كتاب «عالم داعش»: النهج الأعنف والأكثر دموية في سياق الحركات الإسلامية المتطرّفة/ هاشم شفيق
توجد في المكتبات العربية والأجنبية، كتب وبحوث جيو- سياسية قليلة تتحدث بشكل علمي وبحثي وتاريخي عن ظاهرة ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية، في العراق والشام، والمختصر بكلمة باتت معروفة ومستخدمة وأكثر تداولاً من الأولى هي «داعش». إنها كلمة مرعبة لكل من يتحدث بها ويسمعها، وأول مرة كنت قد سمعت بها على نحو صادم ومفاجئ ولافت هو يوم سقوط الموصل بتواطؤ من قوات قوات المالكي، كما هو ذائع. بالطبع لم يكن المالكي هو بطل الخزي الوحيد، بل هناك من كان يقف إلى جانبه ليرشده فقهياً ومذهبياً وسياسياً لكي يمضي في مشروعه الكبير في تحطيم بنية العراق الحديث، من أمثال ليفي ويونسي وسليماني، وهم الحاقدون الكبار على سكان العراق الأصليين، هذا بالإضافة إلى طائفة واسعة من الخبراء البعثيين الذين اعتمد عليهم، في إدارة القضايا العسكرية وهم قتلة مميزون وبارزون وملهمون في شؤون الإبادة في العهدين السابق والجديد، ومعروفون لدى طيف واسع من شرائح المجتمع العراقي، دون أن نورد أسماءهم، فالعراقيون يعرفون هؤلاء جيدا.
كنت في السليمانية، لحظة سقوط الموصل، وهروب محافظها إلى أربيل، مستبدلاً قاعة بقاعة أخرى، وكان اسم «داعش» حينها ملء السمع والبصر، بفعل إجرامهم الذي لا مثيل له في الولوغ بالبربرية والفن الفاشي الحديث.
لعل المشروع الداعشي الذي بُنيَ على رفض الآخر وتكفيره وعدم السماح له في العيش المشترك، هو ما برّزه إعلامياً، ناهيك عن الانغماس الكامل في لغة القتل ودورة العنف الدموية وفن المحو والهدم والإزاحة التي يجيد «داعش» اتقانها وتحقيقها بشتى السبل والأهداف والوسائل المتاحة لديه.
هذه المنعطفات التي حصلت في مسيرة «داعش» السوداوية، يوضّحها كتاب جديد هو «عالم داعش» لمؤلفه هشام الهاشمي، الذي كشف عن معرفة بحثية بشؤون التيارات الدينية والمذهبية المتطرفة والمتشددة التي تغزو العالم العربي، بُعيد حدوث الربيع العربي، وتحولاتها المرعبة، لتلبس لبوساً مغايراً للسابق، كالقاعدة التي تفككتْ أو بُنِيتْ من جديد لتصبح كما هي عليه الآن وما اصبح عليه «داعش» وأخواتها التي انتشرت بعد سوريا والعراق لتصل إلى ليبيا ومصر وتونس واليمن ولتؤسس الخلايا النائمة في باقي بلدان المغرب العربي، كالمغرب والجزائر، أو لتكون موجودة وفي لحظة استنفار وترقّب في كل من السعودية ولبنان والأردن ودول الخليج العربي.
وحسب الكتاب الذي احتوى على أجزاء وأبواب ومحاور عديدة، فإنه يوضّح بطريقة شبه كرونولوجية، التشاكيل السلفية الأولى، بدءاً بالقاعدة وتشكلها على يد الأمريكان وبعض الشخصيات السعودية الغنية كأسامة بن لادن، لمحاربة الشيوعية في أفغانستان، ومن ثم محاربتها للأمريكان بعد خروج السوفييت من هناك وترك كابل للمجاميع الدينية وللأمريكان، حيث ستتجه لمحاربة الأمريكان أنفسهم بعد دخولهم العراق وإشاعة ما يسمى بالفوضى الخلاقة.
أما الشخصيات التي عهدت إليها بمحاربة الأمريكان في العراق فسيبرز لدينا، حسب الكتاب، ابو مصعب الزرقاوي، الذي سيتدرب في إيران على خوض حرب العصابات ومعه مجموعة من المقاتلين والمتطوّعين المندفعين إلى محاربة الأمريكان في العراق.
