كشفت سجلات «دفتر العوارض» عن تركيبتها الاجتماعية والاقتصادية: بيوتات وأحياء مدينة دمشق في القرن السابع عشر/ محمد تركي الربيعو
عرف التاريخ الاقتصادي والاجتماعي الإسلامي أشكالاً متعددة من الضرائب وأساليب جبايتها ومقاديرها. وقد كانت ضريبة «العوارض» هي من تلك الأنواع التي وجدت مكاناً لها داخل التعاملات اليومية التاريخية للمسلمين.
وتقوم فكرة هذه الضريبة على أساس ارتباطها بالأحوال الطارئة، ولاسيما حالة الحرب. وبالتالي فهي لا ترتبط بالشريعة الإسلامية، وعادة ما جرت جبايتها بناء على العرف، وفي أوقات الضيق التي مرّت بها خزانة الدولة. وفي بداية تطبيقها لم يفرض شكل معين للدفع، إذ تراوحت أحياناً تأدية هذه الضريبة بين دفع مبالغ مالية معينة، أو الاقتصار في حالات معينة على تقديم خدمات بدنية كقطع مجاديف للأسطول وتعمير القلاع والجسور وغير ذلك، أو عبر تقديم الشعير والتبن في المنازل التي ينزل عليها الجيش وقت السفر في طريقه إلى جبهات القتال.
وقد عرفت ضريبة العوارض في زمن الدولة العثمانية تطوراً جديداً، تمثل هذه المرة في تحولها إلى ضريبة ثابتة ومعينة تقريباً بدل من اقتصارها على فترات الحروب والكوارث. إذ ساهم تراجع موارد الدولة العثمانية وتضاعف حجم النفقات في إعادة النظر بظرفية هذه الضريبة وهو ما أدى إلى أن يؤسس الرعايا العثمانيون في مرات عديدة ما عرف بصناديق العوارض والأوقاف، حتى تقوم بدفع الضريبة عنهم والحيلولة دون وقوعهم تحت وطأتها. مع ذلك فإن الدولة العثمانية لم تقم بفرضها بناء على عدد الأفراد داخل العائلة، وإنما وفقاً للبيت أو السكن، بغض النظر عن صاحب هذا البيت الذي يؤدي هذه الضريبة، رجلا مسلما، امرأة، يهوديا. كما أن بعض البيوت كانت مستثناة من الدفع مثل بيوتات العساكر وأولادهم وزوجاتهم، وكذلك بيوتات المتولي في الأوقاف والناظر وقراء القرآن والأئمة والخطباء والمؤذنين من رجال الدين والسادات والأشراف. كما دخل معهم عمال المناجم والملاحات ومن يربي الجوارح والصقور ويحفظ أعشاشها، وصرافو المناجم ودور ضرب العملة كونهم يعملون لصالح الدولة.
في السنوات القليلة الماضية، تنبه عدد من الباحثين المتخصصين في الدراسات العثمانية إلى أهمية الأخذ بسجلات ضريبة العوارض، وما تقدمه من معطيات دقيقة حول أسماء البيوتات وعدد البيوتات داخل كل حي، وهو ما يعني إمكانية إعداد خريطة ديموغرافية جديدة تضمُّ أحياء ومدن الدولة العثمانية في تلك الفترة، وأول من بدأ بهذا الأمر كان عالم العثمانيات الشهير خليل ساحلي أوغلو، إذ أنه من السباقين في هذا الكشف الديموغرافي على المستوى التاريخي للمدينة العربية العثمانية، من خلال نشره لأحد دفاتر ضريبة العوارض حول مدينة دمشق التي عثر عليها في سجلات الأرشيف العثماني في إسطنبول، ونشره لاحقاً في كتاب ضخم صدر عن مركز أرسيكا للتاريخ والفنون والثقافية الإسلامية، إسطنبول. الدفتر مكتوب باللغة العثمانية في الأصل، وقد ترجمه أوغلو للعربية تحت عنوان «دفتر البيوت الموجودة في الأزقة المذكورة التابعة للمحلات المشار إليها في نفس الشام الشريف مع الصالحية حسب الإحصاء الجديد المنجز بموجب الأمر الشريف الرفيع الشأن في سنة ست وثمانين وألف (1086هـ/1675- 1676م)».
وكلمة نفس في المصطلح العثماني تعني المدينة من غير ضواحيها، وهي بالنسبة للشام دمشق مع الصالحية. والمحلي تفيد الحي والحارة، وتتركب المحلة من الشوارع والأزقة التي تحوي البيوت. المحرر أو الكاتب الأصلي الأول لهذا الدفتر هو ميرزا محمد، القاضي في دمشق الشام في 1086 هـ، وقد وضع توقيعه في نهاية الدفتر على شكل: «حرر ما فيه بمعرفة الثقات نمقه الفقير إليه سبحانه ميرزا محمد القاضي في دمشق غفر له».
