنت فلان»، ولا يجرؤ أحدٌ على التعرض لهن أو التحرش بهن، مما ولد لدى النساء نوعاً من الأمان الاجتماعي.

في إحدى المرات حاول شاب غريب عن الحارة أن يعترض طريقي، وبمجرد أن التفتُّ لأرى من هذا الذي تجرأ على أن يستوقفني، حتى سمعتُ صوتاً من بعيد: «ولاك… عم تتحركش ببنت حارتي».

يومها، ظهرت «الحمشنة» لدى سامر، ابن حارتي، لتتجسد بشكل جلي وهو يحاول حمايتي من الشاب الغريب وفقاً لوجهة نظره، مع العلم أني لم أطلب منه ذلك، وكنت قادرة على حماية نفسي بعيداً عن هذه التصرفات.

حينها استهجنتُ تصرفه، هل حقاً يحاول حمايتي أم أنه يستعرض فحولته أمام أهل الحي؟! لم يكن لدي خيار سوى اللوذ بالصمت ومغادرة المكان لأنه كان من المعيب على الفتاة أن تتحدث بصوت مرتفع، أو أن تخرج عن حدود الاتزان المرسومة لها في الطريق.

«الآداب العامة»، هذه الكلمة التي شكلت طوقاً التف حول عنقي في تصرفاتي مع الناس وعلاقتي مع الجيرة؛ فكان لا بدَّ من ترتيب أي تصرف ضمن إطار الآداب العامة لحي الميدان، سواء في الملبس وطريقة المشي، وحتى طريقة تعاملي مع أصدقائي لاحقاً.

في المرحلة الإعدادية غادرتُ مع أهلي الحارة الأولى، وانتقلتُ معهم للعيش في الحي الغربي بالميدان، ولكنني بقيتُ ملتزمة بحدود الآداب العامة، لأنني حتى لو غيرت «الحيطان» -كما يقول والدي- فإنني لم أغير حي الميدان، ولا طريقة تفكير أبنائه التي ما زالت تلازمني حتى اليوم كنمط حياة اتخذته كي لا أنفصل عن الهوية الميدانية التي نشأتُ عليها.

حارة كل مين إيدو ألو

تتألف الحارة الجديدة التي تقع في الناحية الغربية لحي الميدان، ولا تبعد عن الحارة الأولى سوى عشر دقائق، من بنائين عاليين، يبلغ عدد طوابق كل واحدٍ 13 طابقاً، وتفصل حديقة صغيرة بين البنائين، وتقابلهما بيوتٌ عشوائية متناثرة، وأبنية سكنية.

أدى انتقالي مع أهلي للبيت الجديد الذي يقع في الطابق الحادي عشر إلى تغير مفاهيمي عن الشرفة، ودفعتني شرفتي الجديدة بارتفاعها وعلوها إلى عدم الاكتفاء بمشاهدة أهالي الحارة الأولى كما كنت في سالف عهدي، بل استطاعت شرفتي الجديدة أن تكشف ملامح حي الميدان بما في ذلك جزء من شارع الكورنيش وشارع المجتهد، وأيضاً كشفت الستر عن وجه دمشق وأسطح أبنيتها، ولا سيما جبل قاسيون، وهو منتصبٌ تتّكئ بيوت حي المهاجرين على عتباته.

كان الملفت للأمر في الحارة الجديدة، هو التغيّر الجذري للطابع الاجتماعي الذي تربيتُ عليه؛ فعلاقات الجيرة والعلاقات الاجتماعية في هذا الحارة تميل لأن تكون أقرب للعلاقات الكلاسيكية الهادئة والرتيبة، حيث تظل الحارة صامتةً طوال أيام السنة وخاليةً من ضجيج الأطفال وهم يلعبون في الحارة، بما في ذلك أيام العيد؛ وكذلك خاليةً من أصوات شباب الحارة وهم يتسكعون طوال اليوم.

في الحارة الجديدة يعيش الجميع سويةً على مبدأ «يا جاري أنت بدارك وأنا بداري»، ويغلق الجيران أبوابهم بإحكامٍ عوضاً عن تركها مشرعةً كما كانت تفعل جارتنا في الطابق الأول قبلاً. اقتصرت علاقتي مع الجيران على تبادل الابتسامة معهم وأحياناً إلقاء التحية عندما نجتمع في المصعد، عوضاً عن الزيارات المتكررة بين الجيرة مثلما كان سائداً في علاقتنا مع جارتنا في الطابق الثاني، التي اعتادت زيارتنا برفقة ابنتيها؛ كل ذلك دفعني لأن أسمي الحارة الجديدة «حارة كل مين إيدو ألو».

سيطر «الإتيكيت» الاجتماعي على العلاقات في الحارة الجديدة عوضاً عن الحالة الشعبية التي كانت سائدةً بالحارة الأولى، وربما كان للعامل الاقتصادي دوره في ذلك، حيث ينتمي معظم ساكني الحي الغربي للطبقة المتوسطة القريبة من الغنى، بينما كان معظم ساكني الحارة الأولى ينتمون للطبقة المتوسطة وبعضهم ينتمي للطبقة الفقيرة.

النمط الكلاسيكي في حارة «كل مين إيدو ألو» دفعني إلى أن تظل علاقتي قوية مع صديقاتي في الحارة الأولى، وننتقل سويةً للدراسة في المرحلة الثانوية بحي الميدان، ومن ثم مرحلة الجامعة.

عندما أصف حي الميدان، لا بد من التحدث عن جدتي التي سكنت بالقرب من الكورنيش، ما بين الحارة الأولى وحارة «كل مين إيدو ألو». هذه المرأة المسنة كان لها فضل في تربيتي وفقاً لما يتماشى مع عادات الميدان؛ وربما هي التي جعلتني أشعر بانتمائي للحي، فهي امرأة ميدانية «أباً عن جد» كما يقال. متدينة، ولها مكانتها في العائلة.

انحصر شغفها في شرفتها الصغيرة التي اعتبرتها نافذتها المطلعة على العالم؛ وذلك نتيجة تقدمها في العمر، وعدم قدرتها على الخروج من المنزل والسير كثيراً. تبلغ مساحة شرفتها ما يقارب المترين، وضعت في صدرها حوضاً للنباتات، يتضمن شتول الياسمين، والفل، والنانرج، والليمون والخبيزة. وفي الفترة ما بين المغرب والعشاء اعتادت على سقايتها بعد أداء صلاة المغرب، كما عودتني في كل مرةٍ أزورها أن تضع يدها على رأسي وتتلو لي آيات من القرآن من أجل حمايتي، ومباركتي، ومن ثم تجلس و«المسبحة» في يدها تسبّح الله وتتأمل أهالي الحي.

توفيت جدتي لاحقاً، وعندما اندلعت الثورة السورية غادر معظم أهلي وأقربائي وأصدقائي الحي، نتيجة ملاحقتهم من قبل النظام السوري. وما يستوقفني اليوم هي غرابة الصدف، وكما يقال: «الحياة مليئة في المفارقات»، ففي الوقت الذي أحاول فيه استرجاع ما رسخ في الذاكرة عن حي الميدان، وحاراته، وتوثيقه من خلال هذه المقالة؛ يعدُّ والدّي العدة للحاق بركب من غادروا الحي، والانتقال إلى حي جديد، بعيداً عن الميدان!

«بوايكة»1 القمح، أصل الحكاية

كان بمقدور حواسي أن تتشابك داخل أزقة الميدان، وتمتزج لأشتم رائحة المناسبات الدينية والاجتماعية داخل حواريه؛ لا سيما أن الطقوس الدينية ساهمت في تكوين ثقافة الحي، وغذت ذاكرتي لتصبح أقرب للذاكرة الدينية، وتحديداً خلال شهر رمضان، حيث أتوجه لجامع الحسن الكائن في شارع الكورنيش لإحياء صلاة التراويح.

صُمِّمَ جامع الحسن بطريقة معمارية خلابة، وقد خُصِّصَ قبو الجامع كمصلى للنساء؛ وهو عبارة عن قاعة كبيرة يفترشها سجاد خمري، وفي صدر القاعة يوجد محراب صغير خصص للإمام، وعلى طول جدران القاعة تنتصب عدة رفوف وضعت عليها المصاحف وكتب الأدعية، والأحاديث النبوية.

