كلمة السر لسوريا الجديدة: المواطنة: وائل السواح
وائل السوّاح
يقول هيغل في أصول فلسفة الحق، “كل ما هو واقعي معقول، وكل ما هو معقول واقعي”. النظام الحاكم في دمشق بات غير معقول، وبالتالي بات، بالمعنى التاريخي، نظاما غير واقعي. أما مسألة سقوطه الفعلي فليست أكثر من قضية وقت.
بعد رحيل النظام ستبدأ في سوريا عملية بناء الدولة، وستمر فترة عصيبة تستنفر فيها كل مكونات الشعب السوري وقواه السياسية والاجتماعية طاقاتها من أجل شد البساط كل باتجاهه. ولسوف تحدث تدخلات دولية وإقليمية كبيرة. وقتها ستقف سوريا على مفترق طرق: فإما أن تتجه نحو شكل آخر من الدكتاتورية أو من اقتسام السلطة، وإما أن تتجه نحو بناء دولة المواطنة والقانون. ثمة ثلاث كلمات مفتاحية تحمل السر في هذه القضية هي الفرد والحق والمساواة، وإذا أردنا اختصارها بكلمة واحدة، فسنتختار لها كلمة المواطنة.
قد تكون الفترة الانتقالية أخطر فترة في تاريخ البلاد، ولعلها أهم وأخطر حتى من فترة الثورة نفسها. إنها الفترة التي سوف تتنافس فيها القوى التي كانت متفقة على هدف إسقاط النظام وإحداث تغيير في بنية سوريا السياسية، وتحاول كل منها الحصول على أكبر حد من المكتسبات لصالح تمثيلها العقائدي أو السياسي أو الديني أو الطائفي أو القومي. وفي هذا السياق يمكن ببساطة أن يتم الدفع بالمستوى الوطني إلى الخلف أو تخبئته وارء شعارت ملونة.
سيتجه جمع كبير من السوريين باتجاه إعلاء كلمة الجماعة فوق كلمة الفرد. وفي ذلك يكمن المطب الأول الذي يمكن أن تقع فيه سوريا ما بعد الأسد. الحزب والجماعة والطائفة والقبيلة والأمة، كلها مسميات لمكونات اجتماعية وقومية تسرق حقوق الأفراد وتجيرها إلى الجماعات، ومن ثم تتلخص حقوق الجماعة في نخبة قليلة تنفرد من بين هذه الجماعة في احتكار تمثيلها، وينبت من بين النخبة فرد فذٌّ، فرد، اب ضابط للكل وناطق بلسانه، يتسيد المكان، فتتحول بذلك مصلحة الجماعة إلى مصلحة فرد واحد منها ويعيد التاريخ الكرة على شكل مهزلة. إن الفرد الحر الواعي المدرك لكينونته وموقعه الاجتماعي ينبغي أن يكون هو الأساس في عملية بناء المجتمع السوري الجديد، الذي سيكون في الحقيقة اتحادا بين أفراد متساوين في الحقوق والواجبات، تكمن مصلحتهم في عيشهم الواحد وتقديرهم المتبادل ومصلحتهم المشتركة.
وسيحاول بعض السوريين التراخي في موضوع المساواة بين الأفراد، وقد يقوم التفاوت على أساس الجنس أو الدين أو المذهب أو القومية.ولسوف يؤدي مثل هذا الاتجاه لو قيض له النجاح إلى تهميش المرأة السورية أو الأقليات الدينية والمذهبية أو المكونات القومية الصغيرة أو الفقراء والمرضى وأصحاب الاحتياجات الخاصة. يمكن للبعض أن يحاول أن يزج بالدين في هذا االخيار، مستخدما نصوصا دينية من هنا وهناك، غير أن هذا الخيار سوف يحول سوريا إلى دولة ذات لون واحد وصوت واحد. المساواة التامة بين الأفراد السوريين بغض الطرف عن لونهم أو دينهم أو جنسهم أو حالتهم الصحية هو المدخل الحقيقي لبناء دولة حديثة.
ولسوف يتم تقديم مفاهيم مختلفة للحق، ويتم التلاعب بالكلمات لشرح المفهوم بما ليس فيه، وتوضع قيود على الحقوق الأساسية المعترف بها دوليا، بحجة منافاتها للدين، أو بحجة اختلافها مع الأعراف والتقاليد، أو بحجة أنها بدعة مستوردة من الخارج، يريد الآخر فرضها علينا. لا يمكن أن يكون ثمة مساومة في الحقوق الأساسية، وهي الحق في الاعتقاد والتعبير والتجمع والتحزب والتنقل والتظاهر والتقاضي. وأي مساومة على أي من هذه الحقوق سوف تجعل السوريين يندمون في المستقبل، كما حدث مع عدد من الشعوب الأخرى التي مرت بظروف مشابهة.
إن دولة تقوم على أساس الحقوق والواجبات والمساواة في القانون أولا وأمام القانون ثانيا هي الوحيدة التي يمكنها أن تنقل سوريا من غياهب القمع والتسلط والفساد إلى رحابة الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والفكرية والفنية. ومن المهم أن ينعكس ذلك في دستور يقوم على أعرق القيم الديمقراطية وأحدث الاجتهادات القانونية والدستورية، ويكون مبنيا على عقد اجتماعي يتجسد في مبادئ فوق دستورية تضمن المساواة التامة لكافة المواطنين، وتضمن لهم حقوقهم المدنية (الحياة والتعبير والمعتقد…) ومشاركتهم في العملية السياسية، وحقهم في العمل والتعليم والضمان الاجتماعي.
المدن