لاجئون على “المقعد الوثير”.. في مصر/ دينا درويش
لملم الصغير سفيان أجزاء لعبة البازل، كأنه يلملم أشلاء منزله الذي تطاير في إحدى الغارات على ريف دمشق. للوهلة الأولى بدا الطفل ذو العشرة أعوام، كأنه شبح انسان. هنا في مستشفى العباسية للصحة النفسية في القاهرة، يتردد الصغير إلى إحدى العيادات الخارجية كي يحصل على خدمة للدعم النفسي. اذ ان تجربة فقدان الوطن كانت ثقيلة جداً بالنسبة إليه. ففي الماضي القريب كان يعيش كطفل طبيعي في كنف أسرة، لكن اليوم لم يبق له سوى ذكريات أليمة: مشاهد دموية، صراخ أطفال، عويل نساء، جيران يرحلون وبيوت تنهار.
اكتئاب حاد
يسعى المعالج النفسي بدوره إلى جمع تلك المشاهد تماماً مثل قطع البازل التي يلهو بها الطفل. “لقد كانت عائلة سفيان أكثر حظاً من كثير من سكان الحي الذي يقطنه. فقد استطاعت ان تختبئ في ملجأ أسفل المنزل كانت الأسرة تخزّن فيه بعض المواد التموينية. لكن تجربة البقاء تحت الأرض بدت مؤلمة، بعيداً من التهوئة السليمة وأشعة الشمس، لمدة تصل إلى أربعة أشهر بينما يقترب الموت منهم في كل لحظة، وكان عليهم ان يقتاتوا بأقل الحدود الممكنة حتى لا تنفد المؤن”، وفق الطبيب المعالج. معركة بقاء خرج منها الطفل منتصراً للحياة لكن التجربة الثقيلة تركت بصماتها في نفسيته. فهو اليوم يعاني من اكتئاب حاد ولا يريد ان يذهب إلى المدرسة. فلم يبق له سوى الدموع وصرخات الاعتراض ازاء عالم لا يحترم سنوات عمره.
وسفيان واحد من 15 حالة من مجتمع اللاجئين ممن يترددون شهرياً على مستشفى العباسية كي يحصلوا على خدمة للدعم النفسي، أُدرجت ضمن برامج علاج منذ عامين تقريباً. تشير أرقام “المفوضية العليا لشؤون اللاجئين” أن عدد اللاجئين في مصر قد بلغ نحو 230 ألفاً، يشكل السوريون 140 ألفاً منهم. وإذا كان كل لاجيء قد حمل مع حقيبته هموماً، فإن ظروف الحياة العصيبة في وطن اللجوء استنهضت همم بعض منظمات المجتمع المدني لتقديم الدعم النفسي. تقول الدكتورة سوزان فياض، مؤسسة وحدة الدعم النفسي وإعادة التأهيل لضحايا العنف والتعذيب في “مركز النديم لحقوق الانسان” ان “الكثير من اللاجئين هم أناس قد وصلوا إلى حافة الموت وتعرضوا لتجارب تعذيب تركت أثراً قوياً فيهم. وتشير الدراسات النفسية إلى أن الاثر النفسي الذي تتركه تجارب التعذيب قد يقل مع برامج العلاج النفسي، لكنّ المريض لا يشفى منه تماماً، كأنه يحمل عاهة نفسية مزمنة”.
تضيف: “عندما أسسنا مركز النديم في العام 1993، كان اللاجئون يشكلون 75% من المترددين إلى وحدة الدعم النفسي، خصوصاً من السودانيين والفلسطينيين الذين تم تعذيبهم في قطاع غزة. لكن الوضع تغير اليوم لا سيما مع وجود قنوات أخرى تقدّم خدمات مشابهة. إذ يستقبل مركز النديم كل شهر 200 حالة تقريباً، يشكل اللاجئون حوالي 50% منهم”.
الأطفال اللاجئون
واذا كان “مركز النديم” أحد المراكز الحقوقية الرائدة في تقديم خدمة دعم نفسي مجانية للاجئين، فإن مستشفى الصحة النفسية في العباسية وبعض الجمعيات الأهلية، على غرار فريق “بستك السوري للدعم النفسي والاجتماعي للاجئين في مصر PSTIC” بالتعاون مع منظمة “أطباء بلا حدود” قد بدأوا يحذون حذوه. تقول الدكتورة ايمان جابر، من مستشفى العباسية للصحة النفسية، “لقد قمنا منذ عامين بتدشين مبادرة تقديم المعونة النفسية للأطفال مع تنامي مشاهد العنف في الشارع المصري عقب أحداث رابعة وتوابعها. ورغم أننا كنا نستهدف الطفل المصري في الأساس، لكننا وجدنا ان الاطفال اللاجئين يحتاجون إلى هذه الخدمة أيضاً، لأنهم يستعيدون المشاهد المؤلمة عند خروجهم من بلادهم”.
