«لقيطة إستانبول» رواية المصادفات والسحر والغيبيات
شيفرة العداء التركي ـ الأرمني
علي العائد
وضعت الخالة بانو صحن حلوى العاشوراء أمام مصطفى بعد أن واجهته بعاره الذي يحمله منذ 19 عاماً، ولم تستطع غربته في أميركا كل هذه الفترة أن تنسيه إياه. كان مصطفى يعرف أن الحلوى المزينة بحب الرمان ممزوجة بسيانيد البوتاسيوم السام.
رجال عائلة قازانجي التركية ماتوا جميعاً في سن يقارب الأربعين عاماً، وهكذا كان مصير مصطفى.
تقدم الروائية التركية إليف شافاق في روايتها «لقيطة استانبول» الصادرة بالإنكليزية عام 2006، ونحن نقرأ ترجمتها إلى العربية الصادة عن دار الجمل 2012، بترجمة خالد الجبيلي، أكثر من مجرد قصة عائلة، وأكثر من مصادفات الحياة المليئة بالميلودراما في كل زمان ومكان، فتروي ثنائية حياة عائلتين تركية وأرمنية تتقاطعان في مصائرهما بين استانبول وأميركا.
العائلة الأرمنية هاجر من تبقى منها بعد المذابح التي تعرض لها الأرمن عام 1915. ولم يبق منها سوى شوشان التي تزوجها رضا سليم قازانجي، بعد أن تعرف إليه في أحد الملاجئ، لكنها هربت مع أخيها تاركة ابنها ليفينت لعائلة قازانجي، وليفينت أنجب مصطفى آخر ذكر في العائلة.
يتقاطع مصيرا العائلتين مرة أخرى حين تتزوج مطلقة أميركية كاثوليكية من مصطفى قازانجي، بعد أن كانت متزوجة من ابن الجدة شوشان.
وتقود المصادفات حفيدة شوشان، آرمانوش ستامبوليان، للذهاب إلى تركيا خفية والنزول في ضيافة عائلة مصطفى قازانجي، ليس للتعرف إلى العائلة، وإنما للبحث عن أصول عائلتها، وأصل ما يحكى عن المذبحة.
لا تجد آرمانوش (آيمي) أثراً لمنزل عائلتها بعد كل تلك العقود، فقد قامت مكانه بناية حديثة، لكنها وجدت أصلاً لحكايات المذبحة، مرة في اعتراف الجميع بحصول قتل لكثير ممن اشتركوا في الحرب العالمية الأولى، أو للمدنيين التي دارت في أراضيهم معارك، وراح كثير من الأبرياء ضحايا لتلك الحرب، ومرة الاعتراف بقيام السلطات العثمانية بتلك المذابح، لكن من دون اعتذار من الدولة التركية العلمانية الأتاتوركية، التي قطعت صلتها بالتراث العثماني.
على كل حال، وجدت أيمي حالة من المصالحة مع أناس أتراك يعيشون مشاكلهم كاملة في تاريخ غير محدد تماماً في الرواية، حيث ينظر الكثير ممن عاشوا عصر استانبول الكوزموبوليتية بحنين إلى تعايش المسلمين واليونانيين واليهود والأرمن، ويعتبرون أن ذلك الزمن الجميل ذهب «إنها تشبه المدينة لكنها ليست كذلك. مدينة مراكب. إننا نعيش في سفينة… الحي الذي يسكن فيه أخي مكتظ بالمولدوفيين. وغداً سيذهبون. وسيأتي آخرون.. هكذا هي» (ص204).
قلب الرواية هو المسألة الأرمنية، رغم أن الجزء الأول تشغله الخالة زليخة، المرأة الجميلة غريبة الأطوار، التي تلبس دائماً تنانير قصيرة وأحذية بكعب عال رغم طولها الفارع، وتضع حلقاً في أنفها، وتملك صالوناً للوشم تديره، وهي أم عزباء لا يعرف أحد من العائلة من هو والد ابنتها آسيا؛ مع ذلك بدا أن ما حاولته إليف شافاق هو رسم بورتريه للمكان الذي سيستقطب مصائر الشخصيات في النصف الثاني من الرواية، حيث تبدأ شافاق في فك الخيوط المتشابكة للحدث/ الأحداث التي تتداخل على القارئ بشكل مربك ومثير معاً، رغم تبريرها في نهاية الرواية لهذه الغرابة بقولها «الحياة مجرد مصادفات مع أن الأمر يحتاج إلى جني كي يستوعب هذا الأمر» (ص 418).
ويصل الأمر بأرمانوش بعد بحثها عن أصل الحكاية الأرمنية التركية إلى «بعض الأرمن في الشتات لا يريدون أن يعترف الأتراك بالمجازر، فإن فعلوا ذلك، فإنهم سيسحبون البساط من تحت أقدامنا، ويسلبوننا أقوى رابطة توحدنا» (ص310). هذا ما قاله البارون باغداساريان لأرمانوش في غرفة الدردشة على الإنترنت.
ثيمة مقهى كونديرا، والأحجية وراء هذه التسمية، وغرابة أطوار رواده من المثقفين الأتراك، وشخصية رسام الكاريكاتير المدمن، تشكل محوراً آخر في الرواية، يحفر في تناقضات الشخصية التركية الحديثة، في بلد يتدثر بالعلمانية، ويعيش في قلب الشرق. فحتى الأمس القريب كان يعتبر الجيش التركي راعي العلمانية، وما عليه في حال الشك في سلوك رئيس الدولة، أو رئيس الوزراء، سوى الانقلاب على الحكم، وفي عام 1960 اكتسى الانقلاب طابعاً دموياً انتهى بإعدام رئيس الوزراء عدنان مندريس؛ إلى هذا الحد تذهب علمانية الشرق، بينما يعيد رسام الكاريكاتير المدمن الفضل في تجذر العلمانية في تركيا إلى زجاجة البيرة، في إشارة إلى ولع الأتراك بالكحول، وبخاصة البيرة.
تبقى حكايات النساء، والتنجيم بالفنجان، وقراءة الطالع بطرق مختلفة، إحدى خصائص الشرق التي وضعتها الكاتبة في قلب روايتها، بل كانت المفتاح لحل ألغاز السرد والمصادفات التي ربطت مصائر الشخصيات، حتى يشعر القارئ في بعض مواضع الرواية كأنه يشاهد فيلماً هندياً، من تلك التي تحفل بالمصادفات المكونة لخلطة الميلودراما، التي اشتهرت بها تلك الأفلام. فالخالة بانو استطاعت بعد اعتكاف لمدة أربعين يوماً في غرفتها أن تربط جنيين ليصبحا مقيمين على كتفيها، السيد مر، والسيدة حلوة، اللذين يساعدانها في معرفة طالع زبائنها، من دون أن تذكر الروائية إن كانت بانو امتهنت كشف الطالع للتكسب، أم لمجرد مساعدة المكروبين. وفي يوم، دفع الفضول بانو لأن تسأل الجني الشرير السيد مر عن سر أختها زليخة، وعن والد ابنتها آسيا، فكشف لها الجني السر، بل دخلت في ما بعد مع السيد مر في صفقة ليكشف لها حقيقة المذابح الأرمنية، مقابل إطلاقه. ومن المشهور أن الجن يعيشون مئات السنين. فأكد لها السيد مر أنه رأى الأحداث كما يرى النسر بنظره الثاقب الأحداث على الأرض وهو يطير في السماء، فقص لها الحكاية.
تلك المعرفة أدت ببانو إلى معرفة مؤرقة، فأخذت مبادرة في الإيحاء لأخيها مصطفى كي يأكل الحلوى المسمومة، وكي يرتاح من إثمه باغتصابه أخته زليخة، لكنها أحجمت عن الاعتراف لأرمانوش بأصل حكاية المذابح الأرمنية، وأن العائلتين متصلتان بالدم بعدما تزوج والدها جدة أرمانوش قبل هروبها لأميركا.
ورغم أن هذه المصادفات تحدث في الحياة، فإن سبكها في حكاية واحدة متقاطعة بهذا الشكل، يفوق حتى قدرة الفن على الإقناع أو الإمتاع، إلا إذا حاولنا تفسير الحوادث كصور رمزية.
ربما يكون ذلك حقيقياً ومطلوباً كي تقنعنا الحكاية. ويتضح اتجاه الكاتبة إلى هذا المنحى من خلال لقاء زليخة بآرام، حبيبها الأرمني.
كما أن لقاء عدوين افتراضيين بيَّن أن لقاءهما ممكن، فعلى حين ينشط أصدقاء أرمن في غرف الدردشة لوصف الأتراك كلهم بالوحشية على خلفية المذابح الأرمنية، وكذلك يذهب رأي عمات أرمانوش وتعصبهن لأرمنيتهن تجاه الأتراك، في حقد يتراكم تاريخياً، رغم ذلك اختارت أرمانوش أن تلتقي بعدوها لتعرفه، فاكتشفت زيف الخيالات التي كونتها العداوة المحض، ورأت حسنات الأتراك الذين التقتهم، كما عرفت سيئاتهم وتناقضاتهم.
كاتب وصحافي سوري. يُذكر أن الروائية تعرضت لحكم بالسجن ثلاث سنوات بعد صدور الرواية في طبعتها الإنكليزية، بتهمة «تشويه سمعة تركيا» بسبب بعض الكلمات التي وردت على لسان بعض الشخصيات الأرمنية، لكن الحكم أسقط عنها في ما بعد. أما إليف شافاق فهي روائية تركية تكتب باللغتين التركية والإنكليزية، ولدت باسم إليف بيلغين في ستراسبورغ لوالدين هما الفيلسوف نوري بيلغين، وشفق أتيمان، التي أصبحت ديبلوماسية في ما بعد، وانفصل والدها عندما كان عمرها عاماً واحداً، فربتها أمها. حصلت روايتها الأولى inhan الصوفي على جائزة رومي لأفضل عمل أدبي في تركيا عام 1998. وتتطرق روايتها الثانية Sehrin Aynaları مرايا المدينة إلى التصوف عند المسلمين واليهود في القرن السابع عشر. حصلت روايتهاMahrem النظرة العميقة على جائزة اتحاد الكتاب في تركيا عام 2000. وحققت روايتها Bit Palas قصر البرغوث أعلى مبيعات في تركيا. تبعتها رواية Med-Cezir المد والجزر التي ناقشت فيها قضايا المرأة والرجل والجنس والأدب. في عام 2006 أصدرت رواية The Bastard of Istanbul لقيطة إستانبول باللغة الإنكليزية، وحققت أعلى المبيعات في تركيا.