لا مصالحة بين الإسلام والحداثة/ علي حرب
لا ينفكّ الإرهاب يضرب ويتمدّد لكي يفاجئ العالم بأساليبه الجهنمية وغزواته البربرية، من جزّ الرؤوس بالجملة إلى حرق الناس أحياء، ومن تفجير المدارس إلى الهجوم على مقارّ الصحف. هكذا هو يحشر الجميع، على الرغم من كل القوى التي تُحشد لمحاربته. وبما أن الإرهاب يعمل باسم الله وتحت راية الدين، من أجل إقامة دولة الخلافة وتطبيق الشريعة، فالإسلام هو اليوم موضوع على مشرحة النقد بقدر ما هو موضع التهمة والادانة بعقائده الإيمانية وفتاواه التكفيرية، وتدور المناقشات وتُكتَب المقالات حول هويّته: علاقته بالارهاب، قدرته على التجدد، قابليته للإصلاح، وتأقلمه مع الحياة المعاصرة. وإذا كنت قد تناولت هذه القضايا على صفحات هذا “الملحق”، وقبل ذلك في كتبي ودراساتي، ثم في محاضرتي بالقاهرة مشاركاً في اللقاءات الفكرية التي عُقدت، أخيراً، تحت عنوان تجديد الفكر الديني، فإني في هذه المقالة أتناول علاقة الإسلام بالحداثة والغرب، وما يتفرع عنها من قضايا، من بينها وضعية المسلمين في أوروبا، وفي فرنسا بشكل خاص.
هل المصالحة بين الإسلام والغرب ممكنة؟ هذه مسألة قديمة هي مدار الجدل، منذ اتصال المسلمين بالغرب الحديث الذي فاجأهم بتفوّقه وغزوه لبلدانهم، بقدر ما أيقظهم من سباتهم الحضاري. وهي تتجدّد عند كل إشكال أو صدام يقع بين الطرفين. وقد باتت اليوم قضية الساعة، ولا سيما بعد الهجمات الإرهابية على باريس، على يد التنظيمات الجهادية الاسلامية.
خرافة المصالحة
من يستقرئ سجل العلاقة بين الغرب والاسلام، يجد أنها علاقة صراع بين نقيضين، تخللتها تحالفات موقتة أملتها مواقف تكتيكية، لا اتفاقات جوهرية، كاجتماع أميركا من جهة والدول أو المنظمات الإسلامية من جهة أخرى، لمحاربة المعسكر الاشتراكي إبان العهد السوفياتي، أو لمواجهة التيار القومي العربي إبان العهد الناصري. لا أنسى أيضاً اللقاء بين الطرفين حول الجانب الاقتصادي. فالاسلاميون ميّالون إلى المعسكر الرأسمالي والليبيرالي، بقدر ما هم معادون، أصلاً للفكر الماركسي والمعسكر الاشتراكي.
لكن لا لقاء بين المعسكرين، الإسلامي والغربي، على المستوى الثقافي والايديولوجي، إذ الأول يتمسّك بعبادة النصوص المقدسة والأصول الثابتة، وإن كان لا يحسن إلا انتهاكها، في معترك الحياة وتقلّباتها، في حين أن الثاني يفكر ويعمل على أساس النظريات الفلسفية وما يتفرع عنها من المذاهب والنظم السياسية، القابلة للتعديل والتغيير أو للتحسين والتطوير.
الاسلام هو في ذلك، شأنه شأن أي دين توحيدي أو معتقد أحادي، إنما يشتغل بعقلية التهمة والتكفير واقصاء الآخر، غير المسلم، أو المسلم المختلف في المذهب والرأي، كما تشهد اليوم الصراعات الدموية بين الشيعة والسنّة حول الرموز والنصوص. وإذا كان المسلمون لا يقبلون بعضهم بعضاً، فكيف يقبلون الآخر المتمثل في الغرب بدوله وثقافاته!
المؤمن والمواطن
إذا كانت المجتمعات العربية شرعت، منذ عصر النهضة بأبعاده التنويرية والليبيرالية، في إعادة بناء نفسها وصنع مستقبلها على النمط الغربي الحديث، فقد حصل تراجع بعد ازدهار الإيديولوجيات القومية واليسارية وفشل المشاريع الحداثية، وخصوصاً بعد صعود الحركات الإسلامية. تمثل هذا التراجع في النكوص من نموذج “المسلم” الذي يتعامل مع هويته الدينية كشأن شخصي، ويتصرّف لا كمؤمن بل كمواطن يعيش في دولة لا في قوقعة طائفية، إلى نموذج “الإسلامي” الذي هو صاحب مشروع شمولي لتسلم السلطة وتطبيق الشريعة. والاسلاميون صنفان: داعية يكفّر ويهدّد، وجهادي يحاكم ويقتل تطبيقاً لفتوى الداعية. وقد يجمع الإسلامي بين الأمرين.
لا فرق هنا بين مذهب ومذهب، أو بين منظمة وأخرى. فالإسلام الأصولي لا يمكن تطبيقه إلا على نحوٍ ما يفعل تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) وأخواته، أو أضداده. وتلك هي حصيلة أسلمة الحياة والدولة والمجتمع في هذا العصر: استئصال الآخر، دمار الذات، تشويه سمعة العرب والمسلمين، بتقديم أنفسهم إلى العالم بوصفهم اختصاصيين في صناعة الموت وإنتاج الكوارث وتخريب معالم العمران والحضارة. هذا ما كتبه أحدنا قبل حوادث كانون الثاني الفرنسي (2015)، بل قبل حوادث أيلول الأميركي (2001)، ومن غير انتظار الأعمال البربرية لتنظيم “القاعدة” أو “داعش”، التي أيقظت البعض من سباتهم وكشفت عن الجهل الفاضح للبعض الآخر، بما يكتب في نقد الأصولية الإسلامية منذ ربع قرن.
الإسلام والحداثة
من هنا الوجه الآخر للخداع، كما يتمثل ذلك في الفصل بين الإسلام والأصولية الإسلامية (Islamisme)، كما يفعل الذين يدافعون عن إسلام معتدل، وسطي، سلمي، ديموقراطي، تنويري. هذا مطبّ يقع فيه الكثيرون من العرب والغربيين، ساسةً ومثقفين. فليستيقظ هؤلاء من سباتهم. فلا وجود لمسلم ملتزم أصول دينه، هو شخص معتدل في مفهومه للحقيقة أو في رؤيته للعالم أو في تعامله مع الآخر. فذلك يتعارض مع عقيدته المقدسة ببنودها الأربعة:
الأول إيمان المسلم بأن عقيدته نطقت بالحقيقة المطلقة الأولى والأخيرة. الثاني اعتقاده بأن شريعته تقدم الاجوبة والحلول لكل الأسئلة الشائكة والمشكلات المعاصرة. الثالث تصوّره بأن كتابه ينطوي على العلم بكل شيء، بحيث لا يَبقى للخلف شيء يقوله أو يفعله سوى السطو على المعارف المنتجة في الجامعات الغربية ونسبتها زوراً إلى القرآن. فيا لفضيحة العلم الكلي التي تشهد على جهل أصحابها المركب بالنص والعلم. ولا أنسى البند الرابع: اعتقاد المسلم بأن أمّته خير أمة أخرجت للناس، والباقون هم أهل كفر وبدعة أو زندقة وهرطقة، ولذا فهم محل اقصاء رمزي أو جسدي.
