لماذا لن أشارك في اللقاء التشاوري؟
ميشيل كيلو
ربما كنت أول من طالب ببيئة تفاوضية صحية تتيح للسوريين حوارا معمقا يمكنهم من مبارحة مأزقهم الراهن، الذي أعتبره الأكثر تعقيدا وخطورة وعمقا على مر تاريخهم الحديث. حدث ذلك في لقاءات جمعتني مع مسؤولين مختلفين، سياسيين وحزبيين، حدثتهم خلالها عن نظرتي إلى الأزمة، وركزت على النقاط التالية:
1 ـ فرادة الأزمة، التي لا تشبه أية أزمة سبقــتها، بما أنــها أزمة سلطة ونظام ودولة ومجتمع في آن معا، تغطي سائر حقول ومجالات الحياة العامة والخاصة للمسؤولين والمواطنين العاديـين، مع أن الأولين لم يفهموها بعد بصفتها أزمة، ويعتبرها مؤامرة خارجية / داخلية تدعمها أوساط شعبية أوهموها أنها ثورة من أجل الحــرية. ومع أن طريقة الفهم الرسمية هذه تشكل جزءا تكوينيا من الأزمة، وعقـبة رئيسة تحول دون التصدي لها والتوجه الجدي إلى التخلص من أسبابها، فإن تحرر سوريا من الأزمة يتطلب الأخذ بأفكار وأساليب تتفق مع فرادتها وشمولها، تتكفل بإنهائها لصالح الدولة والمجتمع والمواطن، وكذلك السلطة، التي لا بد ان تفهم الإشارات والدلالات الخطيرة لما يجري، وتظهر الاستعداد الكافي، الذي لا غنى عنه ولا نجاح بدونه، من أجل القيام بخطوات تستطيع إخراج سوريا منها، وجوهرها الرئيس، وربما الوحيد.
2ـ ان السلطة هي التي تسببت بوقوعها، من ألفها إلى يائها، وهي التي يجب أن تقوم بالدور الرئيس في حلها، والتي ستقبل أن تدفع ثمن الحل هذه المرة، على النقيض مما كان يجري في المرات السابقة، حين كان المجتمع هو الجهة التي تجبر على الدفع.
إذا كانت السلطة على استعداد لدفــع ثمن أخطاء ترتبت على خياراتها وأخطائها، بعقلانية وواقعية، فإنها ستكون على استعداد أيضا لعقد تسوية تاريخية جديدة مع مجتمعها، تضع حدا للتجربة التي بدأت عام 1963، وانتهت إلى نتائج مأساوية على كل صعيد وفي كل ميدان، فيقبل السوريون دورها ومكانتها ضمن نظام انتقالي ـ قبوله هو الثمن المعني ـ لا يقصي أحدا ولا يكون على حساب أحد، فيه مصلحة الجميع، وطي صفحة ما حدث خلال نصف القرن الماضي. هذا النظام الانتقالي، الذي ستقبله السلطة كي يتوفر مخرج من الأزمة، هو الحل الأمثل لوضع البلاد ووضعها، وهو ليس تضحية تقدمها على مذبح الوطن، بعد ما تعرض له من مشكلات وإفساد وقهر على يديها، بل مكسب ومغنم كبير لها، لأنه سيبقي على وجودها في النسيج السياسي الوطني، وسيمنحها فرصة مفتوحة للقيام بتفاعل من نمط مغاير مع مجتمعها يمكن أن يتيح لها لعب دور قيادي في المستقبل أيضا، إن هي عرفت كيف تخطب ود الشعب وتكسب ثقته في نظام تمثيلي نيابي تعددي .
3- إن طريقة معالجة أخطر أزمة سياسية تتم بوسائل وخيارات ما دون سياسية/ ما تحت أمنية، وسائل محض قمعية لن تأتي بأي انتصار، فإن حدث وتخلصت السلطة من الأزمة عبر قمع قطاعات هائلة ومتزايدة الاتساع من مجتمعها، خرج هو ـ المجتمع ـ منها مكسرا، وخرجت هي ـ السلطة ـ مهشمة محطمة بدورها، وقد فصلها بحر من الدم عن شعبها وفقدت شرعيتها، وما كان يشدها إليه من أواصر وعلاقات ومصالح موروثة، واللغة المشتركة لضرورة للتفاعل الوطني، الذي لا تنمو حياة عامة بدونه أو خارجه، ناهيك عن وضع السلطة الداخلي والعربي والدولي، وتهافت خطابها حول دورها الذي يستند إلى وحدة وطنية راسخة … الخ.
هذا الحل الأمني وما يلازمه من تمزيق للنسيج المجتمعي قد يستمر لعقود كثيرة، ويقوض الأساس الذي تنهض عليه سياسات وقدرات البلاد، لم يكن أفضل حل للأزمة، خاصة إن كان هناك بالفعل مؤامرة خارجية أو داخلية. ولعله لم يعد سرا أنه لن يحقق أغراضه، بالنظر إلى اتساع رقعة الاحتجاج، وكثرة المشاركين فيه، وانتشاره الجغرافي الذي يغطي معظم أراضي البلاد، وعجز الخيار القمعي عن التصدي لمشكلات من طبيعة مجتمعية وسياسية تتصل ببنية الدولة والمجتمع والسلطة، والعلاقات المتشابكة والمعقدة، المعنوية والرمزية الطابع في حالات كثيرة، القائمة بينها.
هكذا قلت في أحاديثي مع من التقـيت بهم: إن هذا الخـيار هو الآن أخطر جوانب الأزمة، ويصير أكثر فأكثر، أشــد وجوهها تهديدا لأمن ووجود سوريا، لكونه يسد بصورة متعاظمة ســبل الخيار السياسي، الذي اعتبره الحل الوحيد للأزمة، ويقوض فرص الحوار، قبل أن يبدأ ويحول عمليا دون الشروع فيه، ويفتح أبواب وطننا على المجهول، ويستدعي بالضرورة تدخل الخارج في شؤونــنا، ويـغل أيدي تلك القوى في السلطة التي لا تريد هذه التسوية التاريخــية، لإدراكها الصحيح أن النظام الســوري الراهن لم يعد مرجعيــة لأحد، بما في ذلك لأهل النظام، الذين يقرون بــضرورة القيام بإصلاحات تطاول معظم ما يطالب به المتظـاهرون. ومع ذلك، فإنهم يبــدون كــمن يؤيد حلا أمنيا هدفه تحقيق عـكس ما يعلــنون عنه من رغــبة في الإصلاح، ألا وهو الإبقاء على النــظام في أكثر الصور قربا من وضـعه الراهن، رغم ما سيترتب على ذلك من أزمات جـديدة داخل النظـام نفسه، ومع الشعب في الداخل، ومن غربة عن العالم العربي، سواء صــار ديموقراطيا أم إسلاميا أم أسس نظما مختلطة، وعن العالم، الذي سيرى في إعادة إنتاج النظام القائم عنصر عدم استقرار، وسيسعى إلى استغلال ضعفه لصالحه، وقد يحرض بالفعل الداخل والخارج ضده، لاقتناعه بأنه لن يكون بعد الحل الأمني ما كان عليه قبله، وبعد تهدئة الشارع بالقوة ما كان عليه قبل يوم 15 آذار الماضي، يوم انفجار أزمة درعا .
[[[[
كان الرجوع عن الحل الأمني مطــلب المــعارضة الأول، وبـما أننا كنا في بدايته، فإنه كان من الممكن الإعلان عن أن تطبيقه سيكون محدودا، وأنه حقق غرضه بعد درعا: إقناع المحتجين بضرورة حل سياسي، سلمي وحواري، تعـلن السلــطة استعدادها للحــوار حوله والشــروع فيه. كنا عندئذ، هكذا قلت، سنعلن أن الخصوصية السورية تفرض علينا الذهاب إلى طاولة حوار وطني يشارك فيه جميع السوريين، بمن في ذلك ممثلو الشارع المحتج، لنسير معا إلى حيث نريد جميعا: الى نظام انتقالي يقوم بفعل تسوية تاريخية بيننا، تنهض على أسس مغايرة للأسس التي قام عليها النظام الحالي، الذي كنا سنعلن أنه أنجز الكثير مما أراده الشعب، وها هو يبدى قدرا من المسؤولية التاريخية والوطنية يجعله يقبل الشراكة في السلطة مع الآخرين، ويوافق على نقل البلاد والعباد إلى نظام تمثيلي / تداولي برلماني، اتفاقا مع مبادىء البعث الأولى.
لكن هذا لم يحدث، وتمكنت جهة ما داخل النظام من تقويض ما اتخذ من تدابير إصلاحية كإلغاء حالة الطوارئ وإلغاء محاكم أمن الدولة ومنع الاعتقال التعسفي، ونجحت في تطبيقها بطريقة تحفظ تماما مضمونها القديم. بل إن الأحوال ازدادت سوءا بعد هذه التدابير، فشنت حملات اعتقال تعسفي طاولت آلاف مؤلفة من السوريين، بينما بقي من أدانتهم محاكم أمن الدولة في السجون، ومنع التظاهر باسم تنظيمه ـ باستثناء حالة واحدة فقط سمح به – ووقع انفلات أمني لا مثيل له خلال العقود الأربعة الأخيرة، حوّل سوريا إلى ساحة صراع وعراك حقيقي وخطير، انتهى قبل أيام إلى محاصرة حماه وعودة كتل كبيرة من رجال الأمن وغير الأمن إليها، بعد أسابيع من الهدوء لم يعكر صفوها حادث قتل أو إطلاق نار واحد.