من خلال المقدمة التي قدمها أوغلو وعبر الاطلاع على كامل المخطوطة، يمكن القول إن الدفتر يقدم معلومات دقيقة حول أسماء أحياء ومحلات دمشق في تلك الفترة، وهي (21) حي، بالإضافة إلى ذكر كل أسماء الأزقة في تلك الفترة، وأصحاب البيوت في كل زقاق من الأزقة الموجودة في المدينة. كما يوفر لنا الدفتر بعض المعلومات حول التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والحرفية لبعض الأحياء داخل المدينة وحجم هذه الأحياء. ففي حي مثل حي باب سريجة نعثر على أسماء (7) أزقة، في حين نجد أن حي شاغور الجواني يضم أسماء (13) زقاقا، ومحلة القبيبات (30) وباب المصلى (14)، وقبر السيد عاتكة رضي الله عنها (21)، وسويقة المحروقة (11)، وجامع الحشر (3)، سوق ساروجا (15)، العقبة الكبرى (20)، المزابل (25)، شاغور البراني (9)، الخراب (12)، القيمرية (15)، ونور الدين الشهيد (19)، باب الجابية (7)، وصالحية الشام (21)، وكفره (21)، باب شرقي (3)، يهود قرابين (38 بيتا) ويهود الفرنج والمستعربين (356 بيتا). وبالنسبة للأزقة، نجد أن العديد من اسمائها كانت تحمل أسماء بعض سكانها، فمن بين سكان زقاق ابن نعير الموجود في محلة قبيبات هناك حسين وعلي أولاد زين الدين نعير. في المحلة أو الحي ذاته، نعثر على زقاق بيت الحكيم نسبة إلى المعلم منصور بن محمود الحكيم وأخيه. أما زقاق حاج أبو بكر بن ملوك الموجود في محلة قبيبات فيوجد اسمه شخصياً بين سكان الزقاق مما يدل على حداثة الزقاق، إذ يوجد في هذا الزقاق بيتان أحدهما لأبي بكر بن ملوك والآخر لعلي بن ملوك.
من ناحية أخرى نلاحظ أن بعض الأزقة داخل المدينة كانت تعبر من خلال تسميتها عن وجود عدد كبير من أصحاب حرفة واحدة، ممن يقطنون داخل هذا الزقاق. ففي محلة الميدان مثلاً نعثر على زقاق العلافين، وفي محلة باب المصلى نعثر على زقاق البقارة وزقاق المعاصر. وفي محلة قبر السيدة عائشة نعثر على أزقة المبيضين والدقاقين والقصاصين. وفي محلة المزابل نعثر على زقاق الدباغين، أما في محلة نور الدين الشهيد نعثر على زقاق النحاسين، وزقاق القباقبية العتيقة، وزقاق الملاحين في محلة الصالحية.
كما نعثر داخل دفتر العوارض إلى ما أشارت إليه بعض الدراسات حول تطور بعض أحياء مدينة دمشق (خارج السور) نتيجة الهجرات الجديدة تجاه المدينة (كما في حالة حي باب مصلى والميدان). فمثلاً نعثر في محلة باب على زقاق الحلبية نسبة لتواجد عائلات حلبية في الزقاق، كذلك نعثر على زقاق المصريين في محلة قبيبات، كما نعثر في محلة خراب على زقاق للمغاربة باسم تلة المغاربة. أما المعلومة الطريفة التي نعثر عليها أيضاً في هذا السياق، فهي في وجود زقاق باسم زقاق هنود في محلة حضرة نور الدين الشهيد، ورغم أن معظم أسماء مالكي البيوت لا تشير إلى أي أصول هندية (بيت العطار والحمصي)، إلا أن اللافت أن هناك ذكرا لأسماء أوقاف وبيوت عائلات هندية يذكرها الدفتر بـ «بيوت عدد 6 ساكن الحاج (-) هندي، وقف زاوية توته هنود أفغان» ما يؤكد أن الحي قد أطلق نسبة لسكن هنود في هذا الحي، وربما لأنهم هم من قاموا بتأسيس هذا الحي في فترة سابقة.
أما بخصوص الطوائف فنلاحظ مثلاً أن تواجد المسيحيين في أحياء مثل حي الميدان كان تواجداً ضعيفاً أو نادراً، بينما نجد أن التواجد الأكبر لهم هو في محلة « كفرة» التي تبدو من خلال تسميتها بأنها تشير إلى مناطق لغير المسلمين. بالإضافة لذلك فإننا نعثر داخل الحي على زقاق كليسا وزقاق لطف الله وزقاق فسيتق وزقاق الموارنة وعدد من الأزقة الأخرى. ولعل التفاوت السابق بين وجود المسيحيين داخل أسوار المدينة القديمة وخارجها، يدعم بعض الاستنتاجات التاريخية التي تقول إن بداية الوجود الملحوظ للمسيحيين خارج أسوار المدينة القديمة لم يتم إلا مع موجات النزوح التي شهدتها أحياء مثل باب مصلى والقرشي في القرن التاسع عشر من حوران وجبل لبنان. وقد اختاروا يومها هذه الأحياء الطرفية (خارج الأسوار القديمة) كونهم غرباء عن المدينة من ناحية، ولأسباب اقتصادية تتعلق بارتفاع الإيجارات في داخل المدينة القديمة مقارنة بالأحياء الجديدة التي أخذت تتشكل مع بدايات القرن السادس عشر، كما تشير إلى ذلك المؤرخة الفرنسية بريجيت مارينو في كتابها المهم «حي الميدان في العصر العثماني»، وبعدها بدأت هذه الأحياء شيئاً فشيئاً تتوسع في ظل موجة الهجرات المتلاحقة التي شهدتها المدينة، وبحث بعض أبناء الأحياء القديمة عن أماكن أوسع للعيش.
٭ كاتب سوري
القدس العربي