لقد نفد الرصاص
محمد الرميحي
من المبكر أن نقرأ الدروس التي أدت إلى سقوط عدد من الأنظمة العربية خلال الفترة بين نهاية 2010 ونهاية 2011. سوف يريق المحللون كثيرا من الحبر لاستقصاء ما حدث؛ أسبابه وطريقة حدوثه ونتائجه، سوف تتعدد القراءات. هذا التحفظ أبدأه لأقول إن كتاب عبد اللطيف المناوي، الذي كان مسؤولا عن قطاع الأخبار في التلفزيون المصري إبان أحداث مصر، يقدم لنا مسودة لقراءة معقولة وبصيرة، بعضها أصبح معروفا وبعضها ربما ينشر لأول مرة لما حدث في مصر، وفيه دروس عامة تنطبق على غيرها.
الكتاب بعنوان «الأيام الأخيرة لنظام مبارك»، والطبعة التي بين يدي هي الرابعة، دليل على أن الكتاب قد أخذ حظا من المتابعة في مجتمع عربي قل أن يقرأ. من يقرأ الكتاب بتعمق، قد يوافق المؤلف في بعض ما ذهب إليه من التحليل وقد يعارضه، ولكن يبقى سرد الحقائق، كما شارك فيها واطلع عليها المؤلف عن قرب، غير قابل للنفي في ضوء ما عُرف حتى الآن.
الدروس هي الأهم، وهي دروس يمكن الاستفادة منها عربيا، ولو أنها خاضعة لظرف تشكل في مصر، وكانت مدخلاته مصرية ولاعبوه مصريين، يجمعها هامش مشترك عربيا قد يفيد في توجيه مسارات المقبل من الأحداث.
هناك عدد من النقاط الجوهرية التي استنتجتها من قراءتي.. يمكن تلخيصها في ثلاثة دروس وملاحظتين.
الدرس الأول أن النظام العربي في كل مكان في زماننا وبأشكاله المختلفة لا يؤمن بالمؤسسة، ولا بالتفكير المنهجي، هو فقط يعتمد على السماع، لما يريد أن يسمع، محققا رغبات القابض على السلطة، سواء كان فردا أو أفرادا قلائل، في فضاء بيروقراطي محيط بمتخذ القرار، لم يدرب على التفكير المنطقي والحر في آن معا. الجميع يقول للحاكم ما يريد سماعه، في الغالب، مغيرا لون العبارة من الأسود إلى الأبيض في لحظات، ودون سند عقلي. تابع المناوي، بصفته مسؤولا عن قطاع الأخبار في مؤسسة قديمة هي التلفزيون المصري، كيف يتخذ القرار الإعلامي تحقيقا لرغبات آنية لهذا أو ذاك من الشخصيات الحاكمة في مصر وقتها وفي وقت أزمة، دون الأخذ برأي المهنيين. كما لاحظ أن مديري الأزمة يتلكأون في اتخاذ القرار، ثم يأتي قرارهم متأخرا خارج السياق الزمني.
في هذا الإطار يلاحظ الكاتب قضية مركزية لها علاقة بالثقافة العربية عنوانها «العناد» و«تكسير الرأس» أو باللغة السياسية استخدام «القوة الفظة» من جهة، والتهوين من الأحداث القائمة من جهة أخرى. هذا العناد وذاك التهوين، يؤديان إلى تضييع الفرص من جهة، وإحكام طوق الأزمة على رقبة متخذ القرار من جهة أخرى، حتى ينتهي إلى مكان؛ إما معزولا (في حالة مصر) أو – إن أردنا الدقة – مقتولا (في حالة ليبيا). لقد اختفى من إدارة الدولة حتى الشكل التقليدي في «الأمان» عندما يقول الحكيم في تاريخنا المكتوب للراعي: «آمني أتحدث معك بما أعتقد!». هذا النوع من «الأمان» لم يعد متاحا، فيكثر التكاذب والخداع فيما سماه المناوي «زمن النذالة»، فتتهيأ الدولة للتصدع. ففكرة أن يكون المنوط به نصح متخذ القرار (ذا حصانة) بالمعنى الحديث والمطبق في عالم اليوم المتحضر، أي أن يقول ما يراه دون عقاب مباشر أو تهميش لاحق، لم تعد قائمة لا بمعناها التقليدي ولا بمعناها الحديث في فضائنا العربي، فقط على الجميع أن يقر بحكمة القائد وبعد نظره، حتى لو كان صاحب عمى سياسي مركب.
