لماذا لا تدوّل الأزمة السورية؟
هوشنك بروكا
“التدويل هو الحلّ”..هذا هو شعار بعض المعارضة السورية(خصوصاً تلك الممثلة بمعارضة الخارج التي تقودها المجلس الوطني السوري)، فضلاً عن أنه شعارٌ رفعه أهل الشارع السوري المنتفض، في أكثر من جمعةٍ.
بعد “خيبة الأمل” العربية الأخيرة، وفشل عرب الجامعة في تحقيق أيّ تقدم يُذكر على مستوى الأزمة السورية، وعودة فريق المراقبين العرب برئاسة الفريق محمد أحمد مصطفى الدابي من سوريا، بمشاكل أكثر وحلول أقل؛ بعد كلّ هذا الفشل العربي، الذي زاد حتى الآن من طين المشكلة السورية بلةً، وبلغ القتل المنظم في سوريا، من جهة أجهزة النظام الأمنية وكتائب جيشه وشبيحته، في ظل المبادرات والبروتوكولات العربية ومهلها الكثيرة، أعلى مستوياته، أصبح التدويل والحال “شرّاً لا بدّ منه”، علّ وعسى أن يخلّص العالم و”مجلس أمنه” الشعب السوري الذي يتعرّض منذ أكثر من عشرة أشهرٍ، لأبشع صنوف القتل والتعذيب والإعتقال والإذلال، من واحدةٍ من أشرس وأعتى الديكتاتوريات في المنطقة، لا بل في العالم، والتي تجثم على صدور السوريين منذ أكثر من أربعة عقودٍ من الزمان.
هذا الفشل العربي في تحقيق أية نتائج عملية على الأرض، وعجز الجامعة العربية حتى الآن، عن وضع أيّ حدّ لأعمال القمع الدامي، وتحقيق أيّ تقدم نحو ولو بعض حلٍ للأزمة السورية، دفع بعض أقطاب المعارضة السورية، وعلى رأسها المجلس الوطني السوري، إلى التوجه إلى القاهرة لطلب نقل الملف السوري من الجامعة العربية إلى مجلس الأمن.
لا شك أنّ التدويل فيما لو حصل، كان من الممكن له أن يوفّر الكثير من الدم السوري المسفوك، ويسدّ الطريق أمام زحف كتائب الأسد على المدن، التي تقتل فيها من تشاء وتعتقل وتعذّب وتُهين وتسقط كرامة من تشاء كيفما تشاء.
إذن، مطلب التدويل، الذي ما كان، إلى وقتٍ قريب، مطروحاً في ذهن أيٍ من المعارضات السورية، فيه الآن من الضرورة، أكثر من أن يكون فيه الحرية.
التدويل المرفوع سورياً كشعار أخير، اليوم، هو تدويل أكثر من مطلوب، ليس حباً بالتدخل الخارجي في شئون الداخل السوري، كما قد يُظن أو يفسره “الممانعون”، وإنما كرهاً بالنظام وخوفاً من سلوكه القاتل، للعبور إلى بعض خلاصٍ من أتون حربه، وآلة قتله، التي لا ترحم، وذلك عملاً بقاعدة: “أهون الشرّين”، أو “أقل الضررين”، أو “أخف المفسدتين”!
التدويل، إذن، ههنا، هو ليس بذاك “الحل المثالي” ولا “الإختياري”، بقدر ما هو “حلٌّ إجباريّ” أو “شرٌ أهون لا بدّ منه”.