أما يوم «وقفة العيد» سواء في الفطر أو الأضحى، فله طقوسه أيضاً في حي الميدان؛ فعائلتي التي لا تسمح لي عادة بالتأخر في العودة للبيت بعد الساعة الثامنة، تجيزُ لي التأخر في يوم الوقفة. أستغلُّ الفرصة التي منحتني إياها أسرتي وأقصد شارع الجزماتية وأبو حبل وكأنه تقليد اجتماعي أحرص عليه برفقة صديقتي، أشاهد زينة العيد، وبسطات الحلوى ممتدة على أطراف السوق الرئيسي، والأغاني الدينية تصدح من داخل المحلات وكأنها جوقة أعدت خصيصاً لهذه المناسبة. أما العمال والبائعون فبعضهم اعتاد أن يرتدي الزي الشامي التقليدي ويعلّق الخنجر على خصره احتفالاً بقدوم العيد، وأيضاً كاستعراض دمشقي ودلالة على تاريخ هذا الحي.

بالإضافة لذلك، تحفل ذاكرتي بتقاليد أهالي الميدان المرتبطة بالطعام الذي يعتبر أيضاً جزءً من ثقافة الحي وثقافة الدمشقيين عموماً، وتحديداً يوم الجمعة؛ حيث يحتل صحن الفول، المسبحة، أو الفتّة صدر المائدة.

تجسدَ شغفي في مرافقة والدي في أحيان كثيرة عقب انتهائه من أداء صلاة الجمعة إلى سوق الجزماتية أو أبو حبل أو باب الجابية لشراء الفول والحمص، أجلس في السيارة وأراقب الناس وهم يتبضعون، يمتلئ أنفي براحة الخضار واللحوم، وتصمُّ آذاني أصوات الباعة وهم ينادون على بضاعتهم.

يشتهر حي الميدان اليوم، سيما شارع الجزماتية وأبو حبل، بالمطابخ الدمشقية، وكذلك بيع الشاورما والفلافل، وإعداد الحلويات، خاصةً خلال فترة الأعياد، مثل «المعمول» بأنواعه المختلفة.

قالت لي جدتي مرة إن معظم أهل الميدان جاؤوا من حوران، عندما استقر أجدادنا في الحي الذي كان في العصر الأموي ميداناً للخيل؛ فقد امتهن المزارعون من أبناء المنطقة الجنوبية وسهل حوران مهنة بيوع الحبوب، وكان لهم مستودعات للحبوب في حي الميدان. ويؤكد كثيرٌ من الباحثين أن تسميته جاءت من كونه شكّل المركز الاقتصادي والتمويني الغذائي الرئيسي للدمشقيين خارج سور المدينة القديمة. وحتى اليوم مازالت قناطر «بوايكة» القمح موجودة ومنتصبة داخل أزقة الحي القديمة، وشاهدةً على آثار هذه التجارة من خلال مستودعات واسعة تحولت في العصر الحالي إلى أماكن تراثية أثرية، عملت مديرية الآثار السورية على تسجيلها ضمن المباني الأثرية التي يحظر هدمها2.

كتبت المؤرخة الفرنسية بريجيت مارينو في كتابها حي الميدان، الذي كتبته بعد إجراء دراسة مستفيضة لسجلات المحاكم الشرعية الخاصة في فترة القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر؛ أن نسبة ضئيلة من بيوت حي الميدان كانت تضم حُجُراً للطبخ في بدايات القرن الثامن عشر، وفسرت ذلك بالخلفية الريفية لقسم كبير من سكان ذلك الحي في تلك الفترة، ممن هاجروا من سهل حوران تجاه أطراف مدينة دمشق، بينما لاحظت ارتفاع نسبة هذه الحُجُر في بدايات القرن التاسع عشر، الأمر الذي كان يؤشر إلى بروز مظاهر ثقافية جديدة ذات طابع مدني داخل الحي، وإلى تبدلات عميقة على صعيد الاقتصاد السياسي للمدينة، نتيجة لولادة نخب تجارية ودينية جديدة من أبناء الميدان، أخذت تزاحم النخب الدمشقية السابقة على مواقعها الإدارية والدينية، التي تمركز ثقلها داخل فضاءات المدينة القديمة3.

كان لهذا النمو الاقتصادي أثره على بعض العائلات الميدانية، حيث بدأت طبقة من البرجوازيين الجدد -إذا صحت التسمية- بالنمو خلال العصر الحالي، وسيطرت على مرافق الحياة الاقتصادية في هذا الحي، كما امتازت بعلاقاتها الجيدة مع السلطة الحاكمة؛ إذ رشّحَ عددٌ من تجار الميدان أنفسهم لمجلس الشعب، كما استطاع عددٌ آخر منهم أن يتوسعوا في أعمالهم الاقتصادية خارج حدود حي الميدان، لتمتد على كامل الأراضي السورية. ولكن وجود هذه الطبقة البرجوازية الجديدة لم يمنع باقي أبناء الحي من أن يشاركوا وينتفضوا ضد النظام السوري لاحقاً.

