لمحات من الحياة اليومية في الرقة: الرعب من سفور النساء.. وأوروبا بلاد الفسق/ طارق أبي سمرا
ما يلي مقتطفات من شهادة شاب سوري عايش الأشهر الثمانية الأولى من حكم داعش المطلق في الرقة. أي في الفترة الممتدة من يناير/ كانون الثاني إلى سبتمبر/ أيلول 2014، حينما غادر الشاب الراوي البلاد إلى بيروت، حيث لا يزال يقيم حالياً. فحاوره كاتب هذه السطور مرتين: في 11 مارس/ آذار و13 يوليو/ تموز 2015.
[ «الداعشي» الفرنسي
أوقفنا حاجز لـ«داعش» في طريق عودتنا من دير الزور إلى الرقة. فُتِح الباب الخلفي لعربة «الفان» من الخارج، فظهر أمامي مُسلّح أشقر، بشرته ناصعة البياض، وراح يحدّق بي بعينيه الخضراوين.
طلب هويتي. كان يتكلم بالفصحى ولكنته ثقيلة. قرأ اسمي بصعوبة على بطاقة هويتي، ثم تطلع إلى يدي التي كنت ممسكاً بها أوراقي الثبوتية الأخرى، وسأل مشيراً إلى إحداها:
ـ ما هذه؟
ـ بطاقتي الجامعية.
ـ هل أنتَ أوورووبي؟
ـ كلا.
ـ هل كنت تعيش في أوورووبا؟
ـ كلا.
ـ هل تفهم ماذا أعني بأوورووبا؟
ـ تقصد أوروبا، أجبته بالإنكليزية.
ـ نعم، نعم. لكن إن لم تكن أوورووبياً، ولم تمكث أبداً هناك، فلمَ شعرك هكذا؟ قال مشيراً إلى صورتي على البطاقة الجامعية، ثم راح يحرك يديه فوق رأسه كمصفف شعر، في محاولة لرسم تسريحتي في الهواء.
ـ ولمَ ترتدي ثياباً كهذه ؟ أضاف مشيراً إلى تقويرة قميصي ال»تّي شيرت»على شكل حرف V والمفتوحة بعض الشيء على الصدر. تابع: لماذا تريدون جميعكم تقليد الأوورووبيين؟ لماذا تريدون الذهاب إلى حيث يزوجون الرجال من الرجال؟ أقسم بالله العظيم أنني رأيتهم يزوجون امرأة لكلب في الكنيسة.
لم أعرف بما أجيبه، فاكتفيت بالقول:
ـ لكني هنا ولستُ في أوروبا. لم أذهب أبداً إلى هناك.
فجأة امسكَتْ يده بركبتي. راحت تتحرك ببطء نحو الأعلى.
ـ لمَ ترتدي سروالاً ضيّقا؟ قال، ثم شرع يفرك فخذِي.
شرحت له أن سروالي ليس بضيق، بل يبدو كذلك لدى جلوسي فقط.
ـ إتقِّ الله في لباسك ولا تُقلّد الكفار! قال.
كان يهُمُّ بإغلاق باب عربة «الفان»، لكنه لمح حذائي «الموكاسان»، فقال:
ـ أقسم بالله العظيم أن زوجتي في أوورووبا ترتدي حذاء كهذا!
إنفجر جميع الركاب بالضحك. شعرتُ بالخجل. أخبرني السائق لاحقاً أن المسلّح فرنسي.
بعد نحو ثلاثين كيلومتراً، مررننا بحاجز آخر ل»داعش» من دون أن تعترضنا أي مشكلة. كان العنصر المسؤول عن الحاجز، ذو الملامح الناعمة والعينين الزرقاوين، قوقازياً على الأرجح.
غفَوْت ولعبَت الريح بشعري. إستيقظت مرتعشاً حين فُتِح الباب من الخارج مجدداً.
ـ أنتَ! صاح بي مسلح بعد هنيهة. لماذا تُوقِف شعرك بهذه الطريقة؟
كان سورياً هذه المرة. أدركت أننا وصلنا إلى حاجز «داعش» عند مدخل مدينة الرقة. فكرت أن تسريحتي عادية وأنني لا أوقف خصلاتي بواسطة مثبت الشعر (الجل) كما يفعل البعض.
ـ أنا لم أوقف شعري، أجبته مرتبكاً.
ـ إن رأيتك مرة ثانية على هذه الشاكلة، سآخذك إلى «الحسبة» وأجلدك! قال متوعداً.
ـ لكنه غفا أمام النافذة يا إبني، فأوقفت الريح شعره، قال له رجل عجوز، من ركاب «الفان».
أشاح المسلح بنظره عني وراح يحدق بالشاب الجالس في المقعد قرب السائق.
ـ إنزل! صاح به.
إستجاب الشاب فوراً، فتابع المسلح، موجهاً سؤاله إلى جميع الركاب:
ـ من يعرف هذا الشاب؟
ـ أنا، أجابه أحدهم.
ـ قُلْ لأهله أننا أخذناه إلى «الحسبة» لجلده، لعله يتعلم أن لا ينتف حواجبه كالنساء.
[إنبثقوا من العدم
كان ذلك في مطلع شهر يونيو/ حزيران 2014، أي بعد نحو خمسة أشهر من فرض تنظيم «داعش» سيطرته المطلقة على المدينة في يناير/ كانون الثاني 2014. يُقال أن نفوذ التنظيم في الرقة راح ينمو تدريجاً نمواً يلفُّه الكثير من الغموض منذ مايو/ أيار 2013. لكن الظهور الكثيف والعلني لعناصر «داعش» لم يبدأ إلا في شهر أكتوبر/ تشرين الأول أو نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه. هناك بالتأكيد أسباب عديدة قد تعلل انتشارهم السريع والمدوي، ثم سقوط الرقة بأيديهم بين ليلة وضحاها. لكن الشعور الذي تملّك الكثير من الناس العاديين مثلي، هو أنهم هبطوا من السماء أو انبثقوا من العدم.
فجأة، صرنا نراهم في جميع الأحياء، بلباسهم الشبيه بالزي الأفغاني التقليدي الذي شَهرته طالبان. وهو عبارة عن قميص طويل يصل إلى الركبة وسروال فضفاض، ما ميّز عناصر «داعش» عن جميع الفصائل والتنظيمات الإسلامية والجهادية الأخرى التي تعاقبت على الرقة. كانوا، بالطبع، مسلحين على الدوام.
صرنا كذلك نرى نساءهم وأطفالهم يحملون السلاح في الشوارع أيضاً. فما أن يصبح أحد أولادهم قادراً على رفع بندقية، أي لدى بلوغه عمر السابعة أو الثامنة، حتى يضعوا بندقية بين يديه، فتَراه يسير مترنحاً تحت ثقل رشاشٍ قد يفوقه طولاً.
زوجات عناصر «داعش» هن الوحيدات من بين النساء اللواتي يُسمح لهن بالخروج من المنزل من دون أزواجهن أو مَحْرَم (أي رجل يُحَرَّم عليه الزواج منهن كوالدهن أو شقيقهن). من يجرؤ أصلاً على التعرض لهن وسلاحهن لا يفارقهن؟ يلبسن نقاباً أسود أو بني قاتم يخفي العينين، ويرتدين من فوقه ما يسمى بـ«الدرع»، وهو كناية عن قطعة قماش طويلة توضع على الرأس وتصل إلى تحت مستوى الركبة، هدفها محو ملامح جسد المرأة كلياً.
[فرض اللباس الشرعي
صحيح أن حياتنا انقلبت رأساً على عقب بسبب تنظيم «داعش». لكن المفارقة هي أن معظم تفاعلنا المباشر مع عناصره بقيَ يتمحور حول المَلْبس. أغلب احتكاكنا بهم كان في الشارع، حيث يسائلونك: «لماذا ترتدي هذا« أو «لا ترتدي ذاك«؟ حتى أولى علامات ظهورهم، قبل أشهر من إحكام قبضتهم على الرقة، كانت مرتبطة بالموضوع عينه. إذ صرنا نرى آنذاك مناشير تتعلق باللباس المحتشم وبعدم جواز خروج المرأة من منزلها من دون زوج أو مَحْرم، ملصقة على جدران بعض الأبنية.
شَهدنا نوعاً من التدرج في فرض اللباس الشرعي. فما كان بداية مجرد توجيهات مطبوعة على مناشير، ما لبث أن تحول إلى واجب تُؤنَب شفهياً في الشارع إن لم تلتزم به. لاحقاً، عندما راحوا يطبّقون أحكامهم الشرعية بعد ثلاثة أو أربعة أشهر من سيطرتهم الكاملة على مدينة الرقة، صار الجلد عقاب عدم التقيد باللباس الشرعي. هناك امرأة جُلدت على مرأى من الناس أمام أحد المساجد، لأنها شوهدت في الشارع سافرة الوجه.
نوع الحجاب الإلزامي صار أيضاً أكثر تشدداً مع الوقت. بداية، كان هناك الحجاب العادي الذي يغطي الشعر والكتفين والرقبة من دون الوجه. أتى بعده النقاب، ثم النقاب الذي لا يكشف العينين، وأخيراً «الدرع». عناصر «داعش» المنتشرون دوماً في كل شارع، حرصوا على التزام النساء بتعليمات كل مرحلة من هذه المراحل الأربع. وما من امرأة في الرقة لم تخضع للمساءلة حول لباسها، ولو لمرة واحدة على الأقل.
وضْعُ الرجال كان أخف وطأة بكثير، إذ لم يُمنع عليهم سوى ارتداء القمصان المفتحوة التي تكشف عن الصدر، وكذلك «الشورت» الذي لا يغطّي الركبة. «الجينز» كان غير محبذ فقط، لكن من تجرأ وارتدى سروال «جينز» ضيّقاً جداً أو ممزقاً، كان يتعرض للإذلال في الشارع وينعت بالكافر واللوطي.
رغم سهولة ما كان علينا التعايش معه نحن الرجال مقارنة بالنساء، كنتُ باستمرار شديد التنبه لحركة جسدي. فحتى طريقة مشيتكَ، إن لم تعجبهم، قد تعرضكَ لمساءلة تتلوها محاضرة في الدين والأخلاق. وإن وجدوا ملبسك غير مناسب لسبب لا يعلمه أحد غيرهم، أو تسريحة شعرك غرْبيّة أكثر من اللازم، قد يقتادونك إلى «الحسبة». أذكر أن قريبي البالغ ثلاثة عشر عاماً من العمر دخل مرة الحمام حيث قَص شعره مرتعداً من الخوف. أخبرني أن أحد عناصر «داعش» أمسكه من شعره في محل البلياردو، وقال له انه سيدخل جهنم لأنه يقلد الكفار. كان الفتى يوقف خصلات شعره بواسطة مثبت الشعر.
أما إبن جار شقيقي البالغ أحد عشر عاماً، فقد تعرض لما هو أسوأ بكثير. لست أدري كيف لم يلحظ أهله ذلك، لكنه خرج من المنزل مرتدياً قميص «تي شيرت» مطبوعاً عليه علم الولايات المتحدة الأميركية. أخذوه إلى «الحسبة» حيث انهالوا عليه بالضرب وشطّبوه بواسطة سكين أو شفرة حلاقة. رموه أخيراً من على جسر، فسقط في النهر. بقيَ على قيد الحياة وأمضى بضعة أيام في المستشفى.
[ «مانيكانات» شرعية
على الرغم من سيطرتهم على كل مفاصل السلطة ومرافق الحياة العامة، بدءاً من القضاء والأمن والمدارس، ثم جباية الضرائب ورسوم الكهرباء والمياه، وصولاً إلى فرض خوّات على كثرة من التجار، كانت هيمنتهم على أهالي الرقة تتجلّى أكثر من خلال تحكّمِهم بأمور الحياة اليومية الصغيرة.
علّقوا في الأماكن التي يرتادها كثير من الناس، كالصيدليات ومحال المأكولات السريعة، بيانات كتبت في اعلاها عبارة: «ألفاظ محرمة لا يجوز التلفظ بها». أتذكر من بينها: «البقية بحياتك» و»مرحباً». راحت لائحة الألفاظ الممنوعة تطول، فصاروا يرفقونها بملحق جديد بين حين وآخر.
أعتقد أنه ما من مبالغة في القول أن نصف أصحاب المحال على أنواعها، من دكاكين ومطاعم ومقاهي وصالونات حلاقة وما إلى هنالك، قد تمّ جلدهم بسبب عدم الإقفال في أوقات الصلاة. إن صدح آذان الجامع في اللحظة التي تقومُ بها بإقفال محلكَ، تُقادُ إلى «الحسبة».
وقتما منعوا التدخين، شرع بعض التجار يبيعون التبغ والسجائر في السر، فأرتفعت أسعار هذه السلع كثيراً. كانوا يغضّون النظر عن هذا الأمر. فكثرة من عناصرهم يدخنون في السر أيضا.
حطّموا رؤوس تماثيل أثرية كما حصل في الموصل. لكن أحد المفاعيل الأكثر تجلياً لتحريم كل تصوير أو تجسيد للوجه البشري، كانت وضع أكياس من النايلون على رؤوس «المانيكانات» خلف زجاج واجهات متاجر الألبسة النسائية والرجالية. راح بعض أصحاب هذه المحال يتفننون بهذه الأكياس، فينسّقون ألوانها مع ألوان الملبوسات المعروضة.
للتأكد من عدم مغادرة النساء المنزل من دون مَحْرم أو زوج، كانوا كلما رأوا رجلاً وامرأة يسيران معاً في الشارع، يسألون: «من هذه؟». كانت الإجابة تأتي عشوائياً: أمي، أختي أو خالتي، إذ كانت النساء منقبات. بعدما علموا أن الناس يتحايلون عليهم، بدأو يدققون ببطاقات الهوية، فراح الرجال يستعيرون بطاقات أمهاتهم أو شقيقاتهم. أخيراً، صاروا يكشفون عن الوجه لمقارنته بصورة البطاقة.
كانوا يتوددون إلى أطفال أهالي الرقة، فيسمحون لهم بحمل بنادقهم للتفرج عليها. ويوزعون عليهم أموالاً في الأعياد ويشترون لهم رشاشات ومسدسات من البلاستيك.
[ الرجم والحَسَنات
إتهمت امرأة بالزنا، فحُكم عليها بالإعدام رجماً. كان هناك حائط بمحاذاة الملعب البلدي، بنوا على يمينه وشماله حائطين آخرين خصيصاً لهذه المناسبة. وضعوها في الزاوية، فصارت وكأنها محاصرة في داخل صندوق مفتوح من جهة واحدة فقط. هناك وقف الرجال يرجمونها.
كانوا جميعهم من «المهاجرين» فقط، وهي تسمية تُطلق على العناصر الأجنبية، يقابلها «الأنصار»، أي العناصر السورية. من يقوم بالرجم ينال حسنة عند الله، وقد أراد التنظيم أن تعود الحسنات إلى «المهاجرين» حصراً، ربما مكافأةً على التزامهم الإستثنائي بعقيدة «داعش»، أو تعويضاً عن مشقة اجتيازهم مسافات طويلة للوصول إلى سوريا.
بعدما لفظت المرأة آخر أنفاسها تحت وابل الحجارة المنهمرة، سُلِّمت جثتها إلى أهلها.
[مقاهي الإنترنت
بعد انقطاع الإتصالات اللاسلكية عن الرقة، إشترى كثيرون لواقط وأجهزة إشارة من تركيا وافتتحوا مقاهي «إنترنت» راحت تنتشر بوتيرة سريعة. صار الجميع يترددون عليها للإتصال بالأقارب والأصدقاء الذين يقطنون في المحافظات السورية الأخرى أو خارج البلاد. في بادئ الأمر، كانت هذه المقاهي مختلطة بطبيعة الحال؛ لكن عندما أحكم «داعش» سيطرته على المدينة، فَرض على كلٍ منها إقامة قسم للنساء وآخر للرجال. وصرتَ دائماً تجد هناك، متسمرين أمام شاشات أجهزة «الكمبيوتر»، كثير من عناصرهم يمضون ساعات طويلة على «السكايب» ووسائل التواصل الإجتماعي ك»فيس بوك» و»تويتر».
مرةً، إنتفض أحد هذه العناصر عن كرسيه وشرع يخطب في الحاضرين. «يا أهل الشام»، إستهلّ خطابه وتابع بلكنته الخليجية: «لقد بارك الله أرضكم. أنتم أهل الدين والخير والإيمان، فلماذا أراكم متخاذلين؟ لمَ لا تجاهدون في سبيل الله وتتخلصون من هذا الطاغوت وظلمه؟». إستمرّ على هذا المنوال لأكثر من نصف ساعة، إضطُّر خلالها كل من في المقهى أن يترك جهاز «الكمبيوتر» للإنصات إليه أو التظاهر بذلك.
شرع البعض يسخرون منه، هاتفين بحماسة مُبَالغة مُفتَعلة أنهم بالطبع ذاهبون إلى الجهاد لنُصرة الدين والنيل من الطاغوت وما شابه. لكنه لم يفقه شيئاً، ظانّاً السخرية كلاماً جديا. وهو بذلك كمعظم عناصر «داعش»: ما ان تُغالي في موضوع الجهاد حتى تنفرج أساريرهم وتنتفي مقدرتهم على التمييز بين الصدق والنفاق، والهزل والجد. على أي حال، هم كأسطوانة مشروخة، ما من حديث على لسانهم سوى المَلْبس والجهاد. ليس بوسعك سوى أن تومئ برأسك قائلاً: نعم أو إن شاء الله أو ليسقط النظام أو إلى ما هنالك، آملاً أن يتركوك وشأنك.
لكن بالرغم مما يقوله الناس عن غبائهم، تبقى الحيطة واجباً. سلاحهم لا يفارقهم أبداً. يراقبونك باستمرار. تشعر أن لهم آذاناً منتشرة في كل مكان. أنا أُبصِر عيونهم حتى في مناماتي ولا أجرؤ على الحديث عنهم سوى مع أهلي أو بعضٍ من أصدقائي المقربين.
زلة لسان واحدة قد تودي بحياة امرئ، رحت أفكر وأنا أنصت إلى الشبّان الذين أعرف بعضهم، وهم يكررون كل شعار يخرج من فم المسلح الخليجي. ثم تذكرت صاحب دكان صغير للمأكولات السريعة في حيّنا. كان رجلاً سريع الإنفعال، يَصبُّ غضبه على الله أحياناً، فيجدِّف. تم جلده مرة بسبب ذلك. فسبُّ الذات الإلهية، بحسب عقيدة «داعش»، جريمة يُقاصَص عليها ثم تُغتفر، لكن سبّ الرسول محمد عقابه الموت. وعندما ارتكب صاحب الدكان هذه الفعلة الأخيرة، إقتادوه إلى مقرّهم وأعدموه بعد يومين بطلقة في الرأس.
كان الجميع في مقهى الإنترنت قد لاذ بالصمت ما عدا الخطيب «الداعشي». أحسست بضجر عميق ولم أعد أفهم شيئاً مما يقوله. صارت كلماته تختلط بعضها ببعض في ذهني. أرغمت نفسي على التظاهر بالإنصات. لكن رغبة بعدم الإذعان له، بإشهار ضجري على الملأ، راحت تتملكني تدريجاً، فرحت أتململ على مقعدي وأُنَقِّل عينيّ بسرعة بين الحاضرين.
تصرّفي هذا نوعٌ مما أحب أن أطلق عليه تسمية المقاومة الوهمية. أدّعي أنني لا أنصاع لهم، وأنني أتحدى الواقع، فأصدق نفسي أحياناً. أخرج مثلاً من البيت قبل موعد الآذان بقليل، فيُهيأ لي عندها أنني لا آبه بمنع التجوّل الذي يَفرضونه وقت الصلاة، بالرغم من أنني أكون قد عدت إلى المنزل قبل أن يصدح صوت المؤذن في الجامع. أو اتحدى حظر الإستماع إلى الموسيقى، بوضع سماعتي الموصولة بهاتفي الخليوي في أذنيّ، لكني لا ألبث أن أنزعها ما ان ألمح عن بعد واحداً منهم يمشي في الشارع. أو أطوي بنطلوني الرياضي من الأسفل كي يصبح شبيهاً ب»الشورت»، مع الحرص بالتأكيد على أن لا يكون أي عنصر من «داعش» في الجوار. ثم جاهرت بضجري في مقهى الإنترت.
لكن ما ان قال لي الخليجي: « بإمكانك المغادرة إن شئت»، حتى تجمدت في مكاني وعدت أصغي إليه كتلميذ نجيب. وبعد انتهائه من خطبته، بقيت ربع ساعة إضافية في المقهى، آملاً أن ينسى تململي، فلا يتذكرني إن صادفته مرّة أخرى.
[تجنيد الأطفال
إختفى ابن جارنا البالغ الثانية عشرة من العمر. لم يعد من المكتبة المجاورة لبيت أهله حيث كان يعمل. أخذ والده يبحث عنه من دون جدوى، لكنه علم بعد أيام أن ابنه قد يكون في «معسكر الزرقاوي»، وهو معسكر تدريب في ريف الرقة، أقامه «داعش» في وسط الصحراء على بعد 20 كيلومتراً من المدينة.
لدى بلوغه المعسكر، لمح الأب ولده بين جمعٍ من الأطفال يمارسون، حفاة في صقيع الشتاء، تمارين رياضية تحت مطر غزير. هكذا يعودونهم على القسوة والخشونة. يدربونهم على استخدام السلاح. يعطونهم دروساً في الدين ويشرحون لهم عن الفروق بين السنة والشيعة، الكفار والملحدين. لكن في بادئ الأمر يلقّنونهم عن ظهر قلب الآيات القرآنية التي تتحدث عن الجهاد. كان في المعسكر حوالى 400 طفل.
إستشاط الأب غيظاً حين رأى ابنه. نَهَره. لكن الولد رفض الانصياع لأبيه. ثم مَنع عناصر «داعش» الأب من اقتياد الابن إلى المنزل بالقوة. فبمجرد أن يُعبِّر طفلٌ عن رغبته في الالتحاق بصفوفهم، حتى يعتبروه صاحب القرار ومسؤولاً عن نفسه بالكامل. عاد جارنا من المعسكر وحده.
راح الصبي يتصل بوالده هاتفيا كل بضعة أيام. كان يقول له: «لا تدع أي شيء يقلقك بعد الآن، فأنا صرت مع الدولة الإسلامية. سيصلكم الخبز والغاز إلى المنزل قريباً». وكان يقول له في أحيان أخرى: «سأشفع لكم عندما أستشهد، فتدخلون الجنة». وبعد حوالى ثلاثة أسابيع على اختفائه، عاد الصبي إلى المنزل. قال لعناصر «داعش» أنه لم يعُد يرغب بالبقاء في المعسكر، فاقتادوه إلى بيت أهله.
[قيادات «داعش» وأجانبها
ظاهرة «داعش» لم تولد من رحم المدينة، بل أتت من الخارج. صحيح أن بعضاً من سكان الرقة انخرطوا في التنظيم لأسباب عدة كتطرفهم الديني أو رغبتهم بالجاه والمال. لكن الرؤوس الكبيرة كان معظمها عراقيا. لدواع أمنية، لم تكن هذه القيادات تمكث في المدينة، بل في ريفها. لا أحد يراهم أو يعلم بتنقلاتهم. على أي حال، «داعش» تنظيم يشوبه الكثير من الغموض والسرية، فكل عنصر منهم لا يعرف من القيادة سوى الشخص المسؤول عنه مباشرة، والذي لا يعلوه سوى برتبة واحدة.
أما الأجانب أو «المهاجرون»، فكانوا كُثُراً ومن مختلف الأجناس والألوان: من أصحاب البشرة الداكنة السوداء إلى الشُقر ذوي الشعر الذهبي والعيون الزرق أو الخضر. أذكر على سبيل المثال، أن تنظيم «داعش» أخلى تجمعاً سكنياً في ريف المدينة، على مقربة من «سدّ تشرين» على نهر الفرات، حيث أسكن التنظيم محلّ الأهالي عناصر كازاخستانية ومن دول أخرى من آسيا الوسطى.
في الشوارع، كنا نرى المغاربة والتوانسة والليبيين والخليجيين واللبنانيين، الفرنسيين والبلجيكيين والقوقازيين وحتى بعض الأميركيين والصينيين. جميع «المهاجرين» غير العرب يعرفون العربية قراءة وكتابة. يتكلمون الفصحى فقط، وبلهجة ثقيلة بعض الشيء.
كنا نشعر بنوع من الذل والنقمة لدى رؤيتنا أن دخلاء غير سوريين يتحكمون بحياتنا. من جهتهم، لم يُكَوِّن هؤلاء الأجانب أي علاقات شخصية مع الرقاويين، بل ظلوا جسماً غريباً على المدينة، راح ينمو كالسرطان. أسوأهم الخليجيون: كانوا يتعاملون معنا بعنجهية وفوقية مطلقة.
[ الرقة منتجع «داعش»السياحي
بحكم بعدها النسبي عن جبهات القتال وتوافر المنازل الشاغرة والمستشفيات والماء والكهرباء والمواد الغذائية فيها، تحولت الرقة مصحاً ومنتجعاً سياحياً لعناصر «داعش». كانوا يأتون بجرحاهم ليُعالجوا في مستشفياتنا، وصاروا، بعد سيطرتهم على الموصل، ينظمون رحلات بين الرقة والموصل مرتين اسبوعياً.
مقارنة مع أهل الرقة الذين راح وضعهم المعيشي يتردّى شيئاً فشيئاً، كان «الدواعش» ينعمون بترف فاحش. فرغم إنخفاض قيمة الليرة السورية انخفاضاً حاداً وغير مسبوق، كانت قدرتهم الشرائية مرتفعة جداً. ثم انهم يتقاضون رواتبهم بالدولار الأميركي. تَجدهم دائماً في معارض السيارات حيث يشترون أفخرها، التي سرعان ما يستبدلونها لاحقاً بموديلات أحدث.
تَجدهم كذلك باستمرار في محال الحلويات والمأكولات السريعة التي لولاهم، لكانت أغلقت أبوابها منذ زمن. لكن تبقى هوايتهم المفضلة التبضع من متاجر السوبر ماركت الكبرى، فيصرف واحدهم فيها، على ألواح الشوكولاتة مثلاً، مبلغاً يكفي لإعالة عائلة سورية بأكملها لمدة يوم أو يومين.
على الرغم من ثرائهم، لا يمتنع عناصر «داعش» عن السكن في أي منزل شاغر يستهويهم موقعه أو شكله أو مساحته، وذلك من دون دفع أي مقابل مالي لأحد. هم يعتبرون كل مُلكية توارى صاحبها عن الأنظار، ولو لفترة وجيزة، نعمة انعمها الله عليهم. غادرنا مرّة البيت بسبب تساقط الصواريخ على مقربة منه، ومكثنا عند أقرباء لنا في الجوار. بعد بضعة أيام، إتصل بنا أحد جيراننا من الذين بقوا في الحي، قائلاً أنه رأى رجلاً صينياً يطرق على باب بيتنا، بينما لا ينفك يردد بالفصحى: «هنا منزل فارغ، أريد أن أسكن». هرعت إلى هناك، فوجدت الصيني لا يزال كما وصفه لنا الجار: يطرق على الباب، ويقول للا أحد: «هنا منزل فارغ، أريد أن أسكن». بدا وكأنه لم يكن يخاطب البشر بعبارته هذه، بل الله نفسه. الحديث معه كان مرهِقاً، إذ واصل يردد العبارة نفسها مراراً وتكراراً، لكنه اقتنع في نهاية المطاف أن للبيت سكانه، فرحل.
[كنيسة صارت مقراً للخاطبات
إستولوا على كنيسة وحوّلوها إلى مكتب دعويّ حيث صاروا يعرضون تسجيلات «فيديو» لعملياتهم الحربية. وفي الطابق السفلي من الكنيسة نفسها، كان هناك صالون، جعلوا منه مقراً لخاطبات مهمتهم العثور على نساء لعناصر «داعش» الراغبين بالزواج من رقاويات. كان «الدواعش» لا يرضون سوى بالحسناوات. أما فيما يتعلق بالسبايا، فكانوا يستقدمونهن من العراق لأمراء التنظيم وقياداته الكبرى فقط، إذ لم يحصل بيعهن وشراؤهن في أسواق كما هي الحال في الموصل.
أحياناً، كان بعض الرجال من أهالي الرقة يقصدون الخاطبات، ليبلغوهن أنهم يريدون تزويج إحدى بناتهم من عنصرٍ في التنظيم. إن تمّ عقد القران لاحقاً، تصبح أحوال العائلة السورية ميسورة ولا يعود أحد يجرؤ على التطاول عليها. بعض الأهالي زوّجوا بناتهم قسراً. وقد أطلعني شخص ان إحدى قريباته من قرية في ريف الرقة، انتحرت بشرب مبيد حشرات بعدما حبسها شقيقها في مستودع للمواد الزراعية، لأنها رفضت الزواج من أحد عناصر «داعش».
على هذا النحو، حصلت بعض مصاهرات بين الرقاويين و»المهاجرين»، مع العلم أن كثير منهم قدموا إلى سوريا مع زوجاتهم وأولادهم. لكن هذا لم يمنعهم من الزواج ثانية أو ثالثة أو رابعة. أخبرني صديق لي صاحب سوبر ماركت، أن «الدواعش» يشترون بكميات هائلة خلطات من العسل والمكسرات تُعرَف بأنها مقويات جنسية. أما ابنة خالتي التي تعمل ممرضة، فروت لي كيف رأت صبية أتت إلى المستشفى في سيارة إسعاف وهي تعاني من نزيف حاد في صدرها لأن زوجها «الداعشي» الليبي قضم ثديها ليلة الدخلة.
[قطع الرؤوس
لم أسمع بأي قَطْعٍ للأيدي، لكن قطع الرؤوس صار أمراً شبه مألوف. لمحتُ يوماً من شباك الباص، رأسين معلقين على قضيبيّ حديد، فأشحت عنهما نظري. كانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي أرى فيها مشهداً كهذا، إذ كنتُ ألازم المنزل لدى عِلمي بتنفيذ عملية إعدام. لكن بعض سكان الرقة كانوا يتصورون مع الرؤوس المقطوعة.
كانت تُعلَّق في ساحة «دوار النعيم» الواقعة في وسط المدينة والتي استبدل الأهالي إسمها بـ«دوار الجحيم» بسبب العدد الهائل من الإعدامات التي نُفذت في ارجائها. سَوَّرَها تنظيم «داعش» بسياج حديد قطره نحو 30 متراً، غُرست على قضبانه المسننة الرؤوس البشرية المقطوعة التي انتشرت صورها عبر الإنترنت في جميع أنحاء العالم.
إن شاءت الصدفة ومررتَ على مقربة من «دوار الجحيم» وقت تنفيذ عملية ذبح أو صلب أو قطع رأس هناك، فعليكَ بالتفرج، إذ تُمنع من مغادرة المكان إلى حين انتهاء تنفيذ الحكم. مرة، شاهد شقيقي والداً يدفن وجه ابنه الصغير في صدره كي يحجب عنه مرأى رجل يُذبح في الساحة.
ذات صباح من أواخر شهر يوليو/ تموز 2014، علمنا أن هناك أكثر من سبعين رأساً معلقة على سياج الدوار. كانت تلك رؤوس جنود من الفرقة 17 التابعة للجيش النظامي، والتي يقع مقرها على بعد كيلومتر واحد من مدخل المدينة. ولأن المقر هذا الذي تبلغ مساحته نحو خمسة كيلومترات مربعة، محصن جداً ويتمّ إمداده بالأسلحة والذخيرة والمواد الغذائية بواسطة الطائرات المروحية من دون انقطاع، استطاعت الفرقة 17 الصمود نحو سنة ونصف السنة، اي منذ سقوط الرقة في أيدي الثوار في 6 مارس/ آذار 2013. فلا الجيش الحر ولا الفصائل المعارِضة الأخرى تمكنوا من اقتحام المقر. لكن هاهو تنظيم «داعش» يستولي عليه بعد معركة دامت بضع ساعات فقط، فسرت شائعات عن تفاهم ضمني بينهم وبين نظام الأسد. وما قيل لاحقاً عن إجلاء الضباط الكبار من مقر الفرقة بواسطة المروحيات قبل يوم واحد من المعركة، لم يفعل سوى تعزيز هذه الشائعات.
بقيت رؤوس الجنود معروضة في الساحة لمدة يومين. عمّ بين الأهالي جو من الإحباط واليأس. فرغم استبداد وجرائم النظام الأسدي الدموي وبراميله المتفجرة التي محت مدناً بأكملها، صار الناس يفضلونه على «داعش»، وتحولت الفرقة 17 – يا للسخرية – آخر بريق أمل للأهالي انطفأ مع سقوطها. أيقنا وقتها أن تنظيم «داعش» باق في الرقة لا محالة، وأن الرعب الذي نعيشه ليس مجرد كابوس قد ينجلي مع بزوغ الفجر كسحابة سوداء، بل هو واقع صلب كالفولاذ. واقع يتحلّى مع ذلك ببعض سمات الكوابيس، كإعدام امرئٍ لأتفه الأسباب. وهو ما سمعت أنه حدث لزميليّ في الجامعة اللذين قُطع رأسيهما بعدما اتهم تنظيم «داعش» الأول بأنه مُتشيّع بسبب أغنية عن الحسين مسجلة على هاتفه الخلوي. والثاني بأنه عميل للنظام لأن في هاتفه صورة علم سوري.
[العكّاري والفجل
دخلت مرّة محل خضروات لشراء بعض الحاجيات، فرأيت عنصراً من «داعش» يتأمل الفجل. رحت أراقبه. بدا وكأنه مسحور بهذه الحبات الحمر، لا يشيح بنظره عنها. تناول واحدة وحدّق بها عن قرب. أغمض عينيه، إستنشق رائحتها وقضمها. صار يمضغ ببطء وهو يئنّ متلذذاً.
حين لمحني، شرعت بالتبضع.
وجدته فجأة إلى جانبي بعد بضع دقائق.
ـ فجلكم لذيذ جداً، قال لي بلهجة لبنانية.
ـ هل أنتَ لبناني؟ سألته وأنا أفكر أن فجلنا عادي بل أقل من عادي.
ـ أجل، من عكار. هل سبق لك أن زرت لبنان؟
ـ أجل، أمضيت بضعة أشهر هناك.
ـ إذاً لا بدّ أنك أفحشت كثيراً، قال مبتسماً.
ـ كلا. لا يقوم بذلك كل من ذهب إلى هناك بالضرورة.
ـ سبحان الله الذي أنعم عليكم بهذا الفجل الطيب! لكن لماذا تتقاعسون عن الجهاد؟
وددت لو أطلعه أن الجهاد لم يخطر يوماً على بالي، لكني اكتفيت بالقول:
ـ أدعُ الله أن يهدينا إلى طريق الصواب.
ـ السلام عليكم، قال أخيراً وانصرف.
رأيته يبتعد حاملاً عدة أكياس من الفجل، فرحت أتساءل: أما من فجلٍ في عكار؟
المستقبل