صفحات العالم

لا ثمن لتضحيات السوريين أقلّ من تغيير النظام


عبدالوهاب بدرخان *

أيام صعبة سيمضيها المدنيون السوريون المنتفضون، اذ لا يزال العالم يدعو ويطالب بـ «حمايتهم» لكنه يتلكأ في الإقدام على مبادرات. ستكون أيضاً أياماً صعبة للمراقبين العرب، وقد تنعكس سلباً على تعاملاتهم سواء مع المدنيين أو مع أجهزة النظام المولجة بتقنين تحركاتهم أو بتشتيت جهودهم. وفيما يسعى الجميع، القوى الدولية والنظام السوري، الى الاختباء وراء الدور العربي، فإن هذا الدور سيكون على المحك إذا ضَغط من أجل حوار بين القاتل والمقتول.

لم يكن متوقعاً أن تكون الجامعة العربية أكثر وضوحاً، حتى في ديبلوماسيتها، حين طالبت النظام السوري بـ «التنفيذ الفوري والكامل» لتعهداته، وحين قالت إن نجاح مهمة المراقبين رهن هذا الالتزام، وكذلك حين أصرّت على أن تلك التعهدات «تضمن توفير الحماية للمدنيين السوريين وعدم التعرض للتظاهرات السلمية». لكن هذا مجرد كلام يعرف السوريون أن «آلة القتل» ستترجمه بعد ساعات على صدور بيان الجامعة بمزيد من سفك الدماء، فالنظام غير معني إلا بما يعتقد أنه يضمن بقاءه، حتى وهو يغرق.

الواقع المرّ يفيد بأن المراقبين وصلوا متأخرين، فمنطق الأرض تغيّر، وحتى منطق العنف تغيّر. كان يمكن أن تكون مهمتهم مجدية قبل شهور عديدة، عندما كان لا يزال هناك من يطالب الرئيس السوري بـ «أن يطرح حلاًّ ويقوده»، أما الآن، فتجاوزت المواجهة إمكان الحل الإصلاحي التوافقي، لأن وطأة الدم ثقلت واشتدّت، ولأن ثمن التضحيات التي قدمها الشعب لا يمكن أن يقلّ عن تغيير النظام.

يتزايد الاقتناع بأنه سيسقط، سيتصدّع من داخله قبل أن يسقط، فالذين لم يتظاهروا ضدّه بعد، لأنهم خائفون أو محاصرون، أو لأن بيئتهم تتريث وتنتظر، لم يعودوا يجدون أيَّ معنى في التظاهر معه حتى لو أجبروا على ذلك، ولم يعودوا يعوّلون عليه في أي حال. وبمقدار ما يبدي هذا النظام قوةً وبطشاً بمقدار ما يبدي ضعفاً، إذ إن توسل ذريعة «القاعدة» لمخاطبة الخارج عبر التفجيرين «الإرهابيين» في دمشق، يشي بأنه اجتاز نقطة اللاعودة في عدوانيته تجاه شعبه. وإذا كانت الانتفاضة تناشد العالم التدخل لتخليصها منه، فإنه ينذر الخارج بأنه على وشك أن يفلت «القاعدة» على الشعب. لكن ماذا يستطيع الخارج لإنقاذه، بل لماذا ينقذه، طالما أنه اختار أن يغرق.

كان السقوط قد حدث يوم أدرك النظام أن بقاءه بات مرتبطاً فقط بالقتل العلني المدان يومياً في كل مكان حول العالم، وليس بالخطاب الخشبي الذي ردّده طوال عقود وضمّنه كل ما يصحّ أو لا يصحّ عن سورية، ليتبيّن أخيراً أن سورية ليست هذا النظام وإنما هي هذا الشعب الذي يريد استعادة حريته. لكن حتى القتل لم يعد يوفر له بوليصة تأمين للبقاء أو لإعادة فرض الخوف والصمت. قَتل أكثر مما يمكن تصوّره، وربما أكثر مما توقع هو نفسه، وقد يقتل أكثر، لكنه بات يعرف أنه لن يبقى، لا كما كان ولا كما يرغب في أن يكون، وفقاً لما يسمى «الحل السوري» الذي يحاول الترويج له كشكل من أشكال البقاء… مع شيء من التنازلات.

لم يتعامل النظام مع المبادرة العربية في الوقت المناسب، حين كان يمكنها أن تساعد على استدراج حل سياسي وتسهيله، بل أرادها -ولا يزال- شاهداً يشرّع ارتكاباته. وهكذا تعامل مع النصائح التركية وحطّم علاقته مع أنقرة التي كانت أهم ما أنجزه إقليمياً. ولم يبدُ أن «الصديق» الروسي أو «الحليف» الإيراني كانا معنيين بمثل هذا الحل، لأن تواصلهما مع المعارضة ظل سطحياً، وارتباطهما بالنظام عميقاً الى حد عدم الانحراف عن روايته للأحداث رغم إدراكهما ما يشوبها من أوهام. ولم يحسن تسويق قابليته لضمان الاستقرار وحماية الأقليات، رغم جهود أبواقه في لبنان ليكتسب قبولاً أو ليجدد القبول الذي تمتع به سابقاً بفضل هذه الادعاءات.

وإذ تحاول المبادرة العربية حمل النظام على ضبط «آلة القتل» وتدعوه الى التزام تعهداته التي لا تملّ تكرارها (إطلاق المعتقلين، إخلاء المدن والأحياء السكنية من المظاهر المسلحة، فتح المجال أمام منظمات جامعة الدول العربية ووسائل الإعلام العربية والدولية للاطلاع على الأوضاع)، فإنها لا تستبعد حلاًّ سياسياً من خلال «حوار وطني»، لذلك طالبت الجامعة أطراف المعارضة السورية بتقديم «مرئيات» موحدة للمرحلة المقبلة في سورية. لكن أحداً لا يعرف متى يتوقف القتل ومتى يُصرَّح عن العدد الحقيقي للمعتقلين ومتى يُفرج عنهم ومتى يتضح مصير المفقودين ومتى يُفتح البلد للإعلام… ليكون هناك مجال واقعي لـ «الحوار». لم يستطع المراقبون حتى الآن الاقتراب من أي تصور واقعي لأحوال المعتقلين ولم يتح لهم معرفة أماكن احتجازهم، إذ تكثر حالياً المعلومات عن استخدام بواخر راسية قريباً من الشاطئ لتكديس المواطنين الرهائن بعيداً من الأنظار. وخلال وجود المراقبين، تلقت عائلات كثيرة في حمص وسواها جثث أبنائهم الذين أُخضعوا للتعذيب، وليس معروفاً ما إذا سألوا عن ظروف اعتقال هؤلاء ووفاتهم، وإذا كانوا تلقوا أيَّ إجابة.

هناك الكثير مما ينبغي جلاؤه قبل أن تتمكن الجامعة من استكشاف إمكانات الحوار واحتمالاته، وحتى قبل أن تسعى أو تضغط لـ «توحيد» معارضة غير متجانسة موضوعياً في ارتباطها مع الانتفاضة أو في تصوراتها لـ «إسقاط النظام» وغير متساوية في التضحيات وفي «ضريبة الدم». ثم إن الحوار مع النظام، مع احتفاظه بأجهزته الإجرامية واستمراره في القتل، لن يؤدي الى أي حل حتى لو توصل الى «تشكيل حكومة وحدة وطنية لتسيير المرحلة الانتقالية». لكن الجامعة تبدو متفائلة بالنسبة الى حوار كهذا، فهي لا تزال بعيدة جداً من تأمين مقدماته ومتطلباته. وإذا كان «الوفاق الوطني» هو الهدف في نهاية المطاف، فإنه لن يتحقق في ظل ميزان القوى الحالي، وإلا لكان النظام تمكن من الشروع في الحوار الذي لا ينفك يتحدث عنه من دون انتظار مساعي الجامعة.

من الواضح أن هناك توافقاً عربياً-دولياً على أن تمضي لجنة المراقبين في مهمتها إلى نهاية هذا الشهر، إذ إنها الوحيدة التي استطاعت اختراق الستار الحديد الذي أقامه النظام لمنع أي تدخل خارجي، ليصار بعدئذ إلى البحث في الخطوة التالية. لكن أحداً لا يتوقع أن يستجيب النظام لما تطلبه الجامعة والمجتمع الدولي، وبالتالي فإن مسعى الجامعة العربية سيصطدم أولاً بحقيقة أن وجود المراقبين لن يوقف القتل، وثانياً بواقع أن السلطة السورية لن تتمكن من سحب الآليات العسكرية ولن تقبل بالتظاهر السلمي ولن تسمح للصحافة العالمية بالدخول الحرّ الى البلد (وهو ما لم يحصل أبداً منذ قام النظام قبل ما ينوف على أربعة عقود)، بل ستصطدم ثالثاً بالاستحالتين: وقف عنف النظام ووقف الانتفاضة، اللتين لا تشيان بأي قابلية لـ «الحوار». ولا شك في أن أي «نجاح» لمهمة المراقبين سيعني تظاهرات أكثر حشداً، وهو ما لا يحتمله نظام لا يزال يهدد بالإقدام على مجازر كبرى.

* كاتب ومعلّق لبناني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى