“لفياتان” لهوبس: الدولة/ التنّين ذلك الوحش الذي لا مفرّ منه/ ابراهيم العريس
كان واحداً من أبرز الأفلام التي عُرضت في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي. وكان اسمه في حدّ ذاته كافياً لإثارة فضول المتفرجين، سواء كانوا يعرفون دلالة الإسم، أو من الذين أُغلق عليهم معناه فراحوا يلجأون الى القواميس علّها تسعفهم. الفيلم روسيّ أما عنوانه فهو «لفياتان». أما مخرجه الروسي آندريه زفياغونتسيف فقد سعى الى ان يوفّر على المتفرجين الفضوليين عناء هذا كله، حين أوضح في كتيّب الفيلم ان الإسم يحيل الى عنوان واحد من أشهر الكتب الفلسفية للفيلسوف الإنكليزي توماس هوبس. ومن يعرف ذلك الكتاب، الذي يُحسب عادة في خانة كتب «اليوتوبيا» يفهم بسرعة، وحتى من قبل مشاهدة الفيلم ان المعني بلفياتان – وهو وحش خرافي يكاد أن يكون التنين نفسه، على هيئة أضخم وأشد فتكاً في الأساطير -، إنما هو الدولة نفسها، ذلك «الوحش الحديث» الذي لا مفرّ من وجوده مهما كانت قوته وجبروته. وهكذا، انطلاقاً من الفيلم، عاد الاهتمام بهذا الكتاب وصاحبه إلى درجة أن إحدى دور النشر الفرنسية أصدرت على الفور طبعة جديدة من الترجمة الفرنسية للكتاب، قد يكون من الصعب تصوّر انها فعلاً أصدرتها على هامش الفيلم! ومهما يكن من أمر هنا، يشكل تداول إسم توماس هوبس وكتابه على هذه الشاكلة، ولو كانت سينمائية، مناسبة للعودة إلى واحد من الكتب الأساسية في الفلسفة الأوروبية.
إنه «أبو التوتاليتارية المعاصرة» وفق واحد من واصفيه في القرن العشرين، وهو الذي توجّه اليه فولتير بالخطاب قائلاً: «… أنت يا عدوّ ديكارت، ويا من أخطأت مثله، انت يا من كانت اخطاؤك في الطبيعيات فاضحة، ولكنها كانت مع ذلك قابلة لأن نتسامح معها فقط لأنك جئت قبل نيوتن ولم يُقيّض لك ان تطّلع على نتائج عمله بالتالي في هذا المجال. أنت يا من نطقت بحقائق لكن هذه الحقائق لا تعوّض عن أخطائك، انت يا من كشفت للمرة الأولى وهم الأفكار الفطرية، وكنت سابقاً لـ «لوك» في أمور عدة، وكنت أيضاً سابقاً لـ «سبينوزا». انت الذي كنت هذا كله وأكثر، عبثاً اليوم تحاول ان تدهش قراءك بما تكاد تصيبه من نجاح في اثباتك لهم ان لا وجود في العالم لأي قانون ســـوى القوانين المتواضع عليها، وأنه لا وجود لعدل وظلم إلا ما اصطلح على تسميته بهذا الاسم في بلد بعينه».
لقد كان من المهم بالنسبة الينا هنا، إذ نحاول ان نتحرّى حقاً عما كانه توماس هوبس، الفيلسوف النهضوي الانكليزي الذي يوجه اليه زميله الفرنسي التنويري هذا الكلام، أن نكتشف ان هوبس كان يقف وحده – او يكاد – بين كبار فلاسفة تلك العصور التي كانت تشهد واحدة من أكبر الحركات التنويرية في تاريخ الفكر الإنساني- وبكلمات أخرى في الفكر بشكل عام -، في بحثه عن حكم أي سلطة، تكون منفصلة تماماً عن الشعب. فبالنسبة الى توماس هوبس لا مجال للالتقاء بين السلطة وجمهورها. «السلطة مسألة اكثر جديّة من ان نتركها للجمهور» يكاد يقول بلسان زماننا ذاك الذي كتب في باريس أواسط القرن السابع عشر ذلك الكتاب الغريب «لفياتان» (أو «التنين») وحمله معه مخطوطاً لدى عودته الى انكلترا التي كان قد غادرها خوفاً من أن يضطر الى اعتناق الكاثوليكية زمن حكم كرمويل الانقلابي، «ليس وفاء منه للبروتستانتية» التي إنما انتفض كرمويل لمناهضتها (كما تقول سيرة حـــياته فـــي «مــوسوعة الفلسفة»)، بل انـــطلاقاً من تمـــسكه بآرائه الفلسفية الحاسمة في ما يخص «أولـــوية الدولة على الكنيسة». بالنسبة الى هوبس المــسألة شديدة الوضوح ولا تحتمل اي لبس أو دوران: الدولة للسلطة وأصحاب السلطة، والدين للشعب، أما الكـــنيسة فيـــجب ان تخضع للسلطة، لا العكس. لم يكن هذا الأمر الأخير بالجديد في ذلك الحين، لكن الجديد كان ان يأتي فيلسوف عقلاني له سمعة هوبس وتاريخه، ويطور «أمير» ماكيافيللي الى هذا الحد. ولعلنا لا نكون بعيدين من الحقيقة إن نحن أشرنا هنا الى ان هذه هي الخلاصة التي نصل اليها بعد أن نقرأ مئات الصفحات التي يتألف منها كتاب هوبس الذي نتحدث عنه هنا.
في العادة يوضع كتاب «لفياتان» لهوبس في عداد كتب «اليوتوبيات» أو «المدن الفاضلة»، ولكن الباحثين المعاصرين باتوا أكثر ميلاً الى وضعه في خانة الكتب السياسية التي تبحث في الحكم والحكومة، وليس من منطلق خيالي، بل من منطلق ما هو حاصل وكيف يمكن تطويره. هذا الكتاب طبعه هوبس في لندن، العام 1652، أي بعد عودته اليها بعام واحد. ويرى كثيرون أن هوبس هو الذي صمم بنفسه غلاف الكتاب، حيث أتى الغلاف ليعكس المعنى المطلوب تماماً، حيث الحاكم (بالسيف والصولجان) هو فوق الجميع، له سلطة مطلقة عليهم «وليس ثمة على وجه البسيطة قوة يمكن ان تقارن بقوته». ولئن كان هوبس قد عنون كتابه بـ «ليفياتان أو مسألة وشكل وقوة الكومنوولث الديني والمدني»، فإنه في رسمة الغلاف ذاتها، أوضح الأمر بشكل يكشف غايته الأساس منه، حيث نجد في كل جزء من أجزاء الرسمة رمزاً للقوى الدينية والمدنية التي يتمتع – أو يجب ان يتمتع – بها الحاكم الفرد. والكتاب نفسه يتوسع في التفاصيل المتعلقة بهذا الأمر في استعارات نظرية كما في أمثلة عملية تصب كلها في مجرى الفكرة الأساس التي يعود ويلح عليها والمتعلقة بسموّ الحاكم على المحكوم. ولم يفت مؤرخي كتاب هوبس هذا، ونقاده ان يجدوا فيه، على أي حال، عملاً ثاقب البصيرة، موحداً في شكله وأسلوبه، يطور موضوعاته بلغة واضحة تكاد تشبه المعادلات الرياضية حتى يتوصل في النهاية الى التعبير عن فلسفة متكاملة في المجتمع والإنسان.
بالنسبة الى هوبس، وكما يظهر في «لفياتان»، من الواضح ان الكائنات البشرية سلبية في الوراثة، وهي تتصرف دائماً وفقط انطلاقاً من مصالح ذاتية من دون أي دافع من حب أو إثرة أو أخلاق. وبما ان الانسان اناني ولا يتبع سوى غرائزه، يتوجب على المجتمع المدني ان يمنعه من ان يُدخل الى الدولة أي قدر من طبيعته الخالصة الفوضوية. ولما كانت المجتمعات في حاجة الى دولة، يتوجب، اذاً، أن تكون ثمة تراتبية هرمية يسيطر عليها ملك يتمتع بسلطة مطلقة، وتلتحق به الكنيسة التحاقاً تاماً. أما الفرد، فإنه منذ اللحظة التي يختار فيها ان يكون عضواً في مجتمع كهذا، عليه أن يخضع تماماً وفي شكل مطلق لسلطة الملك وأعوانه. و«لفياتان» هنا، وفق نظرية هوبس هو أشبه بإنسان ضخم صناعي، يمثل الملك روحه، ويعاونه أولئك الموظفون الذين يعاقبون ويثيبون في شكل يدفع كل فرد الى القيام بواجبه، حيث تكون النتيجة مجتمعاً سليماً متماسكاً. ان هوبس في هذا، «ينكر على الانسان» وفق الباحثة ماريا لويزا برنبري، في كتاب لها عن «المدن الفاضلة»، «اي حقوق طبيعية، لأن الانسان ليس كائناً اجتماعياً بطبيعته». لقد مُنح الملوك الأوائل السلطة المطلقة على بقية الشعب، ومن واجب الأجيال التالية ان تحترم هذا العقد.
ولد توماس هوبس العام 1588 ومات في هاردويك بعد ذلك بواحد وتسعين عاماً. وهو أكمل دراسته في اوكسفورد وفي العام 1608 عُيّن من جانب آل كافنديش مؤدباً لابنهم ويليام وجال معه في الكثير من البلدان الأوروبية حيث عاشر الارستقراطية واطلع على اساليب الحكم، وتعلم اليونانية. وهو فعل الشيء نفسه حين اصبح مؤدباً لنبيل أرستقراطي آخر بعد رحيل ويليام. وفي العام 1640 هرب هوبس الى فرنسا إثر الاضطرابات التي عصفت بإنكلترا ولا سيما ضد الحكم المطلق الذي كان هو من انصاره. ولقد أقام في فرنسا اكثر من عقد ارتبط خلاله بصداقة مع ديكارت ووضع بعض أهم كتبه مثل «مبادئ القانون الطبيعي والسياسي». وهو بعد عودته اشتغل على الكثير من النصوص، كما كتب سيرته الذاتية في آخر سنواته وعمل على ترجمة الكثير من النصوص الاغريقية ومن بينها «الالياذه» و«الأوديسه».
الحياة