لا مؤامرة إلّا على مصر/ غازي دحمان
كانت مصر، في النصف الثاني من القرن الماضي، تكتشف أنثروبيولوجيتها بكثافة، فلم تعد مصر هي القاهرة، وإن كانت هذه مركزها الحيوي، بل انفتحت مصر على طيفٍ واسع من الثقافات والقيم، من النوبة جنوباً إلى أولاد علي في الواحات الكبرى غرباً، وما بينهم الصعيد والقبلي وسائر اللون المصري الساحر.
وكان العرب على وقع ذلك يكتشفون أنهم يستطيعون، فعندما تتضافر الأرياف وعشوائيات المدن والحارات العتيقة على إنتاج ما يبهر الملايين من ثقافة وأدب وفكر سياسي سيبعث ذلك الأمل في نفوس ملايين نظرائهم في العالم العربي من مراكش إلى البحرين بأن التطوّر ممكن، وأن البلاد ليست النخب الأرستقراطية في العواصم والقصور.
كانت مصر في ذلك الحين تنتج عن تراكم دام أكثر من مائة عام في الحداثة والمدنية، تطوّر تراكم وآن الأوان لكي ينطق بألسنة عديدة، وعلى شكل انفجاري، ومصر تلك التي ابتليت عبر تاريخها بالحاكم المستبد منذ ملوك الفراعنة كانت تنتظر بشوق العدالة والحرية لكي تطلق مكنوناتها. وعلى الرغم من أن حلم الحرية لم يتحقّق، واستعيض بدلاً منها بقليل من العدالة، إلا أن ذلك كان كافياً كي يرسم أفق ما يمكن أن يصل إليه إشعاع مصر وطبيعة المحفّزات التي يمكن أن تثيرها، وهو ما أوحى لجمال حمدان اكتشاف البعد التفاعلي لمصر في محيطها الإقليمي، نتيجة عبقرية جغرافيتها الواقعة على خطوط صدع الحضارات وتمازج ذلك بصفات المصري من الصبر والمرونة والحيوية والتطوّر.
كانت هذه المرحلة كافيةً لرصد جملة من المؤشرات لمن يعنيهم الأمر، منها أن مصر هي رأس العالمين العربي والأفريفي، كما أن إشعاعها يخترق أجزاء كبيرة من آسيا الإسلامية، وتلك
“عندما تتفكّك المؤامرة في مصر تنهزم المؤامرة في العالم العربي كله” الواقعة في مجال التأثير الهندي، بحكم التقاطعات الهائلة في التاريخ والثقافة، وذهابها بعيداً على سكة التطوّر والقوّة سيعني حكماً خلخلة موازين القوّة في جزء كبير من الجغرافية الاستعمارية التي كانت، ولا زالت، تشكل أحد روافد التطوّر الرأسمالي. كما تستطيع مصر إعادة تشكيل المعادلات على مستوى العالم العربي القابع على بحر من النفط يشكّل محرك الآلة الرأسمالية. وبدون مصر سيتم تحويل الصراع العربي – الإسرائيلي إلى متحف التراث، حيث سيفقد طاقته وأداته التشغيلية.
احتاج تغيير هذا الواقع، والهروب من كابوس محتمل، دمج خبرة المخابرات الأميركية “سي آي إيه” المتحصّلة من عمليات تغيير الأنظمة في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، مع الرؤى الاستراتيجية المزدهرة لدى وزير الخارجية اللامع، هنري كيسنجر، لتخلص إلى قاعدتي عمل ذهبتيين، لإخراج مصر عن سكّتها، الأولى إشغال مصر بسفاسف الأمور وإغراقها بتفاصيل يومياتٍ لا تنتهي، وتعزيز هذه القاعدة عبر تكريس نظام الحكم القائم على منطق العصابة الحاكمة، أو حسب وصف جمال حمدان “الحثالة الحاكمة” والتي يعرّفها بـ”العصبة المغتصبة التي تستمد شرعيتها من قوّة غير شرعية أو ممنوحة من الناس”، بل يذهب حمدان إلى أبعد من ذلك في دقة التوصيف، حين يقول “فلو كانت مصر كما قالوا عنها حديقةً لا غابة، فقد كانت دوماً على العكس بشريًا، غابةً بلا مرعى لا مزرعة.. وكثيرا ما كانت إلى حد بعيد حكومةً بلا شعب سياسيًا، وشعبًا بلا حكومة اقتصاديًا”.
وكأن جمال حمدان كان يقرأ في دفتر يوميات مصر اليوم، فما كاد المصريون يحصلون على حريتهم، حتى تكالبت قوى خفية على إعادة مصر إلى عجلة دورانها السابقة، تحت حكم العصبة. ولكن، هذه المرّة، ولأن قفزة المصريين كانت واسعة للأمام، جرى اختيار حثالة الحثالة للحكم، وكأن تلك القوى كانت تريد ضمان إغراق مصر حتى وقت طويل جداً.
لأن مصر هي قلب عالم واسع، فلا داعي لأن تستنزف قوى التآمر طاقتها في أطراف هذا
“المؤامرة على مصر تأتي بنتائج عشر مؤامرات خارجها” العالم، ما دام القلب جرى تعطيله، فالمؤامرة على مصر تأتي بنتائج عشر مؤامرات خارجها، وما حصل في بقية البلدان العربية هو نتاج للمؤامرة على مصر، مصر التي كانت في خمسينيات القرن الماضي وستينياته دولةً واعدةً، وتحصد ثمار أكثر من مئة سنة تطور، وقد تراكمت معطيات التطور، لتشكّل انطلاقةً مهمّة لها، كان لا بد من إحداث انعطافةٍ لتلك السياقات، وإخراجها عن سكّتها، وقد ظهرت المؤامرة بوضوح في عهد أنور السادات الذي شرّع مصر لكل أنواع التخريب، بذريعة الانفتاح على الرأسمالية.
ما حصل من خرابٍ في باقي العالم العربي من سورية إلى ليبيا والسودان والعراق ليس سوى صدىً ونتيجة طبيعية لما حصل في مصر، حيث توقّفت عجلة التطور السياسي في هذه البلدان، وتعفّنت أنظمتها السياسية، بفعل عدم وجود المحرّض والمحرّك للتطور السياسي في الإقليم. وبعد الفورة الفكرية والسياسية، انتكست تلك البلدان إلى دواخلها، وتراجع التفكير السياسي فيها، من الطموح القومي إلى صراعات قبلية بين مكوّناتها، كما نهضت الطموحات الإقليمية لدول الجوار في ظل غياب بديل عربي حقيقي، كان يمكن لمصر أن تشكله.
لا مؤامرة في العالم العربي إلا على مصر، وعندما تتفكّك المؤامرة هناك، والمتمثلة بحكم “الحثالة”، تنهزم المؤامرة في العالم العربي كله، لأن تكاليفها ستكون أقل من عوائدها، وستصبح استثماراً خاسراً.
العربي الجديد