امتاز حي الميدان بتعدد طبقاته الاقتصادية، ولكن معظم الأسر الميدانية كانت متوسطة الحال، وكذلك حال عائلتي؛ وعلى عكس العديد من العائلات الميدانية ممن امتهنوا التجارة والأعمال اليدوية، كان والدي حريصاً على أن أتعلم أنا وأخوتي، مردداً جملته المعتادة: «ما عندي محل ورتكم ياه، مشان هيك رح ورتكم الكتب».

الميدان ينتفض

عندما اندلعت الثورة السورية كان حي الميدان الدمشقي من أوائل الأحياء التي شاركت في الانتفاضة، فما زلت أذكر أول مرة عندما سمعت صوتاً قوياً يتردد صداه عبر أحياء الميدان الدمشقي: «الشعب يريد إسقاط النظام»، وبعد التدقيق والإصغاء جيداً، أدركتُ أن مظاهرة خرجت من أزقة هذا الحي!

إنها الجمعة العظيمة، 22\4\2011، يومٌ بألف يوم، كان عدد المتظاهرين كبيراً، وصوتهم قوياً. حناجرُ تهتف تحت قبة جامع الحسن في قلب الميدان مطالبةً بالحرية، وإسقاط النظام السوري. ياقوتة دمشق المعتّقة هتفت بحناجر ميدانية «ثورة… ثورة»، لتحرّكَ أجنة الحرية في داخلي.

بفضل تأثير هذه المظاهرة على الوعي الثوري، تمكن حي الميدان ولا سيما مسجد الحسن من استقطاب المتظاهرين؛ فخلال جمعتين متتاليتين تدفق المتظاهرون من كل حدب وصوب ليخرجوا عقب انتهاء الصلاة إلى الشوارع.

منذ اندلاع الثورة في سورية لم ينأَ حي الميدان بنفسه عن الأحداث؛ فجامع الحسن لم يكن المسجد الوحيد الثائر ضد النظام السوري، بل خرجت مظاهرات من عدة جوامع أخرى: جامع الدقاق، جامع زين العابدين، جامع خيرو ياسين، وجامع أبي الوفا؛ لتصبح هذا المساجد دُوراً للتظاهر السلمي. بالمقابل كان الأمن والشبيحة يتأهبون منذ ليلة خميس، ويعدون العدة لمنع المتظاهرين من الخروج، يتمركزون خلف جامع الحسن وعند مخفر الميدان، وتحت جسر المتحلق الجنوبي وأماكن متفرقة؛ يقيمون حواجز تفتيش عند عدة نقاط وينفذون حملات اعتقال، علّهم يحكمون قبضتهم على هذا الحي المنتفض.

مع ذلك، كانت المظاهرات تخرج كل جمعة عقب انتهاء الصلاة، وكنتُ أجد نفسي أثبُ إلى شرفتي منتظرةً خروجهم من الجوامع، وسماع أصواتهم، ورؤية جموعهم، وهم ينسلون عبر الأزقة، وقد قام الأمن بقطع الطرقات المؤدية بين الجوامع بهدف منع المتظاهرين من التجمع في مكان واحد.

توالت المظاهرات في الميدان كحبات عقدٍ متماسك، المظاهرة تلوى الأخرى، ولم يعد المتظاهرون يصبرون لمجيء يوم الجمعة، بل باتوا يخرجون كل يوم من مناطق وساحات متفرقة أبرزها: ساحة الحقلة التي سميت بساحة الحرية، وساحة السخانة، بالإضافة إلى شارع الكورنيش والجزماتية، وعند مركز «إم تي إن»، ونهر عيشة، والقاعة. مظاهرات تخرج من قلب أزقة الميدان، يتم الإعداد لها بحذر وسرّية، وعبر صفحات التواصل الاجتماعي.

على مدار سنة ونصف قدم الحي كثيراً من الشهداء، وكان المعتز بالله الشعّار أول شهداء الميدان بتاريخ 23\4\2011، وتم تشييعه من جامع الدقاق. يومها كنت مذهولةً من حجم المشيعين الذين أتوا من كافة أحياء الميدان ليعبروا عن غضبهم، يرددون شعارات ثورية، كلماتهم تستفز رصاص الأمن، ولاسيما عبارة «اللي بيقتل شعبو خاين».