هنا أصل العلّة، كما تتجسّم في الشيفرة الثقافية التي تصنع عقليات مفخخة تنفجر اًلغاماً مجتمعية، طائفية أو قبلية أو سياسية، لكي تؤول بالمشروع الديني على اختلاف نسخه الى نهاياته الكارثية، على ما نشهد ونعاني. لذلك لا ننتظرن تغييراً على يد المؤسسات الدينية، ما دامت تشتغل بثنائية الكفر والإيمان أو الرجس والطهر.
هذا ما تشهد به المثالات عند مَن يُحسن قراءة الحوادث والأقوال:
الفتوى ضد الديموقراطية
المثل الأول يتعلق بالديموقراطية. فالاسلاميون، مذ بدأوا العمل والنشاط في الحقل العام (تحت شعارهم: الإسلام هو الحل)، لا يتوقفون عن التأكيد، وأحياناً التهديد، أنهم مع الحكومة الإسلامية أو الحاكمية الالهية، وأنهم ضد المنظومة الفكرية الحداثية بمختلف أركانها: العلمانية، الفلسفة، المجتمع المدني، فضلاً عن الديموقراطية. فالفتوى هي هنا نقيض الديموقراطية بوصفها حكم الاكثرية.
من الطبيعي أن يكون الأمر كذلك. فالحاكم المسلم يأخذ باجتهاده ورأيه، لا بإجماع الجمهور الذي كان دوماً موضع احتقار من جانب أهل الحل والربط من العلماء والساسة، ممن يسمّون الخاصة والصفوة؛ كما هو اليوم موضع احتقار من جانب النخب الثقافية التي تدّعي تنويره والدفاع عن مصالحه. الثمرة السيئة لذلك هو صنع قطعان بشرية لا تحسن سوى أن تذعن وتصدق وتهلل وتصفق للزعيم الأوحد أو للقائد المرشد.
بالطبع يتراجع الإسلاميون، على سبيل الالتفاف والمناورة، لأسباب دعائية أو تكتيكية. وهذا ما فعلته الاحزاب الإسلامية، بعد اندلاع الثورات العربية، تحت شعار الحرية والديموقراطية. لقد تراجعت، على مستوى الخطاب، وقبلت بصندوقة الاقتراع أملاً بالوصول إلى السلطة والقبض عليها. ولما تمكنت تراجعت عن وعودها ومارست استبداداً مضاعفاً يتغذّى من الارث الديني والارث السياسي. المثال يقدمه النظام القابض على الأمر في ايران، حيث ابتلعت ولاية الفقيه النظام الجمهوري، وحولت الديموقراطية الى مجرد ديكور أو واجهة.
ما يفضحه الحجاب
المثل الثاني يتعلق بوضعية المرأة التي هي نصف المجتمع وعقدة الرجل في آن واحد. فالحقوق والحريات، من هذا الجانب، قد تراجعت على نحو قياسي، عما كانت عليه في النصف الأول من القرن الفائت، حيث كان من النادر أن تشاهد طالبة أو سيدة محجبة في الجامعة أو في الأماكن العامة. أما اليوم فالحجاب يكتسح الفضاء العمومي بأشكاله المختلفة من الفولار الى البرقع، مروراً بالنقاب، بعدما ارتدّت البنت على أمّها السافرة لتعود الى جدتها المحجبة أو المبرقعة.
هكذا عدنا مع عودة الدين الى الحجاب بعد مئة عام من السفور، ولذا من الخداع أن نتحدث عن مصالحة بين الإسلام والحداثة. ما حصل هو العكس بالتمام. فبعد صعود حرّاس العقيدة، حصل ارتداد عن مكتسبات الحداثة، على سبيل الثأر والإنتقام.
والحجاب لا يجلب لأهله سوى المشاكل، وخصوصاً اذا كانوا يعيشون في البلدان الاوروبية، كما هي الحال في فرنسا. صحيح أن الاسلاميين هناك، ومعهم كثر من العلمانيين، يحتجّون دوماً بحرّية التعبير والاعتقاد المكفولة في الدستور وفي شرعة حقوق الإنسان. لذا يتهمون من يعارض ارتداء المسلمة الحجاب، إما بالعنصرية، وإما بكونه يخالف مبادئ الحرية التي قام عليها النظام الفرنسي بطابعه العلماني والمدني.
لكن الحجاب بوصفه علامة من علامات الهوية، إنما يعني تغليب الانتماء الديني على الانتماء الوطني، بقدر ما يستخدم كشكل من اشكال المقاومة للمجتمع الحديث. فالتي ترتدي الحجاب، في الفضاء العام، كأنها تقول أنا مسلمة أكثر مما أنا فرنسية، أو أنا لا اقدر على الاندماج في المجتمع الفرنسي ولا أريده. هذا ما أكّدته تلك الفتاة المحجبة بقولها: أنا لا أتلقى الأوامر لا من والدي ولا من مدير المدرسة، بل من الله مباشرة. وبما أن الله هو الغائب الدائم عن المسرح، يحلّ محلّه في اصدار الاوامر من ينوب عنه وينطق باسمه، من المتألهين من علماء ومرشدين أو دعاة ومشعوذين.
إن قضية الحجاب، وسواه من العادات والطقوس والفرائض، تقدم شاهداً على أن المسلمين الفرنسيين يطلبون ممارسة حرياتهم الدينية، بصورة تتعارض مع الأسس التي قامت عليها الدولة الفرنسية، التي لم تعد دولة دينية، منذ الثورة الفرنسية عام 1789. فهل تتخلّى فرنسا عن المكاسب التي تحققت، منذ عصر الأنوار، في ما يخصّ الحقوق والحريات، لكي يمارس المسلم، الذي هرب من جور حكومته وفقر بلده، حريته على نحوٍ عنصري أو استبدادي؟! فمَن العنصري: الذي يدافع عن قيم مجتمعه الحديثة، المدنية والليبيرالية، أم الذي يريد فرض نمط حياته البائد على المجتمع الفرنسي للعودة به الى عصور العبودية! وإذا كان المسلمون الأصوليون يدمّرون مجتمعاتهم ويخربون عمران بلدانهم، فهذا أقلّ ما يمكن أن يفعلوه في فرنسا، فيما لو سيطروا أو هيمنوا: استغلال الحريات والعمل على تقويضها.