الدرس الثاني هو علاقة رأس المال بالحكم. إنها الوجع التاريخي لنا كعرب ولغيرنا من شعوب العالم اليوم وتاريخيا أيضا، ولقد نكص أهل الحكم في مصر حتى عن قراءة الشعارات الستة التي جاء بها انقلاب الضباط في عام 1952. لقد كان الشعار الثالث هو تخليص الحكم من سيطرة رأس المال. وعاد من جديد رأس المال يتحكم (دون ضابط أو رقيب؛ لا من قانون ولا من ضمير) في مقدرات الحكم، فاختلطت مصالح الرأسماليين بمؤسسات الحكم وسير الأول الثاني لرغباته. عدم ضبط هذه العلاقة، قد يضخمه الشارع إلى درجة تسمم العمل السياسي برمته، ولم تحقق حتى فكرة «سد الذرائع»! لقد نمى بجانب السلطات العربية فئات اجتماعية ملكت الأرض، ومن عليها، واستخدمت في ذلك قوة مفرطة تحت سماء قوانين سنتها، تسببت في النهاية في سقوطها، وتلك معادلة معروفة في التطور التاريخي، والعرب ليس استثناء منها.
ومع فقد معارضة نشيطة ومحترمة، أصبح الخلاف السياسي ليس له عنوان للتفاوض، فسقط في يد الجمهور وهو بلا وجهة ولا سقف، فلم يكن أحد يعرف من القائد في الميدان ولا المطالب التي كانت تتطور بتطور الصوت العالي.
الدرس الثالث أن المجتمع ككل قام أولا بالاحتجاج على ما يحدث ثم بالثورة ضده، وهنا يلاحظ المناوي كشاهد عيان، أن التجمعات التي توجهت إلى ميدان التحرير في الأيام الحرجة كان منبعها الأساسي من المساجد والكنائس؛ يصفها بالأسماء والمواقع، وهي إشارة على أن رغبة التغيير كانت مطلبا عاما لا حكرا على جماعة أو فئة، وأن ثماره يجب أن تطول الجميع، وإن عاد التهميش لفئة أو جماعة من الشعب، فذلك بمثابة دق الإسفين الأول في النظام القائم، أي نظام، وكان جزء كبير من التوتر في مصر موضوع التوريث الذي لم يكن مهضوما من المؤسسة العسكرية، ويروي المناوي التفاصيل دون لبس.
تلك هي الدروس، أما الملاحظتان فهما:
الملاحظة الأولى: يتوق المناوي في موضوع تخصصه وممارسته في الشأن الإعلامي أن يرى في تطبيقنا العربي ما سماه بـ«إعلام المجتمع»، وليس «إعلام الحاكم» أو «السلطة»، إعلام الدولة وليس إعلام أهل الدولة، والأخير هو السائد، وعند الحاجة لا يصدقه أحد. في تقديري، لم نصل كعرب إلى وضع أسس لمثل ذلك الإعلام المهني المبتغى، وما يحدث اليوم في مصر من «تعيين» مسؤولين بمواصفات معينة رؤساء لمؤسسات إعلامية، هو – في رأيي – نقل البندقية من كتف «نظام مبارك» إلى كتف أخرى، ويبدو أن كلاهما يشترك في «الشمولية» وحب الاستحواذ على الإعلام. حتى الآن لم يتقدم أحد لمناقشة ماذا يعني في فضائنا العربي «إعلام المجتمع» بطرق مهنية، إنها مراوحة في مصر، وقبلها أيضا تونس، وأماكن أخرى، ولا يزال الملف مفتوحا، وهو من أهم ملفات ما بعد الربيع العربي وما قبله أيضا.
الملاحظة الثانية أن هناك إشارات كثيرة سلبية حول دور قناة «الجزيرة» الفضائية في أحداث مصر، وإن كان الميل إلى وضع اللوم على طريقة تناولها للأحداث، فإنه لوم مبالغ فيه، عاد إليه المناوي أكثر من مرة، في الحقيقة هو من قبل لوم المبلغ عن الحريق، لا البحث عن الفاعل الحقيقي! حتى لو كان هناك اختلاف في اجتهاد التناول، فإنه لا يستوي الظل والعود أعوج. ولو أني أرى أن الكاتب بموضوعية يرى أن المشكلة ليست جلها ولا حتى بعضها في التناول الإعلامي لـ«الجزيرة» أو غيرها، بل هي في عقلية إدارة الأزمة التي أفاض في توصيفها، هذا التعليق ينطبق أيضا على ما ذهب إليه المؤلف من إشارة إلى «يد خارجية».. العلة داخلية أولا.
لعلي في النهاية أقول: إن ما سطرته هنا من كلمات هو رؤيتي للكتاب المهم «الأيام الأخيرة»، ولا يغني عن قراءة الكتاب المشبع بالدروس؛ فالجميع في حاجة إلى تقييم موضوعي لما حدث، ليس من أجل الحكم على الماضي، بل من أجل فهم واستشراف المستقبل، حيث انتهى دور الإقناع بالرصاص.
آخر الكلام:
في الأسبوع الماضي، قرر بعض المتعصبين قتل بائع الشاي على الناصية في الأردن بسبب ما اعتقدوا أنه تفوّه بكلمات غير لائقة على الثوابت الدينية، وبعده قتل أحد الشباب في مدينة السويس المصرية لأنه غير ذي محرم للفتاة التي كانت تسير بجانبه! إذا امتهن المتعصب القانون، حول المجتمع إلى غابة! والبشر إلى حيوانات.
الشرق الأوسط