لماذا تناصب الحكومة العراقية العداء للحراك الشعبي في سورية؟
د. مثنى عبد الله
اذا كانت السياسة الخارجية تعرّف بأنها مجموعة الجسور التي توصل دولة ما بالعالم الخارجي، بما يمكنها من حماية مصالحها، ويعزز من فرص تطوير مناهجها التنموية في كافة مناحي الحياة من خلال الشراكة مع الاخرين في المحيط والعالم، ويجعلها أكثر طمأنينة على سور أمنها القومي. واذا كان هذا المفهوم قد ارتبط بالتحديد النظري والعملي لمدارس سياسية معروفة كالمدرسة المثالية الاخلاقية والمدرسة الواقعية ومدارس أخرى أفرزتها نظريات العمل الماركسية والرادكالية وغيرهما، فان ما يبعث على العجب حقا أن تنهج السياسة الخارجية العراقية منهجا هو أبعد ما يكون عن حماية المصالح الوطنية والقومية للعراق، كما أنه لا يتطابق اطلاقا مع أي فهم للعلاقات الخارجية التي حددتها تلك المدارس السياسية آنفة الذكر. بل ان الطرق التي أصبح ينتهجها صاحب القرار السياسي العراقي في التعامل مع الاخرين، باتت تشير وبوضوح تام الى التحول من المحيط القومي الى المحيط الطائفي، من خلال خلق أطر وروابط طائفية يتم في ضوئها تحديد مدى الاندفاع أو الانكماش مع هذه الدولة أو تلك. وهي سابقة خطيرة لم تعرفها السياسة الخارجية العراقية، منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى العام 2003، خاصة أن العراق دولة عربية محورية في الوطن العربي فرض عليها الموقع الجغرافي أن تكون حدودا شرقية للامة، مما يتطلب سياسة قومية عربية واضحة المعالم والتوجهات، كي لا تتداخل الخنادق مع القوميات الاجنبية الاخرى الرابضة على حدوده، والمنتظرة بفارغ الصبر تخليه عن دوره القومي الطبيعي والتاريخي والاستراتيجي، كي تنتقل الى عمقه وتقاتل الاخرين على أرضه أو تصدر ثورتها الى أبناء جلدته.
ان اعتماد مفهوم (المظلومية) الطائفية كوسيلة من وسائل تحقيق السياسة الخارجية العراقية، بات يسيء تماما الى المعنى الحضاري لمفهوم العلاقات الدولية بين الدول، ففي الوقت الذي تتحرك فيه الدول لتوسيع علاقاتها ضمن المنظومة الدولية في أطر متعددة التنوع، بعيدا عن التخندقات الصغرى بما يضمن مدى أوسع لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية والثقافية والامنية، نجد أن السياسة العراقية الخارجية قد أدخلت نفسها في مأزق سياسي ودبلوماسي ليس من السهولة الخروج منه، أو ايجاد المبررات التي يمكن اعتمادها كوسيلة اقناع للاخرين في ما ذهبت اليه. فلقد كشفت الاحداث الاخيرة في البحرين عن عورات الاحزاب الطائفية من منظومة الاسلام السياسي الشيعي، عندما شنت حملة اعلامية وسياسية خرجت أغلبها عن نطاق العرف السياسي واللياقة الدبلوماسية، وأصبحت ضمن مفهوم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، لها الحق في ممارسة سيادتها على أقليمها المعترف به دوليا بما لا يتعارض مع القوانين والاعراف الدولية، حيث صنفت الاحداث من قبل الكتل السياسية وزعمائها، على أنها صراع بين الاكثرية الطائفية السكانية وزعامة سياسية من طائفة أخرى اعتبروها أقلية، وأن الانحياز لتلك الطائفة واجب شرعي وسياسي، لانها لازالت تعاني من المظلومية التاريخية في عدم استلامها للسلطة السياسية، كما يدعون، وتم تعطيل عمل البرلمان وخرجت تظاهرات ضد النظام السياسي البحريني، وطالب الكثير باغلاق السفارتين البحرينية والاماراتية في بغداد، بعد أن استقتلوا في ايجاد تلك البعثات الدبلوماسية على الارض العراقية، وبذلك كان تدخلهم السافر في تقسيم المجتمع البحريني وفق المنطق السياسي الطائفي الذي يؤمنون به، وتحديد من له الحق في الحكم ومن ليس له الحق في ذلك، انما هو تعد واضح على الشرعية السياسية للنظام الحاكم في البحرين، وخروج عن القيم التي ضمنها ميثاق الامم المتحدة في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، بغض النظر عن رأينا في ذلك النظام. وعلى النقيض من هذا الموقف نجد أن الحكومة العراقية وكتلها السياسية المنتمية الى أحزاب الاسلام السياسي الشيعي، تتخذ موقفا مغايرا تماما في مسألة الحالة السياسية التي تشهدها الساحة السورية، حيث تنحو منحى التأييد الظاهر والباطن للزعامة فيها، وتناصب العداء للحراك التظاهري الجاري هنالك وتنظر اليه بعين الشك والريبة، لان التفسير الشرعي لهذه الحالة قائم على أساس أن الحاكم قد تحققت فيه صفة أحقية الحكم بعد أن خرج من دهليز المظلومية التاريخية وتسلم السلطة السياسية، وبالتالي فان الخروج عليه غير جائز شرعا لان الخارجين عليه انما هم يريدون أن يعيدوا عقارب الساعة الى الوراء، على الرغم من أن النظام السياسي الحاكم في سورية مصنف في خانة الانظمة العلمانية، ويتولى الحكم فيه حزب البعث العربي الاشتراكي، الموسوم في أدبياتهم بانه الد أعدائهم التاريخيين. لكن يبدو أن صاحب القرار في ايران غفر كل هذه المثالب، بعد أن أفتى الولي الفقيه بشرعية التعامل معه لانه من طائفة المظلومية، ولان المخطط الاستراتيجي الايراني قائم على أساس الربط بين الساحتين الايرانية والسورية بامتدادها اللبناني، بعد تجسير المسافة بينهما بالحيز العراقي.
ان المواقف والتحركات السياسية العراقية بما يخص العلاقات مع الدول العربية، قد شابها الكثير من السلبيات منذ الغزو في العام 2003 وحتى اليوم، لان الكتل السياسية أشهرت حالة من العداء غير المبرر على كل ما هو عربي في هذا القطر. واذا كانت بعض الاطراف قد اتجهت نحو تعزيز علاقاتها ببعض الدول العربية، وسعت الى اقامة مؤتمرالقمة العربي في بغداد، فان الهدف من ذلك لم يكن نتيجة ايمان صادق بالانتماء العربي، بل هو سعي محموم لشراء شرعية للنظام السياسي اللقيط، واظهار حالة من التعافي الكاذب للوضع العام فيه، والتمويه على استمرار احتلاله. وقد اكتشفت دول مجلس التعاون الخليجي التي خضعت لضغوط أمريكية كبيرة لحضور القمة القادمة في بغداد، اكتشفت هذا الخداع والتضليل السياسي من قبل الاطراف الطائفية العراقية، ومدى ارتباط السياسية الخارجية العراقية باللاءات السياسية الايرانية، وبما تقرره في ضوء مصالحها في المنطقة العربية، وبذلك أصبح مصير القمة التي أنفق عليها ما يزيد عن 450 مليون دولار في مهب الريح، في وقت كان يمكن لهذه الملايين أن تذهب الى حقول خدمية تعزز من انسانية المواطن العراقي، وتنقذه من الفاقة التي يعانيها في كافة مناحي حياته اليومية، خاصة أن مؤسسة القمة العربية لم تستطع الارتفاع بأدائها الى مستوى المسؤولية القومية، بل هي كانت عامل تشتيت كبير للجهد العربي على مدى سنوات طويلة، بعد أن تخلت عن الكثير من اللاءات المصيرية التي وضعتها في ميثاق الجامعة العربية، لاعتبارات لا تمت الى المصلحة العربية بصلة. وكان المثال الابرز الذي مازال طريا في الذاكرة وأمام العين هو موقف القمم العربية من القضية العراقية، والتأييد الظاهر والمستتر لمسألة غزو واحتلال العراق، والتجاوز على الثوابت من خلال مد اليد للتعامل مع حكومة نصبها المحتل، والعزوف عن تقديم أي دعم لشعب العراق لمواصلة مقاومته بكافة أشكالها.
ان السياسات الخارجية للدول الرصينة لا تؤسس على اساس مصالح ضيقة طائفية أو اثنية، أو ترسم لمراعاة أجندات خارجية ترتبط بها هذه الكتلة السياسية أو ذاك الحزب، ولن تقوم على ركائز رد الجميل لدولة مجاورة دعمت في وقت ما أشخاصا محددين للوصول الى السلطة، بل هي ترسم وفق مصالح استراتيجية واقتصادية، تخص الدولة في اطارها العام والمصلحة الجمعية لمواطني تلك الدولة بغض النظر عن الانتماءات الصغرى، كما يتطلب تحديد سلم أولويات المصالح القومية قبل أي شيء آخر. فما هي المصالح الاستراتيجية المتحققة للعراق من جراء تحوله الى أداء دور شرطي طائفي يفرض على هذه الدولة أو تلك شروط التعامل مع أطياف نسيجها الاجتماعي، ويحدد من هي الطائفة التي لها الحق في الحكم ومن هي التي يجب أن تكون محكومة؟ وما هي المنافع التي ستعود على العراق من جراء تحوله الى مجرد ذيل في جسد السياسة الخارجية الايرانية؟
‘ باحث سياسي عراقي