وللعلم، فإن لحماه رمزية خاصة في الوعي السوري الحديث، ولها دلالات تجعلها عزيزة على قلب كل مواطن، خاصة من أبناء ريفها الغربي، الذين قاتلت وضحت في سبيل حقوقهم، فكانت أول مدينة سورية تبنت أهداف هؤلاء الفقراء والمنسيين، وقدمت الشهداء في سبيلها خلال تاريخنا الحديث، بينما تنكرت لأسرها الإقطاعية، التقليدية والعريقة، وقاومتهم، إلى أن أوقفت الظلم الذي كانوا يوقعونه بالريفيين من أجرائهم المستعبدين، فلا عجب أن حزبيا من أبناء ريفها هذا شرع يتحسر عليها ويضرب كفا بكف، حين سمع نبأ إرسال الجيش إليها، بينما كان يردد وقد تهدج صوته: هادي حماه، هادي حماه، أم النضال ضد فرنسا والإقطاع، أم الاشتراكية والفقرا، مدينة أبو الفدا وأكرم الحوراني، ولك هادي حماه، أمنا كلنا!
قابلت خلال الشهر الأخير أعضاء في لجنــة الحــوار الوطني: مستقلين وشيوعي وبعثي، وتحاورت معهم. وخلال لقاء المثقفين في السميراميس قدمت مبادرة تتضمن جملة نقاط، وخففت مطلب وقف الحل الأمني وسحب الجيش من المدن واستعضت عنه باقتراح سحب الأمن ووقف إطلاق النار، وإبقاء الجيش حيث هو، مع السماح بالتظاهر السلمي المرخص، إلى أن ينتهي الحل الســياسي. كنت آمل أن يلتقط أحد هذا الاقتراح ويرى فيه نقطة ضوء تسهل الحــوار فيــعلن عن قبوله. كما كنت آمل، ككثيرين غيري، أن تتراجع وتـيرة الحل الأمني، بعد انتشار الجيش في تلكلخ وإغلاق بوابة لبنان الشمالي إلى وسط سوريا. أخيرا، كنت أريد أن يبحث أحد ما بالفعل عن المعادل الموضوعي لإقرار السلطة بأحقية مطالب الشعب، وأن يبدأ تطبيق بعض مطالبه المحقة، التي يدور معظمها حول قضيتين: الحرية ونصــيب عادل من الثروة الوطنية. لكن شيئا من هذا لم يحدث، لأمر في نفس يعقوب. لم يبق لي عندئذ غير أن أتساءل: لماذا أذهب إلى الحوار؟ هل سأذهب كي أكرر المطالب التي أوردها في مقالاتي؟ وما الجــدوى من ذلك والجديد فيه؟
[[[[
كان التصعيد يتزايد بحدة وسرعة، وكانت فرص الخيار السياسي، السلمي والحواري، تتراجع أمام واقع العنف، إلى أن بلغت نقطة الصفر مع حماه، التي لا يشك السوريون في أنها ستكون نقطة تحول في المواقف والخيارات القائمة والمستقبلية، وسيعني تكرار تجربة درعا فيها، احتمال انفلات الوضع من السيطرة، وانزلاق سوريا ـ لا قدر الله أو سمح ـ نحو عنف معمم، لا يستبعد إطلاقا أن يتطور إلى حرب أهلية فظيعة النتائج، لطالما حذر كثيرون من وصول الوضع إليها مع تصاعد الحل الأمني، وما قد يستثيره ويواجهه من حل أمني مضاد، قد يكون فيهما نهاية الدولة والمجتمع السوريين .
صار من المحال الذهاب إلى حوار يريد البحث عن حل سياسي / سلمي يتباعد ويتلاشى، بينما تغرق البلاد تحت وطأة احتمالات مرعبة تقودها أكثر فأكثر إلى اقتتال أهلي مهلك سيأخذها إلى مصير يحز في قلوب أبنائها ونفوسهم أن تصل إليه، بينما كان بإمكانهم مد أيديهم إليها بالحوار والأمان، لو تمت تهدئة العنف من فوق وبعض المطالب من تحت، ونجحنا في كبح تصعيد ينفي الآخر، رغم الإقرار بأحقية مطالبه، وفي الخروج من دوامة تزج فيها قوى متعاظمة لن تفضي في النهاية إلى أية نتيجة إيجابية غير هلاكنا، كوطن وكمواطنين .
لن أذهب إلى اللقاء التشاوري. هذا لا يعني أنني لن أعلن تأييدي لأي قرار يتخذه وأرى فيه مصلحة الشعب والدولة، أو أنني أضع نفسي خارج الحوار من أجل الصالح العام، وفي سبيل تهيئة بيئة حوارية صحية وملائمة تضم السوريين من مختلف الأطياف، يجب أن نكون صادقين في خلقها، لكونها حبل نجاتنا، وبوابتنا الوحيدة إلى نظام انتقالي يأخذنا على مسار حرية نحو الدولة الديموقراطية المدنية، هو ما أعنيه بالحل السلمي / الحواري المنشود!