خلال عقدين من العمل في مجال المساندة النفسية للاجئين، تسطيع فياض ان تدرج قائمة بالأمراض التي تعاني منها تلك الشريحة في أغلب الأحوال. اذ تتراوح في حدتها من كرب ما بعد الصدمة، وصولاً إلى الاكتئاب. “كلما كان تدخّل الطبيب النفسي متأخراً ازدادت مشكلة المريض، فهو قد يخرج من دائرة كرب ما بعد الصدمة ليدخل في نطاق الاكتئاب، الذي يعتبر أكثر تعقيداً في علاجه”.
أشباح الفقد
ربما تجسد تجربة محمد (25 سنة) اللاجئ من الصومال مثالاً على هذا المأزق. وهو لم يكن يكف عن ترداد عبارة واحدة “هلم اقتلوني اقتلوني”، ثم ينغلق على ذاته في حجرة صغيرة لشهور حيث يقوم بالتحدث مع نفسه، وكأن اشباح من فارقوا حياته لا تفارقه. لقد كانت تجربة هذا اللاجىء عصيبة، على حد تعبير والدته فاطمة (50 سنة)، التي تقيم في القاهرة منذ خمس سنوات. “لقد هاجمت الميليشيات المنزل الذي كنا نقيم فيه، وقتلوا والده. وعندما انتقلنا إلى مسكن آخر في طرف المدينة، جاءت الميليشيات مرة أخرى لتقتل أخاه، الذي تدخل لتخليص اخته عندما حاول الجنود اغتصابها”، وفقها.
ورغم أن حالة المريض قد تكون قابلة للشفاء في البداية، لكنه قد يواجه خلال رحلة السفر ضغوطاً أخرى تزيد من معاناته، خصوصاً انه لا يسافر على متن طائرة أو سفينة كالمسافرين الآخرين الذين يتمتعون بقدر من الأمان خلال رحلتهم. تضيف فياض: “استقبلنا في مركز النديم احدى اللاجئات التي وصلت إلى مصر بعد عامين من خروجها من اثيوبيا، حيث أسرها أحد الاقطاعيين أثناء مرورها في أرض زراعية يملكها”.
كما أن الكثير من اللاجئين لا يتمكنون أحياناً من التأقلم مع معطيات وأفراد المجتمع المضيف. تقول الدكتورة ياسمين رسلان، وهي معالجة نفسية في مستشفى العباسية، ان “الأطفال الغرباء في مجتمع اللجوء يواجهون رفضاً من قبل أقرانهم في المدرسة، خصوصاً مع اختلاف اللهجة أو اللغة أو اللون. وهذا ما يجعلهم عرضة للسخرية”.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، إذ تشير فياض إلى أن الكثيرين من اللاجئين جاؤوا من مجتمعات بدائية، “لذا فإن الأسرة والتقاليد تمثلان مسألتين مهمتين عندهم. وعندما يأتون إلى المهجر يشعرون كأنهم شجرة بلا جذور. وهذا ما يشكل عبئاً نفسياً رهيباً على هؤلاء البسطاء، الذين لا يمتلكون مقومات الانسان المعولم القادر على التأقلم مع أي مجتمع”.
البوح المكبوت
لكن إذا كان بعض اللاجئين يجد اليوم مقعداً وثيراً يستطيع ان ينام عليه ليروي معاناته، فإن عقبات عديدة تواجه العاملين في مجال الدعم النفسي. “اذ ان بعض اللاجئين متحفظ جداً في البوح، بسبب الخوف. كما ان البعض لا يتجاوب معنا بسبب الرعب من بطش أجهزة المخابرات السورية، التي قد تطاله حتى في بلاد اللجوء. وهم بسبب ذلك قد لا يستأنفون علاجهم”، على ما تقول الدكتورة وفاء حسني، مديرة عيادة الأطفال في مستشفى العباسية للصحة النفسية.
وتظل مشكلة “ضيق ذات اليد” من العوائق التي تعرقل مسيرة المساندة النفسية. فبالرغم من ان تلك الخدمات تقدم بالمجان، لكن البعض يجد صعوبة في تدبير تكاليف المواصلات. اذ هناك نسبة تصل إلى 20 في المئة من اللاجئين يعيشون على الكفاف، وفقاً لاحصائيات “المفوضية العليا لشؤون اللاجئين”.
المدن