لن يصح إلا الصحيح
اتفق مجموعة من الشباب على شراء أدوية مختلفة من قطن طبي ومعقمات ومسكنات ومضادات حروق بالإضافة إلى أطعمة وتموينات أساسية، وذلك من أجل أن يوصولها إلى المتضررين في المناطق التي يسمع عنها أنها خاضعة لعمليات تطهير عسكرية نوعية كما يصفها إعلام النظام بعد أن تسلل إليها عصابات مسلحة لتنفذ مخططات أجنبية…
“قائدنا بشار وغيره لن نختار”… صاح أحد الشباب وقد قالها مُحمساً أصدقاءه على المضي قدماً في الانخراط بالأعمال المدنية من إغاثة ومساعدة وقد فاحت من وجوههم العزيمة على تحدي العصابات المسلحة بعدم الخنوع للخوف والاختباء في المنازل.
وبعد أن ابتاعوا ما اتفقوا عليه، تفرقوا إلى مجموعات صغيرة من شخصين أو ثلاثة أشخاص فتوجهت كل مجموعة إلى مناطق مختلفة في العاصمة كالميدان وبرزة وكفرسوسة، وعند مدخل كل منطقة استوقفهم حاجز عسكري، فظنوا أول الأمر أنهم يمرون على إجراء روتيني وأن الجنود سوف يسمحون لهم بتجاوز الحاجز خاصة أن على صدورهم صور بشار الأسد ويعملون طواعية في الأعمال الميدانية….
وعلى عجل واضطراب تقدم منهم الضابط مباشرة بعد أن أمعن التكشير والتحديق في أعينهم “قلتم أنكم تؤيدون سيادة الرئيس وتريدون إدخال هذه الأطعمة والأدوية إلى الناس المتضررة؟”…
وبكل سذاجة جاوبوه بالإيجاب، فصفع على الفور أحدهم ثم أخذ يركل كل من طالته قدمه منهم، وشاركه دون تردد بقية الجنود الذين ارهقوا أنفسهم بالدوس على رؤوس الشباب وعلى علب الأدوية والمعلبات غير متكترثين بأن من بينهم شابات إناث، وعبثاً حاول الشباب أن يصدوا همجية الجنود عنهم بإبراز صور بشار المعلقة على صدورهم كدبابيس وبطاقات كرتونية ودعّموا حججهم ببكاء الترجي والخلاص والرحمة خاصة بعد أن أدركوا أنهم متهمون بإدخال الدواء والغذاء إلى المسلحين والموتورين، وعجزت محاولاتهم لإفهام الجنود بأن أدوية الأطفال لا تفيد إلا الأطفال وما للمسلحين منها أي نفع…
أما المجموعة التي توجهت إلى القابون فقد صار أفرادها كالدجاج المنتوف وقد انسلخ جلدهم من الصفع واللسع والجلد وكذلك فُعل برفاقهم عند حاجز كفرسوسة…
عند المساء صار خبرهم معلوماً عند أهاليهم عن طريق إعلام النظام نفسه حيث عرض أسماءهم كخونة عملوا على إعانة المسلحين بالغذاء والدواء، فجن جنونهم واندفعوا إلى فروع الحزب والمقرات الأمنية ليطالبوا برد أبنائهم والصفح عنهم ولكن تصرفهم هذا لم يجلب على أبنائهم غير التعاسة والاضطهاد وفوق ذلك طالتهم يد البطش والتهديد…
ومرت الأيام وساء فيها حال الأهالي من طول فترة غياب أبنائهم فعللوا ذلك إلى تقصير في دور الحكومة بردع تصرفات فردية تحدث بأسم النظام وقائده… قالوها وهم معتقدين كل الاعتقاد بأن قائد النظام لا يرضى بمثل تلك التصرفات الشاذة عن قيم جيش الوطن العقائدي.
ولكن ورغم ما حصل لأولئك الشباب من اعتقال واتهام باطل فقد تجرأ صديق لهم، كان قد تخلف عنهم في توزيع العلب الأمر الذي حال دون اعتقاله، على توزيع ما تبقى من علب التي لم توزع بعد، ثم ذهب بها إلى القابون وقد استطاع أن يفلت من الحاجز بالالتفاف حوله وهو يقوي نفسه بأنه لن يسمح لأي ظرف أن يثنيه عن تحقيق ما اتفقوا عليه في إيصال المساعدات إلى الناس.
وما إن توغل في القابون حتى انتابته نوبة من الهلع لما رآه من دمار وفراغ كامل من أي حركة وأن الحي مختلف تماماً عما كانت تبديه وسائل الإعلام التابعة للنظام فضلاً عن أصوات الرصاص وأصوات انفجارات تسمع بوضوح من الحارات العميقة في الحي، فمضى يبحث عن محل مفتوح أو بيت مسكون دون أن يفلح وقد اختلط عليه خوفه وهدفه في إيصال ما يحمل إلى من يستحقها، وعندما أضناه التعب جلس يريح نفسه من أوزان العلب، فظهر في وجهه فجأة بعض من المسلحين وقد انكبوا عليه من تحت الركام والأبنية المقصوفة، فارتبك وأرتعد خائفاً منهم ومذهولاً بهم كيف كانوا يراقبونه دون أن يشعر بهم، ولكن الدهشة كانت عليه أشد وطئاً عندما بادروه بعرض طلب مساعدته في حمل العلب دونما أن يأخذوا منها شيئاً…
سألهم عن غايتهم؟ فأجابوه بأنهم مجرد جنود قد انشقوا عن جيش الأسد الذي يفتك بالشعب غدراً وعدواناً وما لهم من سبيل سوى حماية الناس وصد هجوم الأمن والجيش كي لا يداهموا الآمنين ويعتقلوا البريئين…
ثم طلبوا منه أن يتحرك معهم على عجل إلى مكان آمن قبل أن تطالهم قذيفة عشوائية فتدوي بهم جميعاً، وبينما هم في طريقهم يتجنبون أي قناص محتمل، شاهد بعينيه ما قد حصل في القابون من مجازر بسبب قصف مدافع الجيش والطائرات المروحية، وكيف هؤلاء الرجال يدفعون الأمن والجيش إلى الوراء ببنادق خفيفة وقد جعلوا حياتهم في وجه الرصاص فتحول بينهم وبين كرامة أهل البلد، ورأى كيف يعالج الأطباء المصابين في مستشفيات ميدانية بقطع القماش الممزقة من الملابس القديمة ويخيطون الجراح بإبر الخياطة دون مخدر أو مسكن، وشاهد أيضاً كيف الأمهات تصلين لنصرة من انشق عن الجيش ثم حاربه….
وبعدما شهد من الحقيقة جلّها، وبخجل شديد وضع العلب أمام الجنود المنشقين ثم قال لهم: تقبلوا مني هذه العلب، فهذه أدوية وتلك أغذية، وفي الحال شكره الرجال على بادرته وقد علت منهم صيحات التكبير على ما وهبهم الله من هذه العلب، فرغم بساطتها إلا أن نفعها عظيم في واقع الحصار الذين يعيشونه، ففرك عينيه حتى يزيح الدمع عن ناظريه، ثم تكلم قائلاً: علام تشكرونني؟ على جهلنا الذي خذلكم؟ أم على حماقتنا في تصديق روايات الأسد؟
فضحك الرجال وقد أكدوا له بأن العاقبة لخواتيم الأفعال وما هو إلا مولود جديد في عالم الحرية، فطلب منهم على الفور أن يسمحوا له أن يكون في صفهم يزود عن الشعب ويحمل السلاح ضد الباغي فوافقوا بشرط ألا يعتدي ولا يتخلق بأخلاق شبيحة الأسد…
قصص سوريّة
لن يصح إلا الصحيح