الهوية الأثرية
بهذا أصل إلى المثل الثالث، المتعلّق بالرسوم الكاريكاتورية التي شهدنا أحد فصولها الدامية في المجزرة التي أودت بحياة فريق العمل في أسرة تحرير مجلة “شارلي إيبدو”! هنا أيضاً يتمترس المسلم الفرنسي وراء هويته الاركيولوجية وطوطمه النبوي. إذ هو يطالب بمنع وسائل الإعلام من التعرّض بالنقد لرموزه ومقدساته. ولكن لماذا تعطيه الدولة الفرنسية امتيازاً خسرته الطائفة الكاثوليكية، إذ في فرنسا من الجائز التعرّض للمسيح ولآباء الكنيسة بالنقد السافر، الساخر أو الفاجر.
السؤال الذي يثور في الذهن: من الذي يسيء إلى الإسلام؟ الرسوم الكاريكاتورية أم أهله الذين يصرّون على ممارسة هويتهم الدينية، في هذا العصر، بصورة هزلية كاريكاتورية أو عدوانية وارهابية؟ من يسيء إلى القيم الدينية: رسم امرأة مبرقعة بصورة ساخرة أم الفتاوى المضحكة والبربرية حول رضاعة الكبير أو حول مفاخذة الأنثى بقصد الاستمتاع ولو رضيعة، كما يفتي المفتون لدى السنّة والشيعة على السواء؟
ومع أن المرء لا يسعه إلا أن يستنكر تلك المذبحة التي تعرّضت لها الصحيفة الفرنسية، فقد كان لها فوائدها، للفرنسيين والاوروبيين عموماً، لأنها أيقظتهم من سباتهم، لمواجهة محاولات أسلمة مجتمعاتهم، تحت ستار الدفاع عن حرية الاعتقاد والتعبير.
لكن ما جرى في فرنسا كان له مفاعيله السلبية في البلدان العربية، لأنه عزز النرجسية الدينية، وأطلق موجات جديدة من التعصب الاعمى، بقدر ما شكل ملهاة تصرفنا عن النظر في مشكلاتنا المتراكمة وأزماتنا المستعصية. إن من يتأمل ما آل إليه واقع المجتمعات العربية الغارقة في الفوضى والعجز، يجد أن أحوج ما تحتاج إليه هو النقد الساخر الذي يفضح، عبر الرسوم الناطقة والكلمات الخارقة، ما جرى تمويهه أو تغليفه وحجبه، تحت الرموز والعناوين المقدسة، من الأكاذيب أو الخرافات والشعوذات، التي حفل بها جزء كبير من التراث الديني.
وإذا كان بعض الغربيين لا يقفون مع مسّ المقدّسات، من جانب وسائل الإعلام، كما عبّر الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، فإن الوضع مختلف بيننا وبينهم، ولا سيما أن الممارسات التقديسية تراجعت في الغرب بعد هزيمة الكنيسة وانحسار دورها في حياة الناس. ما يحصل عندنا هو العكس، إذ لا يزال سيف التكفير مسلّطاً على الرؤوس، لمنع التعرّض للمقدسات التي هي مصدر أزماتنا ومصنع عجزنا وتخلّفنا وفقرنا. ولست أدري ما الذي يفكر فيه الآن ريجيس دوبريه بعد مجزرة باريس؟ هل يتراجع عن مقولته بأن المجتمعات تحتاج إلى رابط قدسي لكي تلتئم وتتوحد؟ هل يتشبّث بمقولته الأخرى بأن الدين هو فيتامين الضعفاء؟
إن الدين الإسلامي كما يمارس اليوم، من جانب جهادييه، سواء في فرنسا أو على أرضه، لم يعد أفيوناً كما وصفه ماركس. لكنه أبعد ما يكون عن وصفة دوبريه، إذ هو تحول إلى جرثومة فتّاكة وفيروس قاتل.
حرّاس العقيدة
المثل الرابع يقدمه العلماء الذين عقدوا مؤتمراً في “الازهر”، المؤسسة الدينية الابرز في العالم الإسلامي، من أجل محاربة التطرّف والعنف والإرهاب، وللتأكيد أن الإسلام دين الاعتدال والوسط والتسامح. لكن ما فعلوه هو العكس بالتمام. لقد اثبتوا أنهم الوجه الآخر للتنظيمات الإرهابية، بل مصدرها الفكري. لأنهم تعاملوا معها بالعدة العقائدية البربرية كما تتمثل في ثنائية الإيمان والكفر، وما يترتب عليها من أحكام وفتاوى تدعو إلى القتل بقطع الرؤوس أو الايدي والأرجل. هكذا سقطوا في امتحان الاعتدال على نحوٍ مدوٍّ، وتواطأوا مع مَن يدّعون محاربتهم، بقدر ما تصرفوا كشرطة للعقيدة المقدسة أو كحرّاس للحقيقة المطلقة.
لنقارن بين علماء الدين المسلمين، وبين البابا فرنسوا رأس الكنيسة الغربية. فهو لا يتصرف كحارس للعقيدة، بل كمواطن عالمي يهتم بالقضايا التي تستأثر باهتمام كل الناس. من هنا كان اهتمامه بالمسلمين الليبيين الذين تهجرهم من ديارهم التنظيمات التكفيرية التي تخرجت في مدارس حراس العقيدة وشرطة الإيمان، هذا فيما علماء الاسلام لاهون في نقاشاتهم البيزبطية حول ما اذا كان الداعشي الارهابي مؤمناً أم غير مؤمن. فيا لها من فضيحة.
لا رهان اذاً على الدين بمؤسساته وسلطاته. لذا من العبث مطالبة رجال الدين بإحداث تغييرات حقيقية أو بنيوية تطال أسس عقائدهم. فلا ننتظر منهم إصلاحاً أو تجديداً، ومن باب أولى ان لا يقوموا بثورة. من يأمل منهم ذلك، حاله كحال من كان ينتظر إصلاح الكنيسة في عصر محاكم التفتيش، أو إصلاح نظام فرنكو أو هتلر، أو إصلاح الأنظمة الشمولية في العالم العربي.
وحدها هزيمة المشروع الديني تفتح الإمكان للإصلاح والتجديد. وهذا ما يستفاد من الدرس التونسي. لم يكن هاجس أهل تونس تجديد الخطاب الديني، بل هزيمة المشروع الديني، وهذا ما تحقق بتراجع القوى الإسلامية، وصوغ دستور لتونس مدني يحترم حرية الضمير والاعتقاد. عندها تصبح مهمة تجديد الفكر الديني هي مهمّة أهله. بالطبع بإمكانهم، إذا شاؤوا إصلاح أمور دينهم، الإفادة من القراءات النقدية للنصوص والخطابات، أكانت دينية أم غير دينية، إذ هي تفتح إمكانات خصبة للتفكير، فهماً وتشخيصاً، مقاربة ومعالجة، بقدر ما تكشف عما تنطوي عليه المشاريع والدعوات من آليات الحجب والخداع أو اشكال الاحتكار والمصادرة.