بعد الفصول الكثيرة التي يتحدث فيها الكتاب عن دور القاعدة في العراق، وبعض دول العالم العربي، ممهّداً بذلك لداعش كونها ولدت من رحم القاعدة، وتولت النهج الأعنف والدموي في سياق الحركات الإسلامية المتطرّفة، تلك الحركات التي لم تقرأ الدين الإسلامي جيّداً، بل تلقفته شفاهاً عبر محاربين عنيفين ومتطرّفين وجاهلين بعلوم الفقه الإسلامي، دين التعايش والتسامح مع الآخر، والمثال هو ذلك التعدّد المذهبي والإثني والقومي الموجود منذ التاريخ على الأرض العربية، والمثال العراق واليمن وسوريا ولبنان والأردن والمغرب وتونس، إذ ثمة طوائف وأديان عاشت وتلاقحت ثقافياً ومعرفياً، وطوّرتْ وأعلتْ من قيم البلد الذي عاشت وترعرعتْ فيه، مثل يهود العراق واليمن والمغرب وتونس ومصر، ناهيك عن الديانة المسيحية الراسخة معالمها عبر التاريخ في كل من العراق وسوريا والأردن وفلسطين ومصر ولبنان، وشواهد التراث الرافديني الذي كان موجوداً قبل الإسلام في كل من العراق وسوريا، وظل موجوداً كتراث إنساني وعالمي وحضاري عبر كل الفترات الإسلامية، حتى هولاكو لم تمتد يده إلى تلك الصروح التاريخية، حيث بقيت ماثلة ومنتصبة حتى الشهور الأخيرة، من السنة الماضية، لكن «داعش» الجاهلة بعلوم الدين والمكفّرة للبشر والحجر وللتآخي الإنساني، تخطتْ كل القيم الحضارية، والإنسانية، لتعمل هدماً وتخريباً ونهباً للتحف والكنوز التي تخص تاريخ وادي الرافدين والبشرية جمعاء.
يكرّس الكتاب الفصل الأول لمحاور تختص بتنظيم القاعدة وقادتها، وشؤونها اليومية والاستراتيجية وتفاصيل كيثرة تخص كلا التنظيمين التوأمين التكفيريين.
بعد مقتل حامد الزاوي المعروف بأبي بكر البغدادي، خريج سجن بوكا، الذي كان يحلم بتجسيد السلطة والخلافة والشريعة في كل من العراق وسوريا على طريقة وصول طلبان إلى السلطة، بعد مقتله تتم البيعة لإبراهيم البدري المعروف بأبي عمر البغدادي، وهو الشخص الوحيد والمؤهل دموياً لخلافة الزاوي العنيف والدموي، وكان شعاره المتميّز، هو القتل والذبح والإبادة لكل من يعترض طريقهم.
بعد سقوط الموصل نجد أنفسنا أمام دولة لديها وزير إعلام وحرب ودفاع ونفط ومال وغيرها من الوزارات، وسنجد أننا أمام تنظيم حديث يستخدم الأجهزة العلمية الحديثة للوصول إلى هدفه ومعلومته ولديه معرفة بكل التقنيات الجديدة من وسائط الإتصال الحديثة، إضافة إلى ذلك لديه باع طويل في العمل الاستخباري اكتسبه من بعض رجال البعث السابقين في المخابرات الذين دعموا هذا المشروع، كونه جاء حسب تصورّهم من أجل إنقاذهم وإعادة الهيبة إلى ماضيهم، دون ان يعوا أن هؤلاء جاءوا مدفوعين بمصالح عالمية وأجندات خارجية، إيرانية وصهيونية وأمريكية، ولا يعلمون أن جرحى «داعش» يعالجون الآن في المشافي الإسرائيلية والإيرانية.
ينتعش «داعش» في أراضي الأنبار ونينوى وكركوك وديالى وبابل وواسط، وفي سوريا يمتد ما بين الرقة والحسكة وبعض من اللاذقية وحلب والحدود التركية السورية.
إنه وحسب الخريطة الجيوـ سياسية والاقتصادية، يسيطر على مساحات واسعة تتعدى مساحات أكثر من أربع دول متوسطة الحجم، بيدها ثروات كبرى تجنيها من تصدير النفط إلى أمريكا وأسرائيل وروسيا والدول المحاذية لها والتي كانت تعرف ببلدان الاتحاد السوفييتي سابقاً، ناهيك عن بلدان أوروبا الشرقية التي لا يهمها من أين يأتي البترول، بل المهم الحفاظ على مصالح شعبها، ولديها ضرائب وجزية وأتاوات على الشاحنات الناقلة للبضائع، ولديها جزية على النصارى حسب تعبيرهم، وعلى المدخّنين والذين يتناولون الكحول، عدا المتاجرة بالرقيق وبيع النساء اليزيديات كسبايا، هذا ناهيك عن الابتزاز المعروف من قبلهم للشركات، مثل شركة آسيا سيل للاتصالات التي يحصلون منها على مبالغ طائلة، وكذلك من معامل الإسمنت والطحين وفرض الأتاوة حتى على المدراء العامين بأخذ نسبة خمسة في المئة من رواتبهم ومحاربة الأغنياء، أما بخطفهم أو بتهديدهم عبر رسائل تصل اليهم من قبل شركائهم ومنتسبيهم وأعوانهم لغرض الابتزاز وانتزاع الأموال منهم.
لقد توسّعت دولة «داعش» بعد سقوط الرمادي أيضاً، وثمة من يصرّح من الأمريكان والفرنسيين الآن أن الشرق الأوسط قد تغير ولن يعود كما كان عليه في كل من سوريا والعراق.
إنها تصريحات جارحة ومؤسية للوطنيين العرب والنخب الفاعلة، سيّما بعد محاولات تهويد القدس علانية، ومصادرة الحقوق الفلسطينية كاملة، ومحاولة هدم كل تاريخ عربي من قبل إسرائيل وإيران اللاعب الأكبر الآن في المنطقة، والناهب الأول لخيرات العراق، عبر نهب ثرواته النفطية وتخريب اقتصاده الوطنيّ واحتلال تاريخه المشرّف، ونشر قيم التخلف والفساد والسموم بكل أنواعها في ربوعه الجميلة.
أما الفصل الثالث وهو أقصر فصل في الكتاب، وجاء تحت عنوان» توصيات لمكافحة إرهاب داعش» فإنه يتطرّق إلى سياسة البلدان التي جلبت «داعش»، وكيف جعلتْ من المجموعات الحزبية ـ الإسلامية تهيمن على البلاد لتصادرها عبر الدين وعبر نشر منظومة القيم الجاهلية بين العامة، تلك التي أدت إلى نفور الكثير من العراقيين من التيارات المذهبية المتلفعة بنقاب الدين..فـ «العراقيون لم يكرهوا الإسلام، إنما كرهوا الذين يتاجرون بالإسلام من الساسة، ومتى ما تمّ تطبيق الإسلام على منهج النبوّة والخلافة الراشدة، فإنه سيجد القبول والتسليم لدى العراقيين. إن كان هناك درس تعلمه العراقيون، من تجربة حكم المتاجرين بالإسلام، من أصحاب الشعارات البراقة، فإنهم حوّلوا الدين لمجرد مظاهر، وشعائر وشعارات فارغة من المحتوى».
وفي الفصل نفسه من الكتاب يشير الباحث إلى أن ثمة انشقاقات حصلت في صفوف تلك الأحزاب الدينية المهيمنة على السلطة، بخروج العديد من صفوفهم، بسبب غياب الحس الديمقراطي وانعدام الشفافية، هذا فضلا عن سيطرة عصبة محدودة أضحت تسيطر بالكامل على مقدّرات الحزب الإسلامي الحاكم، مشتكين من انتشار الفساد على نطاق عام وغياب المحاسبة، وتصدر الفاسدين لمفاصل الدولة وأجهزتها الحكومية.
هشام الهاشمي: «عالم داعش ـ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام»
دار الحكمة ـ لندن ـ 2015
318 صفحة
القدس العربي