صفحات الرأي

كيف تطوّر الخطاب الديني المعاصر؟/ إبراهيم غرايبة

 

 

 

لم تكن الظاهرة الدينية القائمة اليوم في تطبيقاتها وتجلياتها في الدولة والمجتمعات أو في تطبيقها المعارض أو في تشكلاتها الاحتجاجية والمتطرفة وصراعها العنيف (الإرهاب) مع العالم، مفاجأة هبطت أو ظهرت فجأة، لكنها بالتأكيد تفاعلات مصاحبة لتشكّلات الدولة والمجتمعات العربية والإسلامية الحديثة وأزمتها مع نفسها والعالم، بخاصة منذ أوائل القرن التاسع عشر مروراً بالحرب العالمية الاولى وما نتج منها من احتلال وتقسيم وتصفية للدولة العثمانية المسماة «الخلافة»، ثم الحرب العالمية الثانية وما تبعها من استقلال وتحديث، إلى أن بدأت الدولة الحديثة تواجه أزمات الفشل السياسي والتنموي وتحديات العولمة وعصر المعرفة وتداعياتهما الاقتصادية والاجتماعية…

كان الدين يمثّل مكوناً رئيسياً في خطاب السلطة وقيادة المجتمعات كما القضاء والتعليم والتشريع والقيم الأساسية للسلطات والمجتمعات، وفي ذلك كان القادة الدينيون من العلماء والقضاة وشيوخ الطرق الصوفية قادة اجتماعيين وسياسيين مؤثرين، وظلّ هذا الخطاب ثابتاً وراسخاً حتى بدأت التحولات الكبرى التي هبّت على العالم الإسلامي منذ مطلع القرن التاسع عشر، وفي أثناء ذلك كان الخطاب الديني كما الدولة والمجتمع، يواجه تحديات كبيرة تؤثر جوهرياً في التطور والصراع الاجتماعي والسياسي الذي يدور.

وكانت النخب الدينية هي الفاعل الرئيسي في قيادة المجتمع والتأثير في السلطة في اتجاه استيعاب النموذج الغربي واقتباسه والتفاعل معه، لكن بدأت تتشكّل اتجاهات وتيارات ليبرالية مستقلّة عن التيارات والنخب الدينية، وظهر أيضاً خطاب ديني جديد يؤسس لعلاقة بين الدين والدولة والمجتمع مختلفة عن الخطاب الديني التاريخي والتقليدي، وينسجم مع الخطاب العلماني، ومن رواده علي عبدالرازق، لكنه لقي مقاومة شديدة من الأزهر والسلطة، وعوقب بالعزل والحرمان.

وفي تقدّم الاتجاهات الليبرالية، تحوّل الخطاب الديني الإصلاحي في غالبه إلى جماعات سياسية واجتماعية تدعو إلى استئناف الخلافة، وبدأ الخطاب الديني الرسمي بالضمور والانحسار، ولم يعد قادراً على مواكبة العصر والتحوّلات، ولقي إعراضاً شديداً وهجراناً من النخب والأجيال.

لكن موجة دينية هبّت على العالم مجدداً بدءاً بأواخر الستينات، ومهما كان تفسير هذا المد الديني فقد تحوّل إلى حقيقة راسخة ومؤثرة في المجتمعات وفي السياسة، وتحالفت مع السلطات السياسية والقائمة في الوقت نفسه على نخب ليبرالية أو غير متديّنة.

وفي غياب الخطاب الديني التقليدي وانحساره، فقد نشأ وغلب خطاب ديني جديد يقوم على فكرة تقديس التاريخ والتجارب الدينية وشمول الدين جميع شؤون الحياة، ويدعو إلى تطبيق الدين في الحكم والسياسة والاقتصاد والتعليم والإدارة، وتشكّل خطاب ديني متمكّن مدعوم بمحتوى فكري وإعلامي وإرشادي يدعو إلى ويقدم نماذج جديدة أو يجدد نماذج تاريخية في الحكم والاقتصاد والإعلام والتعليم، وينشئ مواقف وتطبيقات مستمدة من الدين، وتغير في أسلوب الحياة والمؤسسات والأفكار والعلاقات والتحالفات الاجتماعية الداخلية والدولية، ولقي هذا الخطاب قبولاً وانتشاراً وتأييداً في الدول والمجتمعات والأسواق.

لقد حلّ هذا المدّ المصحوب بخطاب جديد في فراغ، وشكّل من غير منافسة الفهم والفكر الدينيين السائدين اليوم والمتبعين في الدول والمجتمعات والمناهج التعليمية والإدارات الدينية الرسمية وكليات الشريعة والإعلام والفضائيات، ولم يعد يغيّر شيئاً أو يؤثر إبعاد الجماعات الدينية من التعليم والإعلام والإرشاد في حقيقة أن الخطاب الديني السائد والمتّبع هو خطاب الجماعات، وإن كان يحمله وينشره غير «الجماعاتيين»، وفي كثير من الأحيان أعداؤها وخصومها.

وفي صعود المجتمعات والأسواق والمشاركة العامة، اكتسحت الجماعات أو أفكارها من غيرها النقابات والبرلمانات والسلع والمنتجات والبنوك والشركات وكثير من المؤسسات الاقتصادية والإعلامية. ويمكن اليوم ملاحظة شبكة اجتماعية واقتصادية واسعة مستمدة من الدين من غير جماعات أو مؤسسات دينية رسمية، مثل المدارس والجامعات والمساجد والفضائيات والصحف والبنوك وشركات التأمين والسياحة والسلع والأطعمة والملابس والمنتجات المنسجمة مع الشريعة في كل مجال بدءاً بالواجبات الدينية والأساسية… وصولاً إلى ملابس السباحة!

ودخلت السلطات السياسية إلى «السوق الإسلامية» لتنافس الجماعات بل تزايد عليها، وصارت الحالة الدينية في مستوى من الصلابة والتماسك والمؤسسية يصعب تفكيكها من غير الصراع مع الطبقات السياسية السائدة والمستفيدة من الحالة القائمة. لقد تحوّل الصراع مع التطرف الديني والكراهية، إلى صراع مع النخب المهيمنة وإن كانت تبدو معادية للجماعات الدينية المعارضة والاحتجاجية، وفي اللحظة التي يتلاشى فيها التطرف الديني ستتلاشى أيضاً طبقات ومصالح سياسية واقتصادية واجتماعية تبدو اليوم مهيمنة ومستفيدة من التطرف… وتجارة مكافحة التطرف!

* كاتب أردني

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى