ليست دمشق محور الكون!
نهلة الشهال
بحثتُ في الصحف العالمية والعربية، وفي الدوريات، ونشريات مراكز الأبحاث، عما يمكن أن يكون قد ورد فيها بخصوص سورية مما لم نتنبه إليه نحن هنا. قمت بذلك لموازنة الهوس المكين بسورية وما يجري فيها مما أصابنا جميعاً، إلى أي تيار في التفكير أو وجهات النظر انتمينا.
والهوس ذاك أمرٌ طبيعي نظراً إلى خطورة الأحداث واحتمالات تطوراتها والنتائج المترتبة عليها في بلد يمثل اليوم عقدة استراتيجية لأن أوضاعه ومآلاتها تمتلك تأثيراً كبيراً على محيطه، سواء كان في العراق ولبنان والأردن، وأيضاً لأهميته في إطار الصراع العالمي الدائر بين قوى الغرب الكبرى بقيادة الولايات المتحدة، وأطراف كالصين وروسيا، بل إلى حد ما محور «البريكس» الذي يضم، إليهما، «قوى عظمى» مقبلة، كالبرازيل والهند وجنوب أفريقيا. وهو صراع لا يخلو من تناقضات بين أطراف محاوره المتحالفة كما هي الأمور دوماً، ولكن الكثير من سماته وخصائصه تختلف عن الشروط التي أحاطت بالحرب الباردة العتيدة. وإيران جزء منه، وعلى ذلك فسورية أيضاً، ليس استلحاقاً فحسب بل لتوسطها بلداناً مهمة وأوضاعاً رجراجة، ولمجاورتها إسرائيل. وهذه الأخيرة لا تحلم إلا بإجازة مهمات حربية تنفذها في إطار ذلك الصراع، وتحديداً منها ضرب إيران لو تقرر، والإجازة في هذه تحديداً ضرورية بينما هي، خلا ذلك، تعمل في شكل عام على حسابها، ووفق منظور مصالحها الخاصة.
ورغم تكراري هذا الاستطلاع في أوقات متقاربة حتى لا أقول يومية، لا بد من الاعتراف بأني نادراً ما أقع على نصوص تحليلية. هناك استعادة للأخبار، كذا قتيل في هذا أو ذاك من الأماكن، واجتماعات وتصريحات. وقد كان نجم الأخبار هذه الأيام الهجوم العسكري على مقر استخبارات القوة الجوية في حرستا القريبة من دمشق. وفي كل المواقع، يتكرر القول بخطورة هذا الأمر كنقلة نوعية في الصراع الدائر، من دون أن يرافق هذه الإعلانات تحليل سياسي أو بنيوي لتبعات هذه النقلة.
ثمة أحياناً تقديرات موقف تتكلم عن سيناريوات محتملة، كذاك الذي تناول هذا الأسبوع، وعبر «دراسات» متعددة غالباً ما تنقل الواحدة عن الأخرى، موضوع الانقلاب العسكري الذي يطيح الأسد شخصياً، والذي يمكن أن يتولى القيام به ضباط كبار ينتمون إلى الطائفة العلوية نفسها، فتحدث إذّاك التسوية التي تُرضي من جهة المطالبة الشعبية بالتغيير، والسلطات الإقليمية والدولية التي تسجل لها نقطة لمصلحتها، وقد تبدو نصراً لها، وتتجنب من جهة ثانية، وفي آن، انهيار الدولة في سورية وانزلاق البلد إلى الفوضى والاقتتال الأهلي، كما تحيِّد رد الفعل العلوي، على مستوى الأجهزة العسكرية والأمنية، وعلى المستوى الشعبي، وتطمئن الأقليات بصورة عامة.