عقدة الاسم
ليستيقظ من غفلتهم أولئك المثقفون والإعلاميون الفرنسيون، الذين يروّجون للفكرة الخادعة والساذجة القائلة بوجود “إسلام بدون خضوع”، كما عنون كتابه ودعوته عبد النور بيدار، الفيلسوف الفرنسي من أصل مغربي. فما يدعو اليه هو من المحالات لغةً ومنطقاً ومسلكاً:
لغةً، لأن لفظة الإسلام تعني الخضوع والاذعان والانقياد؛ منطقاً، لأن الدين عموماً يعني الصدوع بأمر الله. من هنا يُتَّهم بالزندقة كل من يشغّل عقله في مواجهة النصّ؛ مسلكاً، لأن علاقة المسلم بكتابه ونبيه واسلافه تقوم على السمع والطاعة بقدر ما هي علاقة عبادة وتقديس، وكل ذلك يتم بتعطيل العقل وقمع حرية التكفير والنقد والتعبير.
لا ننخدعنّ بما يقوله الخطاب، فمنطوقه يحض الناس على التعقل، لكن منطقه هو تغليب النص على العقل. هكذا فالمسلم مطالب بالتعقل، السلبي، وعلى النحو الذي يعطل العقل، تماماً كما أن المسلم الفرنسي إنما يطالب بحريته ولكن لكي يلغيها.
السؤال هنا: ما الحاجة الى الاسلام اذا كنا ضد منطق الخضوع؟ فبداية التحرر وعدم الخضوع تعني، اقله، الخروج من حظيرة الإسلام اللاهوتي والعقائدي، بحيث لا يستعبدنا إسم أو أصل أو مذهب. لكن البعض حتى ولو لم تعد لهم صلة بالإسلام، يصرون على التعلق بالإسم. فيا لزيف الهوية وهشاشة الفكرة.
الطوطم والبعبع
في ضوء هذا التشخيص، لا نأملنّ بمصالحة بين الإسلام والغرب، أو باندراج المسلم في المجتمعات الأوروبية التي هاجر إليها وارتضى أن يعيش فيها ويحمل جنسيتها، إذ هو يشكل بذلك الوجه الآخر للداعية الإسلامية الذي يريد أسلمة الحياة في البلدان العربية. وكما أن الدعاة الاسلاميين هم المصدر الفكري للجهاديين الارهابيين في البلدان الإسلامية، فإن المسلم الفرنسي، وإن لم يكن جهادياً إرهابياً، هو الوجه الآخر للجهادي الإرهابي، إذ يشكل البيئة الحاضنة التي يتحرّك داخلها، بقدر ما يصرّ على فرض نمطه الإسلامي بقيمه وعاداته وطقوسه، على المجتمع الفرنسي، ذي التقاليد المدنية العريقة. الأمر الذي يحول المسلمين إلى طائفة تستعصي على التواصل مع مجتمعها. من العجب أن ينفي بعض المختصين بالشأن الاسلامي، كون المسلمين الفرنسيين يشكلون “طائفة”، كما يفعل أوليفييه روا، لأنهم لو لم يكونوا طائفة لما كان ثمة مشكلة أصلا هي مدار الجدل الدائم في فرنسا.
ان استحالة المصالحة بين الاسلام والحدث، لا تعني أننا ننخرط في صراع الحضارات كما يحاول البعض إحياء مقولة هنتنغتون بعد الغزوة البربرية على الصحيفة الفرنسية. فسواء تعلق الأمر بقضية صراع الحضارات أو بثنائيات الشرق والغرب أو الإسلام والغرب، نحن إزاء مقولات ومتعارضات فقدت صدقيتها. فالحضارة الإسلامية ولّى زمنها، كغيرها من الحضارات القديمة كالفارسية واليونانية أو الهندية والصينية…
لذا بات من الخداع أن يصنّف الإسلام بوصفه حضارة توضع في مواجهة الحضارة الغربية الحديثة. فالأحرى أن يصنّف مع المسيحية واليهودية والبوذية، وسواها من العقائد القديمة. إن الإسلام الذي كان، في الماضي، عنواناً لحضارة مزدهرة، يتحول الآن، كما يُمارسه حرّاسه، إلى طوطم سلفي أو الى ديناصور ثقافي، إلى بعبع خرافي أو الى تنين ارهابي، وكلها صور ونماذج تستخدم في مواجهة موجات الحداثة المتلاحقة التي أفاد منها المسلمون وتأثّروا بها، وإن أنكروا ذلك وجهلوه.
كفى زيفاً وتلفيقاً. كما يمارس ذلك من جانب المثقفين الذين يحدثوننا عن الغزو الثقافي أو عن الامبريالية والاسلام، فيما هم حصيلة الثقافة الغربية في وعيهم ومفاهيمهم، في معارفهم ومناهجهم، في شهاداتهم وألقابهم. فهؤلاء ساهموا بأطروحاتهم، عن جهل أو عن وعي، في تغذية الحركات الأصولية والتنظيمات الجهادية. فيا للجهل المركب، بالذات وبالآخر.
التسميات العنصرية
إن معالجة الإرهاب الذي ضرب باريس في عقر دارها وأثار الرعب لدى الفرنسيين والأوروبيين، لا تتم فقط على المستوى الامني، حتى لا تتحول فرنسا والدول الأوروبية إلى معسكرات على غرار مدننا وعواصمنا العربية. بذلك يكون الارهابيون حققوا غرضاً من أغراضهم: زرع الرعب في النفوس وجرّ الحكومات والسلطات إلى التطرف في اتخاذ الإجراءات الأمنية، وعلى نحوٍ يتم على حساب الحريات الشخصية والعامة على السواء. فالهجمات على باريس، وعلى كوبنهاغن، تفتح الباب لتغيير اللغة والخطاب أو النظرة والعقلية، في ما يخصّ طرق التعامل مع الهويات في البلدان الأوروبية، وذلك من غير وجه:
استبعاد الصفة الدينية من التعريف بالهوية، في ما يخصّ من يعتبرون أقليات أو جاليات أو طوائف مميزة، أو وافدة، كاليهود والمسلمين والارمن والسود…، الأحرى أن يُعامَلوا ويعامِلوا أنفسهم كما يعامل الفرنسي نفسه أو كما يُعامل على يد نظرائه، من دون ذكر الأصل الديني الكاثوليكي أو البروتستانتي، بحيث يُكتفى بما يدل على المهنة والعمل والاختصاص. فالتسميات التي تتعلق بالمسلم أو اليهودي أو الأرمني أو الافريقي أو بغيرهم، تشي بعنصرية دفينة، ولو تمّ استخدامها، في حالة اليهود، على سبيل التضامن والتعاطف، نظراً لما تعرضوا له في العهد النازي من الاضطهاد والابادة.
الشاهد على ذلك ان الروائي الأميركي الكبير، فيليب روث، عندما عرّف به محاوره الفرنسي، وكما هي عادة الفرنسيين، وكان في زيارة لباريس، بقوله له: بصفتك كاتباً أميركياً “يهودياً”، قاطعه فوراً بقوله: لا معنى لكلامك. فأنا كاتب أميركي أصلاً وفصلاً، لأن الكاتب إنما هويته اللغة.
أعتقد أن روث اعترض على التسمية اليهودية، لأنه استشمّ من ورائها رائحة عنصرية، ولو استُخدِمت بصورة إيجابية أو ودّية. فلا ينخدعن اليهود بهذا الدلال الذي ينعمون به في فرنسا. اذ لا يمكن الواحد أن يحب غيره أكثر منه، إلا على سبيل الخضوع والرهبة أو الغباء والنفاق.
تحقيقاً لذلك، الأجدى لهم أن يتوقفوا عن استذكار المحرقة التي يحاولون استحضارها في كل مناسبة، بحيث يوافقون على إلغائها من البرامج المدرسية، لكي تندرج في التعليم الجامعي، وفي سياق الكلام على أعمال الإبادة، بحق الإنسانية، أياً كان فاعلوها أو ضحاياها. إن هذا الإستنفار الدائم للذاكرة، بإدانة الآخر أو تخويفه أو الضغط عليه، سيرتد في النهاية على أصحابه، لأن مآله شحن النفوس لصنع ذاكرة مضادة وعلى النحو الأسوأ والأرهب.
إشهار الهويات
ما يسري على اليهود، يسري بشكل خاص على المسلمين الفرنسيين الذين يهاجمون العنصرية فيما هم يقعون في فخاخها. فالأجدى لهم أن يعيدوا النظر في ممارستهم لثقافتهم الأصلية من غير وجه:
التوقف عن التعريف بأنفسهم من خلال الصفة الدينية، باستبعاد عبارات الجالية أو الطائفة. فلا معنى ولا جدوى من استخدام العنوان الديني في دولة غير دينية، سوى العودة إلى الوراء لإحداث التوتر والاضطراب بين عناصر المجتمع وفئاته.
الامتناع عن استخدام العلامات الدالة على الهوية في الفضاء العمومي وفي المؤسسات العامة، كبناء المآذن والذبح الحلال وأداء الصلاة خارج المسجد، فضلاً عن الحجاب نفسه. لقد اتخمنا إشهاراً وتسجيلاً للهويات في الساحات وعبر الشاشات، لكي نحصد كل هذه المساوئ والمفاسد أو المآسي والكوارث، حروباً أهلية في البلاد العربية، أو تخريباً للعلاقة بين المسلمين وبين مجتمعاتهم الأوروبية.
إن الإشهار للهوية، خصوصاً في المجتمعات الأوروبية ينمّ عن جهل وعنصرية، تماماً كما ينمّ في المجتمعات العربية عن ادعاء أو تعصّب أو نفاق. وإلا كيف نفسر كل هذه الانهيارات والتراجعات بعد صعود رجال الدين على المسرح؟ فالأحرى والأوْلى أن يتصرّف المسلم كمواطن فرنسي، على قِدم المساواة مع سواه من المواطنين، أياً كانت أصولهم أو مذاهبهم.
العقدة واللعنة
هل أنا أغالي وأتطرف في هذا النقد القاسي الجارح والصادم، للدين الإسلامي؟!
أنا لا أنتقد المسلمين الذين ينتمون إلى العالم الحديث، وهؤلاء أكثرية صامتة لا يستهان بها، وإن كانوا قليلي الفاعلية والأثر، قياساً على أصحاب الدعوات والمشاريع. لذا ينصبّ هذا النقد على المؤسسة الدينية التي تصرّ على التعاطي مع الإسلام، كطور ماضٍ، لم يبقَ منه إلا جوانبه السلبية التي لا تصلح لبناء مجتمعات متطورة أو لصناعة حياة حديثة، وهي ثلاثة:
الاسم والحرف والطقس على ما يمارس اسلامهم الذين خُتِم على عقولهم وأبدانهم. العقدة والذاكرة الموتورة، كما يتصرف الذين يمارسون هويتهم على سبيل العداء للآخر والثأر من العالم الحديث، دفاعاً عن ماضٍ فردوسي لن يعود ولم يكن فردوسياً. اللعنة أو الإستراتيجيا القاتلة والمدمرة، كما يمارس الإسلام أصحاب النماذج التكفيرية والمنظمات الإرهابية. لا أنسى الجانب الرابع، ولكن الايجابي: النصوص والكتب التي هي كنوز معرفية عند من يحسن قراءتها والعمل عليها، بالتحويل الخلاق والتركيب البنّاء والتجاوز الفعال. وإذا كان مشروع الاسلاميين قد فشل كنموذج حضاري أو برنامج سياسي أو نظام حقوقي، فالممكن والمشروع والنافع هو تشغيل العقول واستثمار الموارد أو خلقها، على النحو الذي يتيح للواحد أن يبني نفسه ويشارك في صناعة الحضارة القائمة.
أيا يكن، لا يمكن المسلم أو سواه أن ينتقل للعيش في مجتمع جديد، من غير أن يطرأ تغير ما على هويته يحمله على إعادة إنتاجها وتكييفها مع الوضعية الجديدة، بحيث تغتني بوجه أو جانب أو رافد، بقدر ما تساهم في إغناء الآخر على سبيل التبادل. هذا ما يفعله صاحب الهوية المفتوحة والمركبة، الغنية والقوية، بأبعادها المتعددة. من غير ذلك تستعاد الهوية وتمارس بصورة سلبية وعلى نحو مفخخ، بحيث تصبح مشكلة دائمة لصاحبها.
يمكن الواحد ان يكون ذا هوية مزدوجة على الصعيد اللغوي، فيكون مثلا فرنسيا جزائريا أو فرنسيا لبنانيا، فذلك هو غنى وثراء. على العكس من الازدواجية على المستوى الطائفي، اذ هي تولد داخل المجتمع النزاع والشروخ والانشقاق.
الأخطبوط والتنين
هل أنا أقف مع الدولة الفرنسية ضد الإسلام والمسلمين؟!
