لعبة الأمم في دمشق
عبدالعزيز التويجري *
هل تريد القوى الكبرى أن تستمر الأوضاع في سورية على ما هي عليه، فلا النظام يفلح في قمع الثورة، ولا الثوار ينجحون في إسقاط النظام، لأن مصلحتها المتوهّمة تتطلب ذلك. ثمة مؤشرات كثيرة تؤكد للمراقبين أن اتفاقاً على نحو ما، قد تم بين واشنطن وموسكو، يقضي بعدم الحسم في حل الأزمة التي يعاني منها الشعب السوري، حرصاً منهما على قطع الطريق على القوى التي يزعمان أنها يمكن أن تخلط الأوراق وتنتهز الفرصة، للوثوب إلى السلطة في حال سقوط النظام، على اعتبار أن هذه القوى المزعومة لن تضمن المصالح الأميركية والروسية، وقبل ذلك المصالح الإســرائيلية إذا ما أسقطت النظام واستولت على الحكم.
ويرى بعض المراقبين، ورأيهم هذا له وجاهته وتعززه قرائن كثيرة، أن طهران التي أصبحت صاحبة القرار في النظام السوري الاستبدادي، تؤيد، من وراء الستار أو من أمامه، هذا الاتفاق السري، أو لنقل الاتفاق الضمني، بين واشنطن وموسكو، بالإبقاء على النظام الاستبدادي الإجرامي في سورية إلى أمد قد يطول، بحكم أن المصالح الإيرانية ستبقى محفوظة ما بقي هذا النظام قائماً، وأن تغييره سيكون كارثة بالنسبة الى إيران التي تسعى جاهدة من أجل إبعادها عن مجرد الاحتمال. وهي لن تتردد في التعاون مع أعدائها بمن فيهم (الشيطان الأكبر)، من أجل الحفاظ على مصالحها الحيوية في هذا البلد.
ويذهب مراقبون آخرون، إلى أبعد من ذلك، فيرون أن الاقتراح الذي طرحه وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، باستلام فاروق الشرع نائب الرئيس السوري، زمام الحكم في حال تنحي بشار الأسد، ربما يدخل ضمن هذا الإطار الافتراضي؛ لأن حلول فاروق الشرع محل بشار الأسد لا يعني سقوط النظام، وإنما هو استبدال مسؤول يقال إنّ يديه لم تتلطخا بدماء الأبرياء من الشعب السوري، بحاكم مجرم سفـــاح قاتــل، مع بقاء منظومة الحكم البعثي الاستبدادي من دون تغيير. وهذا ما يحقق أحد الأهداف المتوخاة من الاتفاق الضمني بين القوتين الكبيرتين على عدم الحسم في المرحلة الحالية، بما يسقط النظام بجميع أركانه ومتعلقاته.
وفي كل الأحوال، فإن الخاسر الأكبر، سيكون الشعب السوري الذي طالت معاناته في الداخل والخارج، بعدما بلغ عدد القتلى أكثر من أربعين ألف مواطن سوري، وعدد اللاجئين السوريين (وهذا مصطلح جديد يدخل أدبيات السياسة في العالم العربي) نصف مليون مواطن سوري، ووصل عدد النازحين الذين فروا من المعارك الإجرامية التي حاصرتهم في مدنهم وبلداتهم وقراهم، إلى مناطق أخرى داخل الوطن، إلى ثلاثة ملايين مواطن سوري.
إن هذا التردد المريب الذي يطبع السياسة التي تنهجها القوى الكبرى تجاه الأزمة السورية المتفاقمة المطردة في الانفجار، وهذا التخاذل المشبوه منها في حق الشعب السوري المغلوب على أمره والمتآمر عليه من أكثر من جهة، يؤكدان بالوضوح الكامل، أن المجتمع الدولي يعيش أزمة سياسية وقانونية وأخلاقية خانقة تؤرق الضمير الإنساني، مما أصبح العالم معه مهدداً في أمنه وسلامه، هذا إذا كان هنالك أمن وسلام حقيقيان على الأرض.
التفكير في القضية على هذا النحو، وبهذا المنطق الواقعي الصادم، يذهب بنا إلى ما يتردد في محافل كثيرة، من أن الولايات المتحدة الأميركية تنظر بعين الارتياح إلى الموقف الذي تتخذه جمهورية روسيا الاتحادية في مجلس الأمن، تجاه الأزمة باستخدامها حق النقض (الفيتو)، لأنها بذلك تعفي غريمتها من الانجرار إلى اتخاذ موقف حاسم إزاء الأزمة هي لا تريده، لأنه سيلحق ضرراً بمصالحها الداخلية والخارجية.
فهل نحن بإزاء «خداع دولي» تمارسه القوتان الكبيرتان على المسرح العالمي أمام مرأى المجتمع الدولي ومسمعه؟ وهل بات الشعب السوري ورقة للمساومة في سوق السياسة الدولية (كدت أقول سوق النخاسة الدولية) يباع ويشترى في غياب أي التزام بالقوانين الدولية، بهذه الطريقة التي تتناقض مع المبادئ الإنسانية والقيم الأخلاقية؟ ولكن متى كانت السياسة الدولية تعرف الأخلاق؟
لقد اتضح أن الكبار لا يريدون إنهاء الأزمة في سورية، على النحو الذي يحقق أهداف الشعب السوري المنتفض في وجه الظلم والجور والعدوان والقمع والاستبداد. إنهم يخشون أوهاماً تسيطر عليهم، إذ يزعمون أن النظام الحالي سيرعى مصالحهم في حين أن أي نظام آخر مجهول لن يحفظ لهم تلك المصالح. إنهم يلعبون «لعبة الأمم» التي يبدو أنها إحدى الحقائق الثابتة في السياسة الدولية التي تهيمن عليها القوى الكبرى المتحكمة في إدارة شؤون العالم.
ولكن الحقائق الدامغة هي تلك التي تنبثق من إصرار الشعب السوري على المضي قدماً في انتفاضته، فارضاً إرادته القوية الحرة، ومفسداً على الكبار لعبتهم القذرة. فهل يعي العرب هذه الحقيقة الصادمة، ويتحركون لإنقاذ سورية وإنقاذ أنفسهم من خطر كبير محدق بهم؟
* أكاديمي سعودي
الحياة