وهذه «التسوية» المتصورة تتلخص مجدداً بفكرة التخلص من رأس النظام للحفاظ على النظام نفسه، وإنما مع ضمان انتقاله سياسياً إلى موقع آخر. والفكرة تبدو منطقية على الورق، ولكنها لمن يعرف تركيبة سورية، مؤسسةً دولتية وبنىً اجتماعية، يدرك بسرعة مقدار «ذهنيتها»، أي كونها نتاج هيكلة منهجية للمعطيات، ما يهواه كثيراً «خبراء» عسكريون وسياسيون معاً، يعتقدون أن العالم يُهندس داخل غرف عمليات، وحول طاولة تربض فوقها خرائط ومجسمات! وهم بالمناسبة جادون، بل يقترفون «عِلمهم» أحياناً، حين تمكِّنهم سطوة القوة من ذلك، كما حدث معهم في العراق، مما ينتهي غالباً إلى كوارث حقيقية. وفي أغلب الحالات، تفشل تلك التصورات أو المخططات، فيلعن القوم ساعة تورطهم في بلدان وأوضاع لا يعرفونها، مدَّعين انهم ما كانوا إلا فاعلي خير، وأنه تباً لأهل تلك البلدان… وقد قال الرئيس أوباما إنه «يئس من فكرة بناء دولة في أفغانستان حيث لم توجد دولة قط، وتخلى عنها»، أي «يصطفلوا»! وكأن سلفه ذهب إلى هناك لهذه الغاية، متناسياً مخططات بوش المجنونة من ناحية، ومتجاهلاً من ناحية ثانية، ببراءة كاذبة، ضرورات الصراع العالمي ذاك، الذي ما زال دائراً بل متفاقماً.
وفي جولتي تلك، مثلت بقوة قضايا العالم الأخرى، ومنها الانتخابات الوشيكة في مصر والمعركة الدائرة هناك حول وثيقة الوزير السلمي، والاصطفافات المتغيرة للمشهد السياسي في «أم الدنيا». وهي تطغى في مصر على كل ما عداها من مواضيع. كما يمكن تعداد عناوين عديدة أخرى في المنطقة، كالذي يجري في اليمن وهو مثقل بالدلالات والنتائج، وكانتخابات المغرب، وكالتفاوضات حول السير بالسلطة الجديدة في تونس والتحالفات المحتملة في شأنها، مما يمتلك أهمية بصفته قوة مثال ومختبراً يمكن أن يلهم سواه. وما زالت أوضاع ليبيا، ما حدث فيها مما يعتقد البعض أنه نوع من «بروفا للأوركسترا» وما يتفجر حالياً، تحظى باهتمام عالمي.
كما يهتم العالم بمواكبة الحركة الاحتجاجية «احتلوا وول ستريت»، حيث أخلى محافظ نيويورك مخيم متنزه زوكوتي بالقوة، مع وقوع جرحى واعتقالات، ليعود المحتجون إليه بعد ساعات. وتوسعت الحركة ولاتزال تتوسع إلى مدن أخرى في الولايات المتحدة والعالم، مشيرة إلى مقدار القلق العميق على المستقبل في بلدان الغرب المترفة (هكذا تعريفاً)، وبخاصة لدى قطاعات الشباب، وإلى أن الأزمة الاقتصادية العالمية تبدو راسخة بلا رجاء انفكاك. وهو ما يُربَط بانهيار أوروبا البطيء، بدليل وصول التغيير الإجباري إلى إيطاليا.
وأما على مستوى المشهد العالمي، فطغت التحليلات العائدة إلى بدء الرئيس أوباما زيارة لأستراليا يوم الأربعاء الفائت، هي جزء من جولة آسيوية مطولة. رسمياً، تبدو الخطوة احتفالية بالعيد الستين لاتفاقية دفاع مشترك تجمع إلى البلدين نيوزيلندا، وقد خُطط لها كي تنتهي بمؤتمر في اندونيسيا لتعزيز اتفاقية أخرى، «الشراكة عبر الهادئ»، التي تضم اكبر 13 دولة في المنطقة، مستثنية… الصين. هناك إذاً اشتباك صيني – أميركي محتدم، من علاماته أيضاً زيادة واشنطن عديد قواتها في قاعدة داروين الأسترالية، حتى لو لم تتحول رسمياً إلى قاعدة عسكرية أميركية على غرار قواعد اليابان وكوريا الجنوبية أو جزيرة غوام. وكل ذلك يدور في إطار تمكين السيطرة الأميركية على المحيطين الباسفيكي والهندي، ما ترى فيه الصين رمياً لطوق محكم حولها. وقد وصل التنافر حدَّ تبادل تصريحات علنية متشنجة بين مسؤولي البلدين. وهي خطوات تفسر تصريح السيدة كلينتون قبل ذلك بأسبوع حول التركيز الاستراتيجي الأميركي على آسيا. وجدير بالمعرفة أن ثلثي القوات البحرية الأميركية موجودة في تلك المياه، وأن دائرتها الأقرب إلى الصين، ما يقال له بحر الصين الