كيري في جولته العربية: زيارة استماع
محاولـة لتفكيـك التعقيـدات مـع مصـر والخليـج
جو معكرون
لعل أكثر البلدان التي تعبّر عن مدى التحول في المقاربة الأميركية وحجم التغيرات في الشرق الأوسط هي مصر، التي يبدأ منها وزير الخارجية جون كيري اليوم، جولته العربية على حلفاء تتعزز الشراكة معهم على وقع ازدياد تعقيدات هذه العلاقة.
ففي حزيران العام 2005، وقفت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندليسا رايس في جامعة القاهرة لتقول «على مدى 60 عاماً سعت بلادي، الولايات المتحدة، للاستقرار على حساب الديموقراطية في هذه المنطقة هنا في الشرق الأوسط، ولم نحقق أياً منهما»، فأغضبت نظام حسني مبارك حينها. وبعدها بأربع سنوات، كان الرئيس الأميركي باراك أوباما في الجامعة ذاتها، ولكن بكلام أكثر أناقة وديبلوماسية لإعادة مد الجسور مع القاهرة، وقال حينها «لدي اعتقاد راسخ أن كل البشر يتطلعون إلى أمور معينة: القدرة على الكلام وإعطاء الرأي بطريقة الحكم، والثقة في حكم القانون والإدارة المتساوية للعدالة، وحكومة شفافة لا تسرق من الناس»، لكنه أشار إلى أن ليس هناك «خط مستقيم لتحقيق هذا الوعد».
وبعدها بـ18 شهراً، بدأت الثورة المصرية في 25 كانون الثاني العام 2011. وعلى وقع قتل المتظاهرين، وصلت المواجهة إلى ذروتها داخل الإدارة بين مؤيدي الاستقرار ومؤيدي الديموقراطية، حتى حسم البيت الأبيض ميله إلى خيار تنحي مبارك ليسقط أول حلفائها الرئيسيين في المنطقة. سقوط النظام في القاهرة ساهم في تعقيد العلاقة مع الرياض، فاضطرت الإدارة الأميركية إلى إعادة ترميمها، وكان المخرج اليمني بانسحاب علي عبد الله صالح من السلطة واستيعاب تداعيات البحرين.
في زيارة كيري المصرية اليوم، لن يكون هناك كلام على الأرجح بمستوى كلام رايس في جامعة القاهرة. واشنطن تغيّرت كما المشهد المصري برمّته. والمعارضة المصرية تعتبر أن واشنطن تغازل الرئيس محمد مرسي، حتى أن «جبهة الإنقاذ» المعارضة رفضت لقاء كيري في ظل دعم واشنطن للانتخابات التشريعية في 22 نيسان المقبل. هذا الانقسام ينعكس حتى داخل واشنطن بين من يؤيد إعطاء فرصة لمرسي وبين من يضغط على الإدارة لعدم استضافته في البيت الأبيض، والى وضع شروط على قروض القاهرة من صندوق النقد الدولي.
أوباما صرح العام الماضي رداً على تصرفات مرسي «مصر ليست عدوة لكنها ليست حليفة»، كأن واشنطن لا تزال حائرة في تصنيف النظام المصري الجديد وبالتالي قررت الابتعاد عن الصراع السياسي داخلها. ولكن دور الحكومة المصرية على الحدود مع إسرائيل، وفي تهدئة الوضع في قطاع غزة جعلها تستعيد ثقة واشنطن، مؤقتاً على الأقل.
الباحثة تمارا كوفمان ويتس، من مؤسسة «بروكينغز»، ترى في مقال نشر أمس، أن ركائز السياسة الأميركية منذ الثورة هي «حماية السلام المصري الإسرائيلي، وأمن حدودهما المشتركة، ومحاولة دعم وتحقيق الاستقرار في الاقتصاد المصري المتهالك»، كما دعت واشنطن إلى استخدام نفوذها لدعم «بناء ديموقراطية مستدامة» في مصر. لكن الباحث ستيفن كوك كتب في «فورين بوليسي» أمس أيضاً أن «المشكلة في تحديد الاستراتيجية هي أن واشنطن ليست مهتمة كثيراً بالقاهرة. صناع القرار والمحللون يناقشون أهمية تعزيز الديموقراطية في مصر، لكن السياسة الأميركية في المنطقة موجّهة نحو أهداف أوسع، وهي ضمان تدفق النفط من المنطقة، والمساعدة في حماية إسرائيل، والتأكد أن ليس هناك بلد واحد يهيمن على الشرق الأوسط». ولمّح في هذا السياق الى أن ما يهم واشنطن هو «الاستقرار في مصر وليس الديموقراطية».
