صفحات العالم

لعبة القط والفأر فــي ســوريا


نهلة الشهال

في مقلب آخر من المشهد، لا يتعلق بصدقية وحجم التظاهرات الاحتجاجية الهائلة، مما لم يعد النظام السوري نفسه بقادر على إنكاره، تدور رحى معركة سياسية ستترك آثارها على تطور تلك الحركات الاحتجاجية نفسها وعلى مسلك النظام وخياراته. انها زيارة السفير الاميركي، السيد فورد (مصطحباً في معيته السفير الفرنسي)، الى حماه، وعقده اجتماعات مع فعالياتها ومشاركته في تظاهرة يوم الجمعة التي يمكن اعتبارها مليونية بالقياس الى حجم المدينة.

قد يمكن افتراض أن السيد فورد إنما أراد جس نبض النظام السوري قبل أن يتحول الى فيلتمان ثانٍ، أي قبل أن يسير على خطى السفير الاميركي السابق في لبنان، الذي تمكن لسنوات من التجوال في طول البلد وعرضه… لأنه مستباح تعريفاً: ليس عندي شك أن للصوماليين مثلاً، على بؤسهم وفِرقتهم، مجموعات في لبنان، ولذا فلم يكن تصرف السفير فيلتمان مستغرباً ولا حتى مستهجناً، رغم اعتراض البعض عليه، ولكن كنوع من الموقف الروتيني حتى لا نقول المبدئي، لأن التعبير هنا ليس دقيقاً. للبنان سياقاته التي لا يمكن نسخها في أي مكان آخر، ولا سيما في سوريا، على اعتبار أن الاستباحة الثانية، العراقية، قد جرت في ظل احتلال عسكري أميركي لأرض الرافدين.

أراد السفير الاميركي إحراج النظام السوري، لمعرفته التامة بأنه لن يقْدم على خطوة من قبيل طرده ولا حتى استدعائه للاستفهام وفق الاعراف الدبلوماسية. وهو استغل بذا حالة النظام الذي بدا كمبتلع السكين. ومن جهة أخرى، قد تكون دمشق استخلصت من هذا المسلك الاميركي، الذي يتقصد إحراجها، ما يمكنه أن يفيدها ـ طالما ليس بإمكانها منعه ـ فغضت النظر عن انطلاق رحلة السفيرين وصحبهما وتركتهم يصلون الى مقصدهم، لتبرهن من ثَم على مبلغ التدخل الغربي في شؤون الانتفاضة الجارية فيها، لا سيما أن المسؤولين الاميركيين في السفارة يؤكدون أنهم أبلغوا، وفق الاصول الدبلوماسية، الجهات الرسمية السورية بالرحلة. كلٌ يحسبها من جهته، ويسجل لنفسه مكاسب. على أية حال، تلك الرحلة الى حماه خطوة أولى سيُمْكن تأويلها على ضوء ما يتبعها. فإما تكون استعراضاً والسلام، أو تؤسس لتقليد. في الحالة الاخيرة، لن يتمكن النظام السوري من الاكتفاء بردة الفعل التي أبداها الآن، وسيكون أمام تحدٍ جدي. وهذا يبدو مقبلاً بسرعة.

وأما المعارضة السورية بمختلف تكويناتها، فقد اضطربت حيال هذه اللعبة. وبعضها يحاول إدخال نصيبه، هو الآخر، فيها. وعلى صلة بهذا التشكل الجديد للسياسة في سوريا، شارك منذ أيام السيد الدروبي، ممثل الاخوان المسلمين، في مهرجان في باريس دعت إليه مجموعة من الكتاب الصهاينة والمعروفين بصلاتهم الوطيدة بإسرائيل. بينما دعا كتاب سوريون، هم من أبرز الاسماء المعارضة، الى مقاطعة الاجتماع لهذا السبب. هذا صراع بنَّاء على أولى المقاييس التي ينبغي توضيحها: هل الصلة بإسرائيل أمرٌ عادي، يمكن للقوى السياسية العربية الساعية للتغيير استنساب توظيفه والاستفادة منه؟ ليس توضيح هذا مهما على ضوء ثيمة «خيانة « فلسطين، بل لأنه جزء من عملية بلورة طبيعة مشروع التغيير المقبل نفسه..

كذلك فإن قبول أو رفض التحرك الاميركي داخل سوريا هو مقياس آخر سيطرح نفسه بشدة على قوى المعارضة في هذا البلد، التي تهرَّب بعضها بالقول إن الزيارة الاميركية لحماه ليست سوى مناسبة للشهادة على حجم التحرك الهائل وحجم القمع الذي لا يقل عنه ضخامة، بينما الحقيقة هي أن السفير الاميركي كان مشاركاً، ولو ليوم، في المعمعة وليس شاهداً عليها فحسب. ولو تكرر المسلك الاميركي بهذه العلنية الفجة، وإن بأشكال أخرى، فسيكون الموقف منه مؤسِساً لمقياس ثانٍ لا بد من بلورته حول ما الذي تسعى إليه الانتفاضة: مزيد من الاستقلال الوطني والتحرر على كل الصعد، أم مجرد التخلص من بشار الأسد وليكن بعد ذلك الطوفان؟ وأما الاتصالات غير العلنية، أو فلنقل غير الاستعراضية، بين اطراف من المعارضة والسفارات الغربية، فقائمة على قدم وساق. وبكل الاحوال، فرفع يافطات في حماه بوجه السفير الاميركي تقول له «لا ننسى فلسطين»، وإنْ كان جيداً وجميلاً، لا يكفي كمخرج من كل هذه التعقيدات.

وأما التقرير الاستخباراتي الاسرائيلي المسرب الى العالم عبر لقاء صحيفة معاريف مع الجنرال كوخاني، القائد السابق لجهاز «أمان»، ففصيح. فهو يخلص الى أنه «لا يوجد أفق» أمام النظام الذي استهلك حتى الآن معظم احتياطيه من العملة، والأهم الذي يقاتل فعلاً ضد مجموعات مسلحة عديدة وأخرى اجرامية. ويقول الجنرال إن 600 عسكري سوري قد قتلوا فعلاً حتى الآن ـ (ولا يقصد، كما تدعي المعارضة، أن النظام صفاهم لأنهم رفضوا قمع الناس). ويحدد الجنرال أيضاً أن انزلاق سوريا الى الجحيم (هذه الجملة من عندي) سيستغرق سنتين أو ثلاثة… طبعاً انتهى الناس الى تصديق وجود مجموعات مسلحة لأن ضابطاً اسرائيلياً أكد المعلومة. لا يهم. أما ما يهم فطرح السؤال عما يمكن لإسرائيل احتماله: هل فوضى من هذا القبيل على حدودها أمر لا يثير قلقها؟ وإن كانت الاجابة بالنفي، فلماذا؟ وهي لماذا تحتمل في ما تحتمل مخططات اسرائيلية قد تشمل شن حروب في وقت الفوضى ذاك. وعلى أية حال فالتوصل الى تقدير موقف حول تلك المسألة يستحق التحري والتقييم والنقاش، بعكس ما نتسلى به حتى الآن. وعلى رأس ما نتسلى به الموقف من «الحوار الوطني» الذي يبدأه النظام… بغياب المعارضة. والحوار على هذه الشاكلة تزوير صريح للمطلوب، وكان يجدر بالنظام تجنبه حتى لا يسف الى هذا الحد، ممعناً بممارسات تجاوزها الموقف.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى