لا بدّ من “ساحة الحريّة”..فنحن هناك ضربنا الموعد/ رزان زيتونة
قبل نحو شهرين فقط، كنت لا أزال على سفر. استهلكني الألم حتى فقدت القدرة على التعامل معه إلا في عالم آخر ألجأ إليه. لم يكن من الطرافة في شيء أن أغدو «أليس في بلاد العجائب» في مثل عمري، لكنه كان خيارا وحيدا للنجاة من انهيار محقق.
كثيرون من أصدقائي غادروا البلد فعليا، أو أصبحوا في المعتقل، الحراك العام اقترب من اللاحراك، السيد العميد ومحققوه الأشاوس كانوا يحرصون على أن تمضي أيامي على أكثر ما يكون سواداً.
البعض لم يملّ نصحي بأن أبقى على مسافة من «القضايا» التي أتعامل معها بشكل يومي، كي أحافظ على «صحتي النفسية»، وأتجنب السقوط في هاوية الكآبة والسوداوية، وهو ما لم أنجح يوما في القيام به. لم أستطع مثلا الوقوف على مسافة من «أم محمد»، وهي تجلس قبالتي تضرب على فخذها بعصبية وتنظر مباشرة في عيني، وتلح علي بالسؤال عما إذا كان ولدها حيا أو ميتا. ولم أستطع الوقوف على مسافة من عمي أبو باسل، وهو يتصل بي بشكل شبه يومي، يحكي حتى يتهدج صوته ويغيب، وهو يقول «يعني بنتي شو نعمل، الولد عايش او ميت؟».
لم أسمع من أم محمد أو أبو باسل منذ بدء الثورة. لكني أفكر فيهما يوميا.
صحيح، الآلاف اعتقلوا خلال الأسابيع القليلة الماضية، منهم أقرب الأصدقاء والأحبة، واستشهد المئات، كثيرون منهم أمام عدسات الكاميرا التي جعلتنا نشعر بالموت قريبا حتى نكاد نحس أنفاس الشهيد/ة على جلدنا. لكن ربما، رغم مرارة الألم، فإن المشاركة فيه على هذا الشكل، واعتراف الآخرين به، وتعبيرهم عنه علنا، فيها على الأقل ما يشبه رد الاعتبار للضحية ولمن يهمهم أمرها. ربما كان هذا أول ما فعلته الثورة: المشاركة بالألم والاعتراف به. لا أحد يعلم معنى ذلك إلا من اكتوى بالألم وحيدا لسنوات طويلة…
أنحني لآلامك خالتي أم محمد وعمي أبو باسل، الذي كان لا يكف عن سؤالي عما إذا كان من المجدي الخروج في مظاهرة للمطالبة بالمعتقلين، عبر الهاتف المراقب على الجهتين، وأنا أعده خيرا وأودّعه بتطمينات فارغة بينما أحدث نفسي: مظاهرة؟ أرجو أن يتجاوز المحقق هذا الاقتراح في التحقيق القادم!
***
عندما سقط النظام التونسي، كان يوم فرحة عظيمة. تبادلنا التهاني، أصدقاء ونشطاء، رقصنا واحتفلنا حتى الصباح. عندما سقط النظام المصري، أحسست بنفسي أسقط معه. انفجرت باكية ودخلت في حالة حداد، غضب أناني لا يمكن تبريره بشيء من المنطق. صفحات المواقع الاجتماعية تحولت إلى ثورات افتراضية، وحمّى الاجتماعات واللقاءات والترتيبات أصبحت تصيبني بالدوار، وفي الوقت نفسه كان خطاب السوريين تجاه بعضهم خلال تلك الفترة، وكثير من غير السوريين تجاهنا، مزيجا من اللوم واللؤم والتبخيس، ولم أكن بحاجة لمزيد من الإحساس بالقهر، وكأن لسان حال غضبي يقول: يُفترض أنه دورنا! أحس الآن بشيء من الخجل من تلك المشاعر تدفعني إلى الابتسام وخفض نظري.
لكن أيضا أبرر لنفسي قليلا، خاصة وأن وجه فارس في المشفى، وقد سلم الروح، وعلى وجهه طيف ابتسامة وعتب، طغت علي في تلك اللحظاتالمصيرية بامتياز.
في آذار 2009 توفي فارس مراد وحيدا في بيته البارد في أحد أرياف دمشق البعيدة. فارس كان يموت ببطء منذ خروجه من المعتقل بعد 29 عاما… وأنا أحببته جدا… وافترضت لعب دور الوسيط بين السماء والأرض على أن أمنحه، مع الأصدقاء الآخرين، أياما أفضل أو نبعد عنه شبح الموت لفترة أطول… وكان كله هباء… وللمرة الأولى أشعر بسطوة الظلم في قضية تخصني بشكل مباشر… وكيف أنني مجرد مخلوق تافه في بلد يتجرأ على قتل فارس كل يوم وبكثير من الصمت والتواطؤ.
هذا البلد أصبح يخنقني بشوارعه ومدنه وحاراته ومطاعمه وكل شيء فيه. كان «الهرب» خارج البلاد خيارا مرفوضا بشدة، لاعتبارات العناد والمكابرة أكثر منه الأمل… والاستمرار على هذا الشكل في الوقت نفسه لا يعني إلا التآكل قهرا. هكذا حزمت حقائبي وسافرت افتراضيا خارج أوقات عملي ونشاطي. ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أحط الرحال عائدة، وأين؟، في «دوما المحررة».
كيف كانت أولى الأحاسيس وأول الدمع، هذا ما لم أعد أتذكره الآن، وكأنني ولدت في قلب الاحتجاجات. وللمرة الأولى أحس حقيقة بما كان فارس يردده باستمرار، من أن الثلاثين سنة التي قضاها في السجن لا يحسبها من عمره، هناك حياة جديدة تبدأ في مراحل معينة، وإن كانت محملة بأثقال الحياة السابقة كلها…
لكنْ عجيبٌ فعلاً كيف تتغير تلك العلاقة الثقيلة على الروح مع المكان والانسان وتتخفف من ثقلها على النحو الذي لا زلت أحسه.
***
كنت قد سكنت في ريف دمشق، في حرستا ودوما، عدة سنوات قبل انتقالي مجددا إلى دمشق المدينة، وأنا لا أحمل شيئا من الود إلى تلك الأرياف.
السكن في الريف يعني ركوب المواصلات العامة، يعني مشكلة يومية مع السائق أو الركاب، ويعني المرور بأكثر مناطق التشوه البصري يوميا، لكنه قبل كل شيء يعني معاناة لا تنتهي لامرأة غير محجبة ولديها نمط حياة مختلف عن البيئة الشديدة المحافظة.
آلهة الثورة لم تنس لي موقفي المتعالي ذاك- وإن كان نابعا عن معاناة وليس عن أي شيء آخر، لتجعل محطتي الأولى بعد العودة من غربتي، في مدينة دوما، بعد وقت قصير على انطلاق الاحتجاجات.
لا أعرف، هل كانت تلك الجموع من الشبان والرجال التي تهتف للحرية بفرحة وحماسة هي نفسها التي اعتدت أن ألتقيها في جيئتي وذهابي إلى منزلي، وتُسبب لي شعورا مؤلما بالغربة، وتنتهك حرمة جسدي وخصوصيتي بالكلمات والنظرات، أم أن الناس الذين يتواجدون في ميادين الثورات لا نصادفهم قبل ذلك في حياتنا اليومية؟. هؤلاء المنتفضون لا غريب بينهم إلا الشيطان، وأنا لم أكن كذلك على الإطلاق حين اندسست بينهم أهتف بصوتي الذي تتقطعه ضحكات لم أستطع مغالبتها. لا أحد يمانع وجودي ها هنا، وكما أنا، والبعض يبدي حرصا ذكوريا لطيفا تتقبله أنوثتي المخففة جدا! جميل ذلك الإحساس الغامر بالأمان، ليس فقط من عنصر أمن يتربص في سماءٍ ما فوقي، لكن أيضا من غربة اعتدتها في ذات المكان طويلا… أود لو أستعيد تلك اللحظات ما استطعت، خاصة في لحظات وحدتي الآن، وكثيرون أصدقائي الذين أصبحوا في المعتقل.
