لمحطة السورية على سكة قطار التغيير العربي
ا
إياد أبو شقرا
“لاكتساب مزيد من الحكمة فإن التخلي عن خداع النفس أفضل من التمسك بالحقيقة” (لودفيغ بورن)
عندما اندلعت انتفاضتا تونس ومصر وأسفرتا عن تغيير القيادتين، وأخذت الاهتزازات تتردد في عدد من الأقطار العربية، كان ملاحظا – بل ومفاجئا للبعض – أن المراقبين أغفلوا التطرق إلى سورية بين الدول المعرضة لتجربة من هذا النوع.
الأسباب التي ناقشتها التحليلات السياسية كثيرة، منها ما يتصل بالتركيبة الفئوية لسورية، ومنها ما يتصل بالاعتبارات الإقليمية التي مكنت الحكم السوري من الصمود عبر جيلين من قيادة عائلية واحدة لأكثر من 40 سنة. غير أن ما كشفته أحداث كل من ليبيا واليمن والبحرين، وصولا إلى سورية، أن ثمة تنوعا في مواطن القوة والضعف عند كل نظام… وتفاوتا في قدرته على استغلالها. وأن هذا التنوع في جزء منه يستند إلى «الكيمياء الفئوية» في كل من هذه الأقطار، وكذلك في نسبة الاحتقان المتجمع ضد النظام، وطبيعة القوى الناشطة ضده.
من ناحية ثانية، حتما هناك صفات مشتركة بين الأنظمة العربية التي جاءت إلى الحكم تارة باسم «الإصلاح» أو «التصحيح»، وطورا باسم «الشرعية الثورية»، إلا أنها كلها انتهت إلى حكم عائلي متطاول… استمرأ تجاوز منطق تداول السلطة، واعتمد على الأمن، الذي تجسد في حالات محددة – كما في ليبيا واليمن وسورية – بأجهزة أمن فئوية أو قبلية الهوية، غير مشكوك في ولائها للنظام.
ثم إن فترات الحكم المتطاول، في ظل الشعارات الثورية الفارغة، ولدت تراكما للأحقاد والظلامات، كما أدت القبضة الأمنية الحديدية إلى إضعاف أي بديل عن القوى الدينية المنظمة أكثر من غيرها. ولئن كانت بعض القوى الدينية ازدادت حنكة في التعامل مع مؤسسة السلطة، فلعبت معها لسنوات «لعبة القط والفأر»، كما حصل في مصر، فإن القوى الدينية في دول أخرى جوبهت بعنف غير مسبوق… مما زادها راديكالية ونقمة. ويبدو أن تداعيات هذه الراديكالية وهذه النقمة لم تستوعبها تماما قيادات هذه الدول.
اليوم، ما عاد سهلا إنكار البعد الفئوي لما هو حاصل في غير دولة عربية اهتز شارعها، وأسقط مواطنوها – لا سيما شبابها – حاجز الخوف، فأدركوا أن «ثورة الاتصالات» بما فيها من «فيس بوك» و«تويتر» ما عادت تسمح لأي قائد عربي بتصفية خصومه في ظل التعتيم الإعلامي. لكن في عدد من الحالات التي هي أمامنا اليوم يوجد قدر كبير من خداع الذات، الذي نما وتفاقم بعدما اعتادت القيادات خداع الآخرين.
لا شك في أن بعض الأقطار العربية التي تواجه اضطرابات تتعرض لتدخل خارجي، سواء كان من دولة أجنبية أو حركة سياسية لديها مشاريع فئوية معينة. ولكن في غير حالة استطاع التدخل الخارجي أن يستفيد، إما من بطء الإصلاح السياسي، أو انعدام الرغبة فيه. ثم إن عددا من الناطقين الرسميين – و«الفعليين» – الذين استمع الجمهور العربي إلى تصريحاتهم، خلال الأسبوع الماضي على الأقل، تفننوا في الكلام عن «الفساد»، لكن قلة منهم كانت لديها الجرأة والأمانة لتسمية المسؤولين الحقيقيين عنه.
ولنناقش الحالة السورية، بالتحديد.
بالأمس، أكد أحد المحللين السياسيين – وكان يتكلم من دمشق – ثقته بإيمان الرئيس بشار الأسد بأهمية الإصلاح السياسي، كما أقر بوجود ظاهرة «الفساد»… التي ربطها بتحول النظام من الاشتراكية إلى الرأسمالية (!) وشدد أن الرئيس يقف ضدها ويتفهم شكاوى المواطنين منها. ولكن خلال ساعات قليلة اتخذت القرارات الأمنية والسياسية الحاسمة لمعالجة الوضع المتأزم في درعا وغيرها من المدن… في اجتماع لقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي برئاسة الرئيس الأسد.
الجميع في سورية، كما في اليمن وليبيا، وقبلهما في تونس ومصر، يعرفون بيد من السلطة الفعلية والقرار النهائي في كل كبيرة وصغيرة. والجميع يعرفون أن «الإصلاح» و«مقاومة الفساد» لا يتحققان بالنية الطيبة والكلام المعسول.
وبالنسبة لسورية، وعد الرئيس بشار الأسد بتطوير النظام منذ تسلم السلطة، مع أن الطريقة التي تسلم بها السلطة عبر تعديل دستوري عاجل، وتجاوز غريب لثلاثة نواب لرئيس الجمهورية، كانت دليلا دامغا على أن النظام في حاجة إلى ما هو أكبر بكثير من التطوير.
ثم جاءت التجربة اللبنانية – المأساوية بالنسبة لسورية – عام 2005، مناسبة لكي يطرح موضوع الإصلاح السياسي بصورة جدية. وهذه المرة أيضا استبشر السوريون واللبنانيون خيرا عندما اعترف الرئيس الأسد «بحدوث أخطاء إبان الوجود العسكري السوري في لبنان». غير أن التفاؤل بثمار الاعتراف سرعان ما تبدد عندما لم يتعرض أي من المسؤولين عن تلك «الأخطاء» إلى محاكمة أو محاسبة… خارج نطاقي الانتحار أو الفرار من البلاد. أما المسؤول السوري الأمني الأول في لبنان فقد عين مسؤولا أمنيا عن ريف دمشق، على حدود لبنان!
المصادر الرسمية السورية اتهمت خلال الأسبوع الماضي «زمرا إرهابية» في درعا، ثم كيلت التهم إلى الإعلام، ثم عندما غدا متعذرا إنكار اتساع نطاق الانتفاضات ليشمل معظم المدن السورية… بدأ التركيز على وجود «مؤامرة طائفية».
«مؤامرة طائفية»!
ربما، كانت هناك دوافع طائفية، أو حتى عرقية عند المنتفضين، ولكن من هو المسؤول عنها في ظل سياسة اللعب بالنار الإقليمية التي اعتمدتها دمشق طويلا مع جيرانها؟
وهل كانت القيادة السورية تتصور أن الاعتبارات الإقليمية التي خدمت الحكم طويلا… وحدها كفيلة، إلى ما لا نهاية، بتناسي المواطن العادي همومه المعيشية وحريته السياسية وكرامته الإنسانية؟
النهار