على جبهات أخرى، التعقيدات لا تزال قائمة أيضاً بين واشنطن وحلفائها. مع تركيا يبقى العائق هو التوتر في العلاقات التركية الإسرائيلية. وعلّق مسؤول أميركي رفيع، من على متن الطائرة التي حملت كيري إلى أنقرة، على كلام رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الذي وصف «الصهيونية بأنها جريمة ضد الإنسانية»، بالقول «لا أريد الدخول في تكهنات حول مجمل العلاقة، لكن هذا الأمر يعقّد قدرتنا على فعل كل الأشياء التي نريد فعلها معاً حين يكون مثل هذا الاختلاف العميق حول أمر بهذه الأهمية». ووصف العلاقة التركية ـ الإسرائيلية بأنها «مجمدة». طبعاً هناك أيضاً احتقان تركي من عدم ذهاب واشنطن بعيداً في الشأن السوري، لكن في الوقت ذاته، تدرك أنقرة أنها غير قادرة على أخذ المبادرة وحدها. وحين توترت الحدود التركية السورية، لبّت واشنطن طلب أنقرة بنشر صواريخ باتريوت تابعة للحلف الأطلسي، لكن مطالب الجانب التركي تتجاوز تعزيز دفاعاتها الجوية.
التعقيد الآخر يبقى مع الجانب القطري بعدما وصل التنسيق إلى ذروته خلال عملية حلف الأطلسي التي فرضت حظراً جوياً فوق ليبيا في آذار العام 2011، وانتهت بسقوط نظام العقيد معمر القذافي. لكن بعد مقتل السفير الأميركي كريس ستيفنز في بنغازي وانتشار الأسلحة الليبية في مالي، بدأ التحول في النظرة الأميركية إلى تنامي دور المجموعات المتشددة ودفعها إلى بلورة مقاربة أكثر حذراً.
التحفظ الخليجي مشابه لموقف تركيا. وحين تصاعدت عمليات القتل من قبل النظام السوري بداية العام الماضي، أصرت واشنطن على موقفها الرافض للتدخل العسكري أو لتسليح المعارضة، إلا أن الإدارة الأميركية غضّت النظر عن إمداد المعارضة بالسلاح الخفيف من دول الجوار، وبعدها قامت وكالة الاستخبارات المركزية بدور في التدقيق بعناصر المعارضة التي تحصل على أجهزة اتصالات أميركية، لكن حتى هذه الجهود تراجعت بعد فترة. التحول كان في صعود «جبهة النصرة»، التي غيّرت الحسابات الأميركية بشأن سوريا، وتبعها رفض البيت الأبيض خطة لتسليح المعارضة السورية في الصيف الماضي. المقاربة الأميركية الآن هي تعزيز المساعدات التي تسميها «غير قاتلة» لتوسيع نفوذها داخل المعارضة السورية، وتعزيز دور العناصر المعتدلة فيها بانتظار بلورة تسوية على المستوى الدولي.
دول الخليج ستكون أكثر استماعاً خلال الاجتماع مع كيري لترقب إذا ما كان هناك فعلاً أي تحول في الموقف الأميركي حيال المنطقة حتى أبعد من سوريا، أي الملف النووي الإيراني والتفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وكيلة وزير الخارجية ويندي شيرمان تجول أيضاً في الأردن والسعودية لإطلاع الحلفاء وطمأنتهم بعد محادثات الدول «الخمس زائداً واحداً» مع إيران حول برنامجها النووي، والتي وصفتها واشنطن بأنها كانت «بناءة ومفيدة».
بالمجمل كيري في «جولة استماع» عربية، أهم عنوان فيها، هو اختبار جديد لهذه الشراكة مع الحلفاء التي تبقى حاجة متبادلة بين الطرفين بالرغم من التحفظات القائمة.
السفير