بعدها توالى سقوط الشهداء: عامر بزازة، خالد الفاكهاني، محمد أيهم السمان، عمار النوري، محمد إلياس السقال، محمود مارديني. بعض مظاهرات تشييع هؤلاء الشهداء كانت خانقةً وكاتمةً للأنفاس، تمتزج حسرات الموت مع عبرات الغاز المسيل للدموع ودوي الرصاص الحي؛ والبعض الآخر كان هائجاً مكتظاً بالمتظاهرين، يهتفون للشهيد، ويطالبون بالحرية وإسقاط النظام. متظاهرون يجمعهم شعار «بالروح بالدم نفديك يا شهيد.. الشعب يريد إسقاط النظام»، ولا سيما في تشييع الطفلة هالة المنجد، وهي من أكبر مظاهرات التشييع التي خرجت من حي الميدان.

يمكن القول إنه لم يبق موطئ قدم في الميدان إلا وشارك في الحراك الثوري السلمي بكافة أشكاله، من مظاهرات وتوزيع منشورات، إلى إغلاق الطرقات بإشعال الإطارات لمنع وصول سيارات الأمن والشبيحة وخاصةً عند شارع الكورنيش؛ بالإضافة لأصوات التكبيرات التي كانت تصدح كل ليلة من خلف النوافذ والشرفات، فمع دقات عقارب الساعة 12 ليلاً كان صوت التكبير يعلو في سماء عدة أحياء من الميدان، ليعقبه دوي رصاص الأمن والشبيحة.

15\7\2012، تاريخٌ لا يشبه أي تاريخ مضى، تاريخٌ بأبعاد جديدة سيغير من معالم الحي، فقد قامت الدنيا ولم تقعد أثرَ اشتباكاتٍ بين الجيشين الحر والنظامي، بعدما دخل الجيش الحر إلى الميدان ضمن معركة عُرِفَت بـ «معركة دمشق»، وتمركز في الأحياء القريبة من ساحتي السخانة والحقلة، وأجزاء من نهر عيشة.

خلال فترة الاشتباكات، التي دامت قرابة أربعة أيام، اقتحم جيش النظام السوري حي الميدان بالدبابات والمدرعات، وتمركزت تحت جسر المتحلق الجنوبي القريب من المخفر. كما قصف أجزاء من الحي بالهاون والمدفعية، منها ساحة السخانة والحقلة والتضامن ونهر عيشة.

شرفتي العالية مكنتني من رؤية القذائف وهي تنهال على رؤوس الأهالي، وأرشدني مكان الدخان المتصاعد إلى تحديد الشارع الذي يقصف بالضبط. جالت عيناي أرجاء الحي، قلقةً عن حال جيراننا وأهلنا. هل ماتوا وتحولوا إلى مجرد أرقام تضاف على لوائح الشهداء؟ هل نزحوا كما نزحت العديد من العائلات الميدانية هرباً من الموت؟

انتهت الاشتباكات بانسحاب الجيش الحر من حي الميدان، نتيجة القصف المتواصل، ونقص المقاتلين والذخيرة، وانتهى المشهد إلى دمارٍ كبير، ولا سيما ساحتي الحقلة والساخنة، وكذلك أجزاء من نهر عيشة وخاصةً الحارات القريبة من جامع علي بن أبي طالب.

ضيّقَ النظام السوري الخناق على أهل الميدان بعدها، فعمد إلى تقطيع أوصال الحي بزرع مزيد من الحواجز ونقاط التفتيش، واستحدث مراكز للدفاع الوطني، وازدادت حملات الاعتقال بحق أبناء الميدان، ما كان سبباً في انخفاض وتيرة المظاهرات، التي تراجعت حتى توقفت بداية عام 2013.

اليوم أعيش في مدينة غازي عنتاب التركية، أسترجع سنوات حياتي التي قضيتها في حي الميدان الدمشقي، أتذكر قناطر «بوايكة» القمح التي ستظل منتصبةً تحكي قصص هذا الحي. أستجمعُ قواي، وأتخيلُ أن روحي مازالت عالقة داخل أزقة الميدان، تجول أرجاء الحارة الأولى والثانية، وحاراته القديمة وأسواقه الشعبية، من سوق نهر عيشة حتى سوق أبو حبل.

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى