كل هذا الربيع العربي وبيروت تكابد شتاءها
عبدالله أمين الحلاق *
من ضمن اللقاءات والاعتصامات والمسيرات الصامتة التي شهدتها عواصم ومدن عدة في مناطق شتى في العالم، تضامناً مع الشعب السوري في انتفاضته السّلمية المطالبة بالحرية، لم تشهد عواصم عربية اعتصامات وتضامناً على مستوى مثقفين ونخب خارج نطاق الظهور الإعلامي، إلا في بيروت. المسيرات كانت رمزية أكثر منها بشرية حاشدة، في زمن عزَّتْ فيه الجموع المطالبة بالحرية والمتضامنة مع طلابها أينما وجدوا، وانخفض تمثيل الكتل البشرية واختُزِل إلى قبضات مناصرة لحزب ولاية الفقيه ومن يدور في فلكه من مؤيدي النظامين السوري والإيراني، وهي محاولة تاريخية لاختزال هواء بيروت وألوانها وتياراتها السياسية والفكرية في لون واحد عرفناه منذ سنوات، إنه الأصفر المشير إلى النصر الإلهي لذلك الحزب.
غير ان الرمزية في تضامن باقة من اللبنانيين مع الشعب السوري كانت بالغة الدلالة، فرغم تدخل قوى مؤيدة وموالية للنظام السوري في مسيرة معاكسة لمسيرة الحداد على أرواح السوريين الذين سقطوا في سورية، استطاع هؤلاء إيصال رسالتهم بهدوء وسلمية دلت عليها الوردة الحمراء والقميص الأسود الذي ارتداه كلُّ مَن تضامن مع الشعب السوري في ذلك اليوم البيروتي.
لم تنته القصة، فالمؤيدون الذين لم يتدخلوا عنفياً في مواجهة حرية التعبير عن الرأي ممثَّلة بالتضامن مع شهداء سورية من شباب الحرية، واجهوا اعتصامات وتجمعات مماثلة بإلقاء خطب مؤيدة للنظام السوري في شارع الحمراء أمام السفارة السورية في بيروت، وأمام فندق بيروتي كان سيشهد لقاءً تضامنياً مع المحتجين والمطالبين بالحرية في سورية، قرر مدير الفندق لاحقاً وإثر ضغوطات «الموالاة اللبنانية لسورية» الاعتذار عن إقامة لقاء التضامن مع السوريين في محنتهم.
ما الذي يدفع كاتب هذه السطور إلى كتابة مقال عن لبنان وبيروت في وقت صار من واجب كل الكتّاب والمثقفين السوريين استنفار أقلامهم في الكتابة عن الحرية وإرهاصاتها في سورية (إذا استثنينا أبواق النظام من السوريين واللبنانيين)؟ إنها ذكرى رجل كان من المفترض لو قدر له العيش ليشهد سورية اليوم، أن يدلو بدلوه نظرياً وعملياً لنصرة الشعب السوري وقضيته، هو سمير قصير، الذي تشظى جسده في منطقة الأشرفية في بيروت بتاريخ 2 حزيران (يونيو) 2005، دفاعاً عن احتمالات الحرية التي اختزنتها بلدان المشرق العربي قاطبةً، وكان من صاغ بيان الحلم، وافتتح جريدة «النهار» ذات جمعة بـ «فعل بيروت في دمشق»، وهنا، وفي هذا العنوان يكمن بيت القصيد.
لو أردنا الحديث عن فعلٍ لدمشق في بيروت، فلن ندخل في صلب الوصاية السورية على لبنان، بل سيكون حديثنا في ما لن يرضي الوصاية وأنصارها السوريين واللبنانيين على حدٍ سواء، ألا وهو الربيع الدمشقي، الذي تجاوز المنتديات الثقافية والسياسية وتصريحات السياسيين والمثقفين المعارضين، ليزهر أيضاً على صفحات الصحف اللبنانية الصادرة في لبنان والمهجر. وهذا ما لم يكن يرضي الأوصياء السوريين والموصى عليهم من اللبنانيين المؤيدين والمستفيدين من تلك الوصاية، والذين لم ترضهم اليوم المواقف التضامنية الأخلاقية للمثقفين والشباب اللبنانيين تضامناً مع ربيع سوري يزهر هذه المرة دونما مثقفين وقادة سياسيين ومنتديات، فكان أن وقف هؤلاء اللبنانيون من مسيرات الشموع ووقفات الحداد على شهداء سورية مواقف هي دون عتبة العنف الجسدي وفوق عتبة الحوار المنافي لكل إقصاءٍ ومنع، من دون أن يعني ذلك ان احتمالات العنف الجسدي كانت غائبة عن أجندة أنصار النصر الإلهي في 7 أيار (مايو) 2008.
أما عن فعل بيروت في دمشق، فالأمر لن يكون مطروحاً أيضاً ضمن الجولات المكوكية لمسؤولين ونواب و «مثقفين» لبنانيين بين دمشق وبيروت، بل سيدور حول احتمالات استعادة ما أجهض في بيروت بعد اغتيالات طالت مثقفين وسياسيين، وحروب ومعارك سياسية وميليشياوية وإعلامية، حوّلت دور بيروت الريادي تاريخياً إلى بقايا حلم يحاول بعض الأحرار من السياسيين والمثقفين والكتّاب والمناضلين العلمانيين استعادته، على معرفتهم بصعوبة الوصول وما يتطلبه نضالهم ذلك من جهد وضرائب قد يدفعها كل منهم إذا ما غامر وتاخم «الخطوط الحمراء».
هكذا صارت بيروت اليوم بلا بيروت، تتخللها ومضات مضيئة تحاول ان تحفر في جدار الطائفية والاستبداد الذي استورد من خارج الحدود وبشكل ممنهج، فكان أن سبقتها عواصم عدة في اجتراح التغيير، لتجد نفسها حائرة ومنهكة وهي مثقلة بالجراح والموت والفقدان، رافعة شعاراً رائعاً تحرق فيه المراحل «الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي».
يصعب القبول بروايات رومانسية من ان التغيير في بلدان كبلدان العرب سينحو منحاً انتقالياً هادئاً تنام فيه البلاد على ثورة وتصحو على ديموقراطيات ناجزة، يشهد لذلك العبء الذي يثقل كاهل التوانسة والمصريين بعد أفول نجم طغاة هذين البلدين.
غير ان ذلك قد يكون بداهة تاريخية تأخذ شكل الممر الإجباري نحو الاستقرار، في مجتمعات عربية أنهكها الاستبداد والفساد والتفكك وانتماءات وتشكيلات ماقبل المواطَنة، وهي ما عملت النظم العربية على ترسيخه بدل اجتثاثه وإقامة بدائل أكثر تمدناً منه، وفي هذا ما ينطبق أيضاً على لبناننا وبيروتنا، حيث المحاولات الصعبة لكسر جدار الطائفية المقيت ومقاومة كل محاولة لنسخ واستيراد الاستبداد واللون الواحد بحجج متهافتة، وفي هذا فعل مقاومة من نوع مختلف وبمفهوم مختلف للمقاومة بحد ذاته قد يقض مضاجع الكثيرين.
وبالعودة إلى هؤلاء الكثيرين من المؤيدين الذين يرون في القمع والاعتقالات تفصيلاً لا يستحق الذكر، يستحضرني قول للراحل جوزف سماحة يوم صدر إعلان دمشق بيروت – بيروت دمشق، وتبعته حملات اعتقالات واسعة في سورية، وحملات تشهير وبذاءات إعلامية أوسع في منابر 8 آذار ومن دار في فلكها:
«سورية بخير إذا كان ميشيل كيلو بخير، وميشيل كيلو بخير إذا كانت سورية بخير».
* كاتب سوري
الحياة