أنا أحاول تشخيص الوضع في فرنسا التي هي اليوم محل توتر وتمزق بين قضية اليهود ومطالب المسلمين. وأنا أتعمّد الجمع بين الطرفين، وبعكس ما تروّج له الأسطورة التي تجمع بين اليهودية والمسيحية، لأنهما وبالرغم من العداء الذي استحكم بينهما، بسبب قيام دولة إسرائيل وتهجير الفلسطينيين من ديارهم، أقرب، من حيث منطق الاصطفاء والتمييز، وأبعد ما يكون عن المسيحية التي تقوم على مبدأين: التجسّد والتضحية.
لكني لا أنتقد هنا، اليهود والمسلمين، ذوي العقول المنفتحة والهويات العابرة، ممن خرجوا من قوقعة طوائفهم، أو ممن يمارسون علاقتهم بجذورهم الدينية وبيئاتهم الثقافية، الأصلية، كرأسمال رمزي يستلهمونه في حياتهم ومهنهم، بحيث يترجمونه. الى عمل نافع او منهج صالح او نموذج ناجح او انجاز لافت في مجال من المجالات. إنما أنتقد الذين يتمترسون وراء هوياتهم الأصلية، ولا سيما منهم زعماء الطوائف والمؤسسات الدينية، اليهودية أو الإسلامية. فهؤلاء لا يحسنون التعاطي مع القضايا بلغة التواصل أو التعارف أو التداول. ما يتقنونه هو لغة الغطرسة او المخادعة أو التقية المبطنة بمشاعر الكره والعداء.
بالمقارنة يبدو الفارق كبيراً بينهم وبين الكاثوليك الذين هم الأكثرية والطائفة الأعرق. فهؤلاء لا يسمع لهم صوت ولا يرفع مطلب في الفضاء العمومي، لأن الضجة الإعلامية تدور اليوم ما بين قوم موسى وقوم محمد، ما بين أتباع الرابين وأتباع المرشدين، ما بين صفاقة اليهود المتعصبين ومخاتلة الدعاة الاسلاميين.
صحيح أن الكنيسة صنعت محاكم التفتيش، لكنها، بعدما انكسرت شوكتها ومرت بمصفاة الثورة والعلمنة، اعتدلت وصارت أقل تعصباً وتطرفاً. يتجلى ذلك في كلام أهلها الذين يتحدثون بلغة التقى والتواضع. من هنا يبدو لي أن الكاثوليك قد أصبحوا الطائفة الخائفة والمستضعفة في فرنسا. فحالهم تشبه في لبنان حال المسيحيين، ممن ساهموا في صنع النهضة العربية وفي كتابة تاريخ التمدن الاسلامي. لكنهم باتوا، اليوم، بسبب الصراع القاتل على منصب رئاسة الجمهورية، منشطرين بين المعسكرين الشيعي والسني، ممزقين بين أنياب العروبة الهدامة ومخالب الاسلام البربري. مرة أخرى انها فضيحة الاسلام والمسلمين أن يكتب مسيحي ليناني تاريخ التمدن الاسلامي، هو جرجي زيدان، فيما المسلمون المجاهدون والجهاديون يخربون بلدانهم ويدمرون ما بقي من معالم الحضارة الاسلامية.
أعود الى مشكلة فرنسا كما يصنعها النزاع أو الشقاق بين ما يريده اليهود ويرفضه المسلمون، وبالعكس. فكلا الطائفتين تساهم في تلغيم المجتمع الفرنسي بتعصبها وجهلها، أو بمخاوفها واحقادها، ولكل سببه وطريقته.
بالنسبة لليهود هناك الذريعة الدائمة، أي المحرقة التي تعامل كقدس الاقداس، وتستخدم كسيف مسلط على الرؤوس، بحيث بات الفرنسي يخشى من مناقشته أي شأن يخص اليهود، إذ يصبح موضع الإتهام والإدانة، وينقضّ عليه حراس الذاكرة تشويهاً لسمعته وتحطيماً لصورته.
وهذا ما يفعله المسلمون من جهتهم بحجة أنهم مظلومون ومحرومون من ممارسة حريتهم في التعبير عن معتقداتهم الدينية. لذا فإن كل من يناقش، مثلا،ً مسألة الحجاب، يُتَهم بأنه كاره للمسلمين أو مصاب بداء الخوف من الإسلام، وتلك هي الخديعة. فإذا كان المسلمون على أرضهم وفي ديارهم باتوا يخشون من صعود الإسلام الذي تحول على يد حراسه الى بعبع، فلماذا نأخذ على الفرنسيين خشيتهم منه؟
هكذا لا صدقية للمسلمين بإدعائهم أنهم أهل مظلومية وضحايا التمييز والعنصرية من جانب الفرنسيين. فالتجارب في العالم الإسلامي أثبتت أن المظلوم سرعان ما يتحول الى ظالم وجلاد. ولا عجب. فالضحايا إذا لم يحسنوا تصفية علاقتهم بذاكرتهم، بتحويلها على نحو ايجابي وبناء، لا ينتجون إذا تحرروا أو سيطروا إلا جلاّدين، وعلى النحو الأكثر وحشية وبربرية. وإذا كان المسلمون في بلدانهم الأصلية لا يرحمون بعضهم البعض، فلن يرحموا سواهم في الدول الأوروبية.
إنّ فرنسا هي منذ زمن ضحية للإبتزاز أو الإرهاب كما يمارسه المسلمون واليهود. وأعتقد أنها تراخت كثيراً، حتى استفحل الداء وجعلها فريسة بين فكّي الكماشة: الأخطبوط اليهودي والتنين الإسلامي. وإذا كان عليها أن تخرج من مأزقها فليس بإجراء مصالحات بين اليهود والمسلمين على الطريقة اللبنانية، بل باعتماد استراتيجيا جديدة في التعامل مع الطائفتين، بكسر الثنائيات والعقليات التي تتحكم بالمجتمع الفرنسي، كما تجسدها أسطورة معاداة السامية أو آفة كره الإسلام أو الخوف المرضي منه، بحيث يتم التعامل مع قضايا اليهود والمسلمين لا بوصفهم فوق الدولة أو ضد المجتمع، بل كمواطنين كما هي حال الكاثوليك، او من بقي منهم في طائفته ولم يخرج منها. وحده ذلك يحول دون صعود اليمين المتطرف ممثلا بالجبهة الوطنية.
من هنا المسؤولية الكبرى التي تقع على أرباب الطائفة اليهودية أو الإسلامية، بحيث يحسنون قراءة ما حدث ولا ينفك يحدث، من الكوارث والآفات، لكي يغيّروا نظرتهم الى ذواتهم والى الغير والعالم، وبحيث يقتنعون بأنه لا توجد مسائل أو قضايا تقع خارج نطاق المساءلة أو المناقشة، سواء تعلقت بهذا النبي أو بتلك القضية. فلا مقدسات في الدولة الحديثة.
الهوية العابرة
هل أنا أتدخل في فرنسا بما لا يعنيني؟
بالعكس أنا أتدخل في الشأن الفرنسي، لانه يعنيني من غير وجه:
الوجه الأول أنني انتمي الى جيل هو حصيلة الثقافة الغربية والفرنسية، بشكل خاص، أكثر مما هو حصيلة الثقافة الإسلامية بجوانبها اللاهوتية والعقائدية. من هنا لا غرابة أن اخشى تراجع فرنسا، امام محاولة الاسلمة، التي هي مساحة تنويرية ومرجعية كبرى للابداع الثقافي فكراً وأدباً وفناً.
أعرف أن الفرنسيين أتوا الى لبنان بجيوشهم وجنرالاتهم، لكن الغزو الثقافي، الذي هو الوجه الآخر للغزو العسكري، كان نعم الغزو لأنه كان بمثابة فتح حضاري نقلنا من عصر إلى عصر. هذا مع أن الغزو العسكري الفرنسي للبنان، كان غزواً ناعماً، قياساً على غزوهم الوحشي للجزائر ولبلدان أخرى، أو قياساً على الغزو العسكري والثقافي للاشقاء والأقرباء، لكي يمعنوا في تخريب لبنان والعودة به الى الوراء على الصعد المدنية والحضارية.
الوجه الثاني أنني أرى أن تراجع فرنسا أمام ازدهار الفكر الطائفي، ينعكس سلباً في بلداننا العربية، بقدر ما يعرقل محاولات الخروج من الفلك الديني الذي تحول الى متاريس وخنادق بين المسلمين قبل سواهم. من هذا الباب نفسه أهتم بالواقع الفرنسي، كما أفعل منذ سنوات، بتناول القضايا والمشكلات التي هي مدار النقاش والسجال، سواء بانخراطي في المناقشة حول مسألة الحجاب التي هي مشكلة دائمة، أو بتقديم قراءتي للاضطرابات التي حدثت في ضواحي باريس عام 2005، أو بتناولي أزمة النموذج الفرنسي الذي كان الأفضل في أوروبا، لكنه استهلك وبات بحاجة إلى التجديد، فيما الطبقة السياسية، بمعسكريها اليميني واليساري، عاجزة عن ذلك، بسبب غياب الرؤى الخلاقة والاستراتيجيات البناءة، التي تتيح اطلاق الطاقات وتأليف القوى لتركيب الحلول الناجعة او اجتراح الاجراءات الفعالة.
تشابك المصائر
ثمّة سبب ثالث أُسوِّغ به تدخلي بالمقاربة والمعالجة للواقع في فرنسا، أو في سواها من دول العالم، فالمشكلة في هذا البلد باتت عالمية، كما هي في بلدي لبنان، أو في أوكرانيا أو في سوريا وليبيا واليمن. هذا معطى جديد هو ثمرة الدخول في واقع كوني سمته التشابك والتداخل في المصالح والمصائر، كما تشهد المعضلات على مختلف المستويات.
مما يعزز هذا المنحى العالمي في التفكير أن الإرهاب، بات، على الأقل، منذ أيلول 2001، ظاهرة عالمية ومعولمة. ليس فقط لأن بإمكانه أن يضرب في أي مكان من العالم، بل لأنه بات يستقطب شرائح من الشباب في المجتمعات الأوروبية والغربية، وبخاصة في فرنسا، سواء منهم المسلمون، أو غير المسلمين، ممن انجذبوا إلى مشاريع الجهاديين الاسلاميين.
ولكن لا ننخدعنّ بالمشروع الأصولي. فالهدف ليس تحرير الناس من الاستبداد والفقر والبؤس. بل صنع نماذج بشرية هي كالروبوتات تتحرك بصورة آلية وعمياء، لتنفيذ قرارات هذا الأمير الجهادي أو ذلك الشيخ الإرهابي، وخصوصاً أن رؤساء التنظيمات الجهادية، لم يكونوا فقراء، بل أثرياء يسخرون أموالهم لتحقيق مشروعهم الجهنمي الذي يحيل الحياة الى جحيم قبل يوم الوعيد.
هنا تكمن العلة. في العقول لا في الجيوب، هنا العلبة السوداء التي يجدر تفكيكها بمبانيها الفكرية وتراكيبها العقائدية وثوابتها الألفية. لذا لا جدوى من محاولات تلميع صورة الإسلام، كما يحاول من تأخذهم الغيرة، في أوروبا، على الدين الحنيف. كما لا جدوى من النقاشات العقيمة حول ما إذا كان القرآن يحض على الاعتدال او بالعكس على التطرف. مثل هذه المحاولات تشهد على الجهل بتاريخ الاسلام الطائفي، وعلى الجهل بالقرآن نفسه. ذلك ان النص القرآني يقول الشيء وعكسه. لذا يمكن الاحتجاج به للدفاع عن القضية ونقيضها، أو تسخيره لصراع الاضداد على السلطة والثروة، وأحياناً بصورة همجية بربرية.
إن الإرهاب الذي نفزع منه وندينه، نحن من ساهم في صنعه في مؤسساتنا الدينية ومدارسنا الفقهية، أو في جمعياتنا الإسلامية، وأحزابنا الطائفية، سواء في أوروبا أو في البلدان العربية. وكما أن الإسلامي الجهادي هو صنيعة المسجد والدرس الفقهي أو الجمعية الدينية، فالمسلم الفرنسي الذي تحول إلى ارهابي هو صنيعة طائفته بتعاليمها وجمعياتها ومساجدها وطقوسها.
الأزمة العالمية
ميزة المقاربة الفلسفية أنها تتجاوز صدام الثقافات وصراع الحضارات وتضارب الإيديولوجيات، نحو المشكلات الوجودية. كيف لا والأزمة باتت، اليوم، أزمة عالمية كونية، إنها أزمة الإنسانية المعاصرة كما تتجسد في فقدان السيادة على الذات والخطاب والأشياء، أو في تناقص القدرة على التوقع والعجز عن التدبير، أو في كون الحلول للمشكلات تولد مشكلات أعقد وأكثر خطورة، أو في كون الاتفاقات هي مجرد تسويات هشّة أو موقتة. وها هو الرئيس الاميركي أوباما الذي بدأ عهده بشعاره “نعم نحن قادرون”، يبشرنا بأن الحلول تحتاج إلى “صبر استراتيجي”، بقدر ما يتخبط في سياساته بين المواقف المتناقضة والأضداد المتصارعة.
هكذا أمارس هويتي العابرة، بقدر ما أنا معنيّ بما يحدث في هذا العالم من الحوادث الجسام، ولا سيما تلك التي تتهدد المصائر المشتركة والشأن العالمي. من هنا انخراطي في المناقشات العالمية الدائرة حول القضايا الشائكة والازمات المستعصية، لكي أقدم قراءتي وتحليلاتي على قدم المساواة مع نظرائي العاملين في فروع المعرفة، أياً كانت هوياتهم وجنسياتهم واتجاهاتهم.