ولكنّ السؤال الكثير الذي يطرح نفسه ههنا، هو،
لماذا بقي الملف السوري،بعدد مرور أكثر من 10 شهراً، رغماً عن رغبة الكثير من السوريين، أسير أروقة الجامعة العربية، بعيداً عن لعبة الدول، دون أن ينتقل مباشرةً إلى مجلس الأمن، كما طلبت بعض المعارضة السورية، ويطلب الكثيرون من أهل الشارع السوري المنتفض منذ منتصف آذار الماضي؟
لماذا لم تعترف الجامعة العربية ب”فشلها”، ولم تطالب بتدخل دولي مباشر، في هذا المسعى، رغم خيبة الأمل التي أصابت كلّ أعضاءها، كما قال الأمين العام نبيل العربي، في مؤتمره الصحفي المشترك مع رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم، أمس؟
لماذا لم تكررّ الجامعة العربية في مبادرتها، “السيناريو الليبي” في سوريا، كما تريد بعض أطراف المعارضة، وفضلت عوضاً عنه “السيناريو اليمني”، وذلك عبر تقديمها ل”خارطة طريق” جديدة، من شأنها أن “تخرج” سوريا من أزمتها، وتحقق انتقالاً سلمياً وسلساً للسلطة، من خلال التأسيس “لحوار سياسي جاد بين النظام وكافة أطياف المعارضة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، تمهيداً لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية ديمقراطية تحت إشراف عربي ودولي”، حسبما أعلنه وزراء الخارجية العرب، في ختام اجتماعهم في القاهرة، أمس؟
ثم هل الجامعة العربية، هي السبب الأساس، بالفعل، وراء عدم تدويل الأزمة السورية، وعدم تدخل مجلس الأمن، بالتالي، في شئونها، كما يذهب الكثيرون من “أهل التدويل” من المعارضات السورية؟
المعروف عن لعبة الأمم في مجلس الأمن، هو أنّ لا تدويل لأية قضيةٍ كانت في العالم من دون ثمن، أيّ لا تدويل بدون مقابل. ذات الشيء، أو ذات المذهب النفعي يمكن سحبه أيضاً، على الأزمة السورية. فقضية تدويل هذا الملف، ليست قضيةً “أخلاق” أو “حقوق إنسان”، أو “مجازر جماعية”، كما يعوّل على ذلك الكثيرون من أهل المعارضات السورية، ليل نهار.
كلّ ما نسمعه من هؤلاء المعارضين، في المحافل العربية والدولية، هو أنّ “الشعب السوري جزء من المجتمع الدولي، ووقع على كلّ صكوكه الأممية، لذلك له الحق في مطالبة مجلس الأمن بحمايته، وعلى العالم أن يتحمّل مسؤولياته الأخلاقية تجاه السوريين الذين يقتلون بدمٍ بارد على أيدي النظام، وعلى مرأى ومسمع كلّ العالمين”!
لكنّ السؤال الأهم، ههنا، هو: أين هي السياسة ولعبة المصالح وحسابات الربح والخسارة من هكذا كلام في “إنشاء” الأخلاق؟
آخر ما يمكن أن يفكّر به القائمون على شئون العالم في مجلس الأمن وحواليه، هو “الأخلاق” وتوابعه. هكذا يخبرنا تاريخ العالم، وتاريخ “مجلس أمنه”.
الملّف السوري، سقط حتى الآن عن ذاكرة التدويل، ليس لأن العرب وجامعتهم لا يريدون تدويله، أو يريدون القفز عليه، وإنما لأن الأزمة السورية نفسها، هي في حقيقتها صعبة التدويل، لا بل وأكثر من صعبة، فضلاً عن أنّ “المدوّلين” أنفسهم لا يزالون منشقين على أنفسهم، وليس لديهم موقف موحّد مما يجري في سوريا، أو من قادمها، الذي قد يسقط فيه السوريون، قبل أن يسقط فيه بشار الأسد نفسه، ومن حوله من أركان نظامه.
ليس سراً، أنّ العالم لا يزال يخاف من النظام السوري وسلوكه الدموي، لأكثر من سببٍ وسبب، وذلك لجهة قدرته على اللعب بأكثر من ورقة داخلية وخارجية، الأمر الذي قد يؤدي إلى زعزعة أمن واستقرار المنطقة، وسقوط البلاد في دوامة عنفٍ وعنف مضاد، قد تلقي بظلالها على أكثر من ملف إقليمي، وأكثر من دولة جارة، لا سيما لبنان والعراق وتركيا، هذا فضلاً عن أنّ أيّ سقوطٍ كهذا في المجهول السوري، سيكون له أبلغ الأثر على أمن واستقرار إسرائيل “العدوّة المفترضة”، التي أمّن لها النظام السوريّ حدودها الشمالية، طيلة أربعة عقودٍ، حيث لم يطلق فيها الجيش السوري الذي يقتل الآن في شعبه، رصاصة واحدة باتجاهها.
الأسد قالها أكثر مرّةٍ، بأن سوريا هي “الفالق الذي إذا لعبتم به تتسببون بزلزال”، وهدد العالم ب”أفغانستان أخرى في حال تدخل الغرب بشئون بلاده”. كلام الأسد واضح. أما سلوكه الأمني والعسكري، الذي يتعامل به مع شعبه، طيلة أكثر من 10 أشهر، ويذهب في هذا السلوك الدموي، عبر صناعته للقتل وسفكه للدم البريء، إلى أبعد مداه، فهو ليس إلا ترجمةً حرفية لما قاله ولا يزال يقول.
العالم يخاف “سوريا الأسد”، لأنها لا تزال تستطيع ضرب الطائفة في سوريا بالطائفة، والمعارضة بالمعارضة، والشعب بالشعب، ولبنان بلنبنان، والعراق بالعراق، والعرب بالعجم(الأكراد هنا مثالاً)، لا بل حتى الكرد بالكرد، وأكراد تركيا بأتراكها.
العالم يخاف نظام الأسد، لأنه شرطي إيران في المنطقة العربية، لضرب العرب بالعرب أيضاً.
العالم يخاف النظام السوري، كلب إيران الأمين، لأنه لا يزال قادراً على جرّ البلاد والمنطقة إلى أكثر من مجهول.
العالم يخاف “سوريا الأسد” المعلومة، التي لا تزال قويةً ومتماسكة، لأن “سوريا المعارضة”، المتعارضة، المنشقة على نفسها، لا تزال تسبح في أكثر من خطابٍ مبنيٍّ للمجهول.
العالم يخاف مجهول الأسد، لأنه لا معلوم موثوق به، من معارضيه.
العالم، إذن، تحت قيادة مجلس أمنه، بما فيها الدول “غير الصديقة” للنظام السوري، مثل أميركا وبريطانيا وفرنسا، ليس مستعداً حتى اللحظة التدخل في سوريا، تحت البند السابع، أو الدخول معها في “مواجهة عسكرية”، وذلك لأكثر من سبب سوري، وأقليمي، ودولي.
الواضح، هو أنّ أميركا وفرنسا المقبلتان على انتخابات رئاسية، ليستا مستعدتين التضحية ب”داخليهما” لأجل خارجٍ(سوري) غير مضمون، لا يزال مستقبله مجهولاً.
أما تركيا، الجارة السورية، التي كانت في طليعة “المدوّلين” المهندسين لإنشاء المعارضات السورية المفصلة على مقاسها، فهي الأخرى ما عادت تركيا نفسها التي كانت تسمي الأسد ب”قاتل شعبه”، وتصرّح بمناسبة وبدونها، بأنّ ليس للأسد إلا الرحيل اليوم قبل الغد.
في المقابل لا ننسى موقف إيران، الذي كان ولا يزال، فيه من التحدي، ما يكفي لمواجهة كلّ العالم، لأجل إنقاذ نظام الأسد، لأنها ترى في انقاذه، انقاذاً لسفينتها الشيعية، من الغرق في البحر السني المتلاطم.
ربما من هذا الباب، نستطيع أن نفهم خفوت حدة لهجة الأميركيين والأوروبيين والأتراك، تجاه القضية السورية، لأنها قضية أكبر من سوريا بكثير.
العالم ب”مجلس أمنه”، خصوصاً في ظلّ مطرقة الفيتو الروسي والصيني، ليس مستعداً حتى الآن، الدخول في مواجهة عسكرية مع النظام السوري، على غرار ما جرى في ليبيا.
هذا الموقف، جاء ضمنياً أمس على لسان رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم أيضاً، الذي قال ما معناه: “لسنا نحن في الجامعة العربية من يمنع مجلس الأمن بالتدخل في الأزمة السورية، وإنما هو لا يريد ذلك، ولو أراد ذلك فعلاً، لكان قد فعل”.
وهو الأمر الذي يمكن أن يفسّر سبب تمسك الجامعة العربية بمبادرتها، والحؤول دون فرط عقدها، وتطويرها إلى أخرى، تشبه إلى حدٍّ كبير مبادرة دول مجلس التعاون الخليجي، التي وقعت عليها كلّ الأطراف اليمنية، والتي توّجت أمس برحيل الرئيس علي عبدالله صالح عن السلطة، مطالباً شعبه، بعد حوالي سنةٍ من التأخير، بالصفح عنه، خلال فترة حكمه التي دامت 33 عاماً.
لا أظن أنّ يكون في مقدور الجامعة العربية، وهي جامعة دول وأنظمة قبل كلّ شيء، أن تفعل لسوريا، أكثر مما تفعله الآن. فالفرق بين “إرادة الفعل” و”القدرة على الفعل”، كبير جداً. “المبادرة المعدّلة”، التي قدمتها الجامعة العربية أمس، كوسيط بين جميع الأطراف، للدفع بالملف السوري سلمياً، على غرار ما جرى في اليمن، هو أقصى ما يمكن أن تفعله الآن، ليس لأنه الحلّ الأمثل لوقف شلال الدم السوري، ومسلسل القتل اليومي، بحق المدنيين العزّل، وإنما لأن “الجود هو في الموجود”، فالعين بصيرة واليد قصيرة، ولأن ليس للسوريين، كما أراد النظام لهم أن يكونوا، إلا القتل(يا قاتل يا مقتول)، خصوصاً وأنّ العالم ومجلس أمنه، لم يفكّر بعد، حتى اللحظة، بتدويل الأزمة السورية، أو استخدام القوة مع هذا النظام الأكثر من قاتل.
العالم كان يفكر في بداية الأزمة السورية، بأنّ طريق إضعاف إيران النووية، سيمرّ عبر إسقاط نظام الأسد، لكن الأمر الآن لا يبدو كذلك. تدخل إيران في سوريا، وتعاطيها العلني مع المشكلة السورية، على أنها مشكلة إيرانية أكثر من أن تكون مشكلةً سورية، وسعيها الحثيث لتقديم كلّ أشكال الدعم السياسي والمالي واللوجستي والعسكري والأمني والإستخباراتي للنظام من أجل إنقاذه، أثبت للعالم أجمع، بأن أية مواجهة مع سوريا، ستكون في المحصلة النهائية مواجهة مع إيران وجيوبها المسلحة من لبنان إلى العراق، ما يعني دخول المنطقة برمتها، في حرب طائفية طاحنة، لا طائل من ورائها.
العالم، ومجلس أمنه ليس مستعداً الآن لتدويل الأزمة السورية، والدخول في مواجهة عسكرية مع سوريا، التي هي في المحصلة إيران وما يتبعها من هلال شيعي.
الأرجح، هو أنّ العالم اختار مسلك العقوبات الإقتصادية على كلٍّ من إيران وسوريا، كطريقٍ أسهل وأقل تكلفةً ومغامرةً، لإسقاط النظامين من الداخل.
اتفاق الإتحاد الأوروبي اليوم على فرض حظرٍ تدريجي للنفط الإيراني(تصدر إيران منه حوالي 20% إلى دول الإتحاد الأوروبي)، وعقوبات على البنك المركزي الإيراني، إضافةً إلى فرض عقوبات جديدة على سوريا تشمل 22 من أعضاء الأجهزة الأمنية وثماني منظمات، هو خطوة أخرى كبيرة في هذا الإتجاه.
ليس هناك ما يوحي بقرب أيّ تدخل دولي في سوريا بالقوة، لأنّ العالم اختار على ما يبدو، هذه المرّة ركوب الإقتصاد لإسقاط السياسة، في هذا البلد المبتلي بديكتاتوريةٍ من طينةٍ نادرة، مستعدة أن تمحي كلّ سوريا، كي تبقى هي.
ولكن يبقى السؤال:
ترى كم سيدفع السوريون من دمهم، حتى يهزم اقتصاد العالم سياسة الأسد؟
كم ستقتل سوريا من سوريا، والطائفة من الطائفة، وكم سيقتل الجيش من الجيش، والحزب من الحزب، والأهل من الأهل، حتى يهزم الشعب الديكتاتور؟
أسئلةٌ أتركها برسم العالم!
هوشنك بروكا
ايلاف