***
تتكرر القصة بشكل يومي وأحيانا مرات عدة في اليوم الواحد. ونحن منهمكون في العمل، وبالكاد يسمع أحدنا الآخر أو يتمكن من التركيز على شيء بعينه، يأتي الخبر من غير مقدمات. اعتقل فلان أو اعتقلت فلانة. ترتفع الغصة بسرعة نحو الحلق ويضرب ما يشبه صعقة كهرباء خفيفة في ثنايا الدماغ… دقائق قليلة على هذه الحال، قبل أن نعود للانغماس في عملنا من جديد. نشرد كثيرا إثر ذلك وقد نكتب في نافذة الدردشة الخطأ أو نرسل بريدا الكترونيا للعنوان الخطأ… ففلان هذا كان قبل ساعات معنا، نخطط ليوم غد، ونلقي النكات حول «الاندساس»، ونتمعن في ملامح بعضنا بشدة قبل الوداع، ونعانق بعضنا بخجل، لأن معظمنا لم تتح له فرصة الاستحمام منذ عدة أيام! وفلانة كانت قد أخذت على عاتقها تزويد المتوارين منا بالمستلزمات «اللوجستية» للبقاء: الدخان والشيبس والقهوة. ولأننا نعرف أن هذا الوجه الجميل سينكمش بعد ساعات تحت وطأة الألم والتعذيب، وأن هذا الصوت الأليف والضحكات التي تعطينا القوة للاستمرار، ستتحول إلى صراخ في القبو المظلم بينما نحن منهمكون في تغطية عدد الدبابات التي تحاصر تلكلخ، أو عدد شهداء بانياس.
معظم هؤلاء الأصدقاء كانوا مجرد زملاء قبل الثورة، من معارف «الوسط» أو على هامشه. قد يستلطف بعضنا الآخر أو يستثقل دمه، لكن لا صلات مباشرة في أغلب الأحيان. هؤلاء الشبان والصبايا أصبحوا بمثابة شبكة واسعة وممتدة من الأحلام والعمل المتواصل، لكن أيضا من المحبة. لا يطاوعني قلبي في وصفهم بالثوار، فهم أرق وأجمل مما تحمله المفردة من غضب وقسوة، وليسوا أقل جرأة وشجاعة. القلب على القلب، والألم على الألم… هذا التواصل والتعاطف مع كل آخر، وليس مع «جموع الثورة» فقط، أعتقد أنه منحنا القوة في أكثر اللحظات قسوة وعتمة.
ليت الأمر يقتصر على من عرفناهم سابقا بالملامح والأسماء. لانتفاضة الحرية فعل كيوبيد.
لا أستطيع إحصاء الأصدقاء الذين تعرفت إليهم من أقصى البلاد إلى أقصاها. لا أعرف الاسم الحقيقي لمعظمهم، لا أعمارهم ولا خلفياتهم ولا انتماءاتهم. جلت معهم عبر العالم الافتراضي في مناطقهم التي لم أزرها يوما. أصبح لأسماء المدن والمناطق وقع مختلف، كلها جديدة ونعيد اكتشافها. كلها لنا، على امتداد الخريطة. صديقي البانياسي المتواري في قبو مع «الجرابيع»، وصديقي اللاذقاني الغاضب الطيب جدا، وصديقي الدرعاوي والسراقبي والحمصي… تواعدنا جميعا على اللقاء في ساحة الحرية. في الواقع أصبحت ساحة الحرية ضرورية ليس لاستكمال الثورة، بل لأننا حددنا عشرات المواعيد مع الأصدقاء هناك، والأصدقاء لا يخلفون الموعد…
بطبيعة الحال، ربما بعد أن يتحقق الهدف الذي اجتمع عليه هؤلاء الأصدقاء المختلفو الأعمار والبيئات والاتجاهات والخلفيات، لا يعود هناك الكثير مما يجمعهم إلا الذكرى الجميلة، ومعرفتنا ببعضنا الآخر.
لا أصدق إلى أي مدى كنا نجهل بعضنا ونحتفظ بتنميطات سخيفة للآخر. وكم من الحواجز أقامتها سنوات الخوف والانكفاء على النفس بيننا.
أجمل ما في أصدقائي، أنهم لا يكفّون عن الفرحة، قبل الاعتقال وبعده، قبل المظاهرة وبعدها، قبل الاقتحام وبعده. لا يكفّون عن التعبير عن دهشتهم، بأنفسهم والآخرين. وعن احتفائهم بالحرية التي لا تزال مشروعا حتى اللحظة. أجمل ما في أصدقائي أنهم هنا، يغمرون البلد وأهله بما افتقدناه طويلا جدا، كل هذا الإحساس بالمحبة وكل هذا الاحتفاء بالحرية.
(Kalamon: http://www.kalamon.org)