لعبة الوقت والأرقام السورية
الشرق الاوسط اللندنية
يوسف الديني
ربما كان النظام السوري أكثر الأنظمة العربية المثور عليها إدراكا لقيمة «لعبة الوقت» في التعامل مع الثورات، لذلك يقوم باستنزاف كل الحيل لكسب المزيد من الوقت، بدءا من افتعال خصومات ذات منزع سياسي ودبلوماسي عبر وكلائه، أو من خلال تشتيت الانتباه عن الجرائم المروعة التي يرتكبها، بفتح ملفات يعلم تماما أنها ستساهم في منحه ذلك الوقت للتأثير على مسار الثورة وإيقاعها؛ ومن ذلك التحرش بـ«القاعدة» من خلال تهيئة المناخ لكي تنمو وتكبر، وهو ما بدأت الصحافة الغربية برصده والتركيز عليه، في ذات الوقت الذي ينشط فيه الإعلام القاعدي عبر مواقعه ومنتدياته للحراك في سوريا والتحريض على نقل مجموعات كبيرة عبر الحدود، لكن الأكيد أن بيئة «القاعدة» سهلة النمو الآن في الأجواء السورية، لكنها لا يمكن أن يكتب لها الدوام بحكم عوامل كثيرة أبرزها الجغرافيا السياسية شديدة الحساسية، عدا أن «القاعدة» بحاجة إلى غطاء اجتماعي يتمثل في جماعات دينية متشددة تختلف مع «القاعدة» في الاستراتيجية ولكنها تتفق في الخطوط الآيديولوجية العريضة، مما سميته في مناسبة سابقة «قاعدة التفكير» كحاضن ومشرعن لـ«قاعدة التفجير»، وهو أمر تفتقده الساحة السورية لأسباب تاريخية واجتماعية.
لكن في مقابل لعبة «الوقت» التي كسبها النظام السوري حتى الآن؛ فإنه فشل تماما في لعبة «الأرقام» التي لا تقل أهمية، وهي أن يقل منسوب الضحايا تزامنا مع طول الوقت، مما يجعل أصدقاء النظام السوري أو حتى حلفاءه بالتبعية للمعسكر الإيراني، المباشرين منهم والمستترين، يهرولون نحو تقديم حلول ومقترحات للحل، لكن شيئا من ذلك لن يحدث متى ما ظلت الأرقام غير قابلة للسيطرة؛ بل وتدل على أن الشعب السوري، على الرغم من كل المصاعب التي تحف ثورته، مصمم على المضي فيها للنهاية.
حسابات الوقت والأرقام ساهمت في تحويل القرار من يد العرب ككيانات، وحتى كدول، إلى استقطاب روسي – أميركي، أو لنقل بين محورين: محور دولي تتقدمه الولايات المتحدة ويضم معظم دول الغرب، ودول «الاعتدال العربي» في مقابل محور دولي آخر بقيادة روسيا والصين ويضم إيران والهند وبعض دول أميركا اللاتينية.
المحبط ليس الاستقطاب ولا طريقة التفاوض التي تخفي جانبا كثيرا من البراغماتية، ومحاولة الضغط باتجاه مصالح خاصة لتلك الدول على حساب الشعب السوري؛ بل في انفكاك هذا التدويل للأزمة السورية عن مؤثرات الواقع، أي أن لعبة الوقت أو حتى الأرقام غير مؤثرة بشكل مباشر على طبيعة ونتائج تدويل الأزمة، بل بقدرة تلك الدول على الاستفادة من مخرجات الأزمة على أوضاعها الداخلية، إن في محاولة روسيا بوتين إلى العودة بقوة أو حتى استحقاقات الانتخابات الأميركية في فترة الخريف المقبلة، وصولا إلى تأسيس الصين مفاهيم جديدة للعلاقات الدولية المرتبطة بشكل مباشر بالطاقة بعيدا عن أي ملفات أو استحقاقات سياسية، وهو ما سيجعل كثيرا من الأنظمة القمعية الصغيرة في أفريقيا ومناطق أخرى تنظر إلى الغطاء الروسي – الصيني كمحفز لتحالفات المستقبل المبنية على ولاءات خارجية من دون أي استحقاقات داخلية تذكر.
الضغوطات تبدو قوية الآن على دول الاعتدال، وقد تزداد مع الوقت متى ما تغير الموقف الأميركي الذي تبدي تصريحات المسؤولين والمعلقين، وحتى إيقاع الكتابة السياسية، أنه عكس عقارب الساعة؛ حيث إبداء مرونة أكثر حول إمكانية فتح المجال للوصول إلى حلول سياسية، مع أن النظام السوري لا يقدم أي تنازلات على الأرض؛ حتى تلك التنازلات التي تقدمها عادة أكثر المجموعات القتالية المتطرفة للصليب الأحمر، وهو ما سيجعل انتظار بارقة تغير من قبل النظام تجاه هذا التصلب أشبه بالاستجداء، أو على الأقل الأمنيات السياسية بلا سند على الأرض، وهي الحالة التي تعيشها دول «الارتباك» التي لم تنحز حتى الآن إلى أحد الموقفين، مثل تونس ومصر، وهذه الأخيرة لا يرغب المجلس العسكري فيها في تغير الحال السوري نحو المزيد من التضييق عليه من قبل الإسلاميين، لا سيما أنه يبدو حتى الآن متفاجئا من أداء «الإخوان» في الداخل على الرغم من تحالفاته معهم، وذات الارتباك تعيشه تركيا لكن لأسباب أخرى تتصل بالعلاقات الدولية وعدم رغبتها في خسارة الصين أو روسيا، أو حتى فتح جبهات حدودية سيصبح من العسير جدا إغلاقها متى ما تدهورت الأوضاع.
الأوضاع في سوريا الآن مرتبطة – من وجهة نظري – باختلال ما في لعبة الوقت والأرقام، حيث على الأغلب من المستبعد أن تكون ثمة نهايات دراماتيكية على الرغم من كل التقارير عن تسلح الجيش الحر، أو تنامي المجموعات القتالية في الداخل، فكل المؤشرات تدل على أن كسب المزيد من الوقت سيخلق انقسامات حادة في صفوف المعارضة والجيش الحر على طريقة تشبه بدايات الفوضى المسلحة في الثورة الليبية، التي كان لتدخل الناتو الفضل في توحيدها، ولو بشكل ظاهري سرعان ما اضمحل بعد نجاح الثورة، وهو الأمر الذي يجهله من لا يعرف طبيعة تكوّن وعمل المجموعات القتالية، أو لنقل إنه لم يستفد من أثرى تجربة لفحص العنف المسلح في العصر الحديث، وهي التجربة الأفغانية.
ومع تزايد لعبة الأرقام يمكن لأطراف ما داخل النظام السوري، وربما بعض القوى النافذة في الطائفة العلوية، أن تقوم بالضغط على النظام للتفاوض على حلول تفاوضية ولو عبر طرح ملف إنقاذ روسي، إلا أن رعونة النظام وحجم الزهو الذي يتلبسه مع مكتسبات «الوقت» يقللان من هذه الفرضية، ولا يتبقى سوى الرهان على زيادة كمية الانشقاقات التي يمكن أن تخنق النظام وتحرجه أمام كبريائه أكثر بكثير من تضخم أعداد الضحايا من الأطفال والأبرياء، حتى بعد أن اعتقدنا بفعل سحر «الصورة» والقرية الكونية أن بشاعات كهذه يمكن أن تخيف صانعي القمع ومصدريه، لكنها، ويا لسذاجتنا، لم تفعل!
الشرق الأوسط