لماذا جمعة «لا حوار» في سوريا؟
وائل مرزا
يخطئ من يقرأ في أحداث ومظاهرات جمعة «لا حوار» الماضية أن الثورة السورية وأهلها ينطلقون في موقفهم المذكور من «العناد»، أو أن هناك نوعاً من «العدميّة» التي تحكمُ تفكيرهم وحركتهم. فحقيقة الأمر أكبرُ وأدقُّ بكثير من أن تُعالج بمثل هذه القراءة المتعسّفة.
يجب أن نلاحظ أولاً أن هذا الشعار رُفع بعد أكثر من خمسة عشر أسبوعاً من التظاهرات والاحتجاجات. وفي هذا الأمر بحدّ ذاته دلالة يجب أن تثير الانتباه والتفكير، لكن القراءة السياسية الخاطئة للنظام لم تسمح له بمثل ذلك الانتباه. فالتأخير والمماطلة في تحقيق مطالب مشروعة، وتشكيل اللجان في إثر اللجان، ومثل ذلك من الممارسات تُبيّن للجميع افتقاد الجديّة المطلوبة لإجراء أي حوار، وتُفرّغ الكلمة من أي مضمونٍ حقيقيٍ لها، بل وتُظهر أن المسألة تنحصر في محاولة شراء الوقت وممارسة مناورات سياسية تقليدية، ربما كانت تنفع سابقاً، لكنها تأتي الآن خارج سياق الصورة الراهنة بأكملها. هكذا يُصبح افتقاد الإبداع في الفكر السياسي وعدم القدرة على القيام بمبادرات مطلوبةٍ بإلحاح في مثل هذا الوضع سبباً طبيعياً لزيادة أوار الثورة وتصاعد المطالب إلى سقفٍ لا تنفع معه التنازلات المتأخرة على الدوام.
المشكلة أن يحدث هذا في منظومةٍ سياسية يعرف الجميع طبيعتها وطريقة عملها على مدى عقود. فالقاصي والداني يعرفان أن «الإصلاحات» التي يجري الحديث عنها في سوريا على مدى الأشهر الماضية لا تحتاج إلى كل هذا التسويف والحديث عن تشكيل لجانٍ تقوم بمناقشتها والحوار فيها. هنا تنقلب القضية نوعاً من السفسطة و «التذاكي» على شعبٍ خرج من القمقم واستوعب طبيعة العالم، وتُصبح مجرد محاولةٍ لاستخدام أدوات سياسية بالية في زمنٍ تغيرت فيه المعادلات والحسابات بشكلٍ جذري؛ إذ لا يحتاج الأمر في سوريا لتنفيذ إصلاحاتٍ يعرف الجميع ماهيّتها سوى إلى جملة مراسيم جمهورية، يمكن أن تصدر في يومٍ واحد بحيث يبدأ تنفيذها في اليوم التالي، وربما في نفس اليوم.
لا يمكن لهذا النوع من الاستخفاف أن يوجد حل يحفظ العباد والبلاد في بلدٍ مثل سوريا. ويَظهر حجم المشكلة بشكلٍ أوضح حين تكون تلك الممارسة مصحوبةً بممارسةٍ أخرى تنسف كل دعاوى الإصلاح من أساسها؛ إذ ما معنى أن يتكرر الحديث عن الإصلاح من قبل الإعلام الرسمي والمسؤولين من جهة، وأحياناً إلى حدّ إصابة الناس بالملل، وأن تكون الدبابات في شوارع المدن والمناطق السورية المختلفة من جهةٍ أخرى. وأن يتسبّبَ وجودها ووجود «الشبّيحة» ورجال الأمن معها في استشهاد مئات الأبرياء من أبناء الشعب السوري الأعزل؟!
كيف يستقيم هذا المنطق؟ وبأي طريقة يمكن أن يُصدّق الناس دعوى الإصلاح وهم يرون دبابات ومدرعات تحاصر مدنهم وقراهم، وتقطع عنهم الماء والكهرباء، تمهيداً لاقتحامها كما يقتحم جيشٌ مدينةً من مدن الأعداء. هذا هو عين المنطق المتناقض، وهذا ليس منطقاً نظرياً يتناقش فيه الفلاسفة بنوعٍ من الترف، وإنما منطقٌ عملي يعيش الناس آثاره العملية على أرض الواقع.
المفارقة الأكبر تتمثل في حقيقة أن الشعب السوري يُمارس الحوار بأكثر من طريقة؛ إذ من الممكن النظر إلى موقفه حين يُقرر مواجهة من يريد قتله بطريقةٍ سلمية وبصدور عارية على أنها طريقته في الحوار مع النظام في هذه المرحلة. وهذه درجةٌ في النّبل والسمو تُذكّرُ المرء بقصة قابيل وهابيل التي طرحها القرآن الكريم حين قال الثاني للأول {لئن بسطتَ إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلك}. وعندما يقرر الشعب السوري أن يقوم بهذه الممارسة، ويصبر أسابيع طويلة على آلة القتل والفتك، ويُصرّ على ألا يواجه القوة بالقوة والسلاح بالسلاح، فإنه في حقيقة الأمر يمارس نوعاً من الحوار يليق بحضارته وثقافته وتاريخه وانتمائه.
وإذا تحدثنا عن الحوار بمفهومه الكبير والجامع، فإن مظاهر الوحدة الوطنية والتضامن الاجتماعي بين مختلف مكونات الشعب السوري في المدن والقرى والمناطق التي يعيش فيها هي نوعٌ آخر من أنواع الحوار. وهذا حوارٌ اجتماعي وطني داخلي حقيقي لم يشهد الشعب السوري ولم تشهد سوريا مثله على مدى عقود طويلة….
إن مفهوم الحوار لا يتمثل فقط في أن يجلس طرفٌ للحديث مع طرفٍ آخر، فهذا اختزالٌ لمعنى الحوار لا يصحُّ تقزيمه إليه إذا أردنا أن نكون جدّيين، وإذا كان لمسألة الحوار أن تكون شموليةً وذات تأثيرٍ حقيقي في المجتمع. فالحوار في أي أمةٍ أو دولة لا يكون لمجرّد الحوار، وهو ليس غايةً بحدّ ذاته، وإنما يُعتبر وسيلةً لتحقيق درجةٍ أعلى وأكبر من الوحدة الوطنية في الأمة والدولة. وحين يشهد المجتمع السوري في الفترة الماضية ذلك المعنى الراقي من خلال مظاهرات التضامن المُعبّرة بين مكوّناته المختلفة، فإنه يُحقق عملياً ما عجز النظام عن تحقيقه على مدى سنوات وعهود، ويخلق نوعاً من اللحمة الاجتماعية والثقافية يمكن أن يُنظر إليها على أنها عقدٌ اجتماعي جديدٌ لسوريا جديدة. لا نتحدث هنا عن سلمٍ اجتماعي فرَضهُ النظام بقوة الأمن وتحت تهديد قانون الطوارئ، وإنما عن درجةٍ عاليةٍ من الأخوّة الوطنية الاجتماعية التي ظهرت تلقائياً مع بداية الثورة وتجذّرت تدريجياً مع استمرارها.
بهذه الطريقة يمكن أن نفهم المعاني الكبيرة الكامنة وراء جمعة «لا حوار» التي جاءت إفرازاً آخر لعبقريةٍ عفوية تُولّدها الثورة السورية بشكلٍ متزايد. وإذا أصرَّ البعض على اختزال هذا الحدث في قراءات قاصرة ومجتزأة تُركّز على العناد والعدميّة كأسباب لذلك الشعار، فإن هذا يُثبت أن هؤلاء لا يعرفون الشعب السوري، وأنهم عاجزون، قبل ذلك وبعده، عن قراءة مثل هذه الظواهر الاجتماعية وفهمها بالشكل المطلوب.
العرب القطرية