بذلك أتجاوز الثنائيات التي اشتغل بها المفكرون العرب طويلاً، ما بين عقل غربي، وعقل عربي أو إسلامي. فهي أعادتنا إلى ما قبل ابن رشد والفارابي، بقدر ما شكلت عائقاً عن تطوير مفهوم العقل أو عن ابتكار صيغ عقلانية جديدة، ولا أنسى الذين يعودون الآن إلى هذه الثنائيات المستهلكة بما يعدّ، أيضاً، عودة إلى ما وراء نقاد العقل من الفلاسفة العرب المعاصرين.
غاية القول: إن فرنسا بعد اعتداءات باريس، لن تعود كما كانت عليه قبلها. لأن التحديات الكبيرة، والمهمة جسيمة، لا تتعلق بحقوق هذه الطائفة أو تلك، بل بهوية فرنسا. لذا لا أطالب للمسلمين بحريات لا يستحقونها لأنهم سوف يسيئون إستخدامها، كما أني أطالب فرنسا بأن لا تستسلم للضغوط والتهويلات من جانب اليهود الذين يقول بعضهم: لا معنى لفرنسا أو لأوروبا من دون اليهود. الأحرى القول: لا معنى للعالم من دون فرنسا، بثورتها وأنوارها، بإبداعاتها واختراعاتها في كل المجالات، كما ساهم فيها الجميع، العريق والوافد، المقيم والمهاجر.
ولكن لا شيء يعود كما كان عليه. فإذا كانت محاربة الإرهاب تقتضي تفكيك العقول المفخخة بعقائدها المقدسة وثوابتها المطلقة، فإن مفاهيم العلمانية والمواطنة والديموقراطية والأخوة والدولة المدنية تحتاج هي الأخرى إلى إعادة النظر والبناء، تطويراً وتعزيزاً وتفعيلاً، في ضوء التحديات والتحولات، وعلى وقع الأزمات والانهيارات، وذلك لصوغ مشتركات جديدة للعمل الحضاري، سواء على مستوى دولة أو منطقة أو على مستوى العالم بأسره.
من باب أولى، أن لا نعود إلى الأوراق التي احترقت، كما تشهد النهايات الكارثية للأصوليات القومية واليسارية، فضلاً عن الأصوليات الإسلامية التي استجمعت مساوئ كل ما سبقها، استبداداً وإرهاباً وبربرية.
لذا لا جدوى من العودة إلى شعار “الشيوعية” لحلّ المشكلة، كما يقترح الفيلسوف الماركسي ألان باديو. فهذه وصفة أعطت مفعولها العكسي، بقدر ما ترجم الشعار بضده على أرض الواقع. ولا نجربنّ المجرب لكي نعيد إنتاج الأزمات، مزيداً من الفساد والخراب.
من هنا كان نقدي لعالم الاقتصاد الفرنسي توماس بيكتي الذي وُصف بأنه ماركس القرن الحادي والعشرين، بعد صدور كتابه “رأس المال في القرن الحادي والعشرين”، وكان الأولى به أن يسميه رأس المال في العصر الرقمي. لكن كتاب بيكتي، وإن كان ينطوي على جوانب جديدة مهمة ومفيدة، إلا أنه على صعيد المفاهيم قد أُلف، بعد قرن ونصف قرن، بعدة ماركس النظرية، وهي مدة طويلة حصلت فيها تغيرات هائلة في العالم، وبالأخص بعد انفجار الثورة الرقمية والتقنية، إذ معها تغيرت علاقاتنا بمفردات وجودنا، كالعلاقة بالحقيقة والهوية، او بالمُلكية والقيمة والثروة.
أياً يكن، لا عودة، على سبيل المماهاة أو التقليد، لا إلى ماركس ولا إلى أفلاطون، لا إلى هذا الطوطم أو النبي، لا إلى ذلك المنظّر أو المشعوذ، القديم أو الحديث. فحقيقتنا هي ما نقدر على خلقه وابتكاره أو ما نحسن أداءه وانجازه، بتسليط الضوء على العوائق والمآزق، ولكن مع الإحتفاظ بالمنجزات والمكتسبات، والعمل على استثمارها في مشاريع البناء والإنماء وفي أعمال الإدارة والتدبير. لذا فهويتنا ليست وراءنا، كما يريد الأصولي، المتديّن أو العلماني. وإنما هي أمامنا، كما تتمثل في قدرتنا على التحول بحيث نحسن أن نتغير ونغيّر علاقتنا بالثوابت، لكي نحسن مواجهة التحديات والافادة من التحولات.
ولكن لا مكاسب نهائية في ما يخصّ الحريات والحقوق، التي تحتاج إلى المقاومة الدائمة، كما تجسدها العين النقدية، من المرء على نفسه وعلى سواه. فلا ثقة مطلقة بالإنسان بعد اليوم، على وقع كل هذه الإنتهاكات، من جانب حرّاس المقدسات وحماة الحقوق والحريات. فالبشر ادعوا أنهم ألغوا أنظمة العبودية السياسية والدينية، لكنهم أنتجوا أشكالاً جديدة من العبودية، كما تجسد ذلك في الأنطمة الشمولية، كالنازية والستالينية والماوية والكاستروية والخمينية، فضلاً عن توابعها ومسوخها في العالم العربي، إذ هي جمعت بين عبادة الشخصية وتقديس النص لتصنع كل هذه البربرية.
هكذا، فبعد عقود من رفع شعارات الكرامة والحرية والمظلومية، وبعد دهر من الدفاع عن حقوق الانسان، نشهد نهاية نموذج الانسان الروحاني والمثالي بآلهته وتهوماته، بتنظيراته وأوهامه، كما تكتب نهايته صناعة الموت والدمار، مع كل طفل يُقتل، أو فتاة تُغتصب، أو بيت يُقصف على ساكنيه، أو عائة تهجَّر من ديارها، او سجين يعذَّب ويُقتَل او يُحرَق ويُدفَن حياً. يا لها من همجية تمارس على الأرض العربية، وسط صمت العالم وتفرجه بل تواطئه وتآمره كما يؤدي دوره، المشبوه أو الملغوم، على المسرح اللبناني والعربي، بشكل خاص، اللاعبون الكبار والصغار: الشيطان الأميركي والطاووس الايراني، الدب الروسي وأتاتورك الاسلامي، ولا أنسى الوحش الداعشي الذي هو صنيعة الجميع.
مما يعني أن الأولوية، على الصعيد الفكري، هي لوضع مفهوم العقل أو التنوير، وبالأخص مفهوم الانسان، على مشرحة النقد والتحليل لفتح أفق جديد للمعنى تجترح معه صيغ ومفاهيم وقيم مختلفة لإدارة العلاقة بين البشر. فما ندافع عنه ونعلي من شأنه هو بالذات ما نجهله وما يصنع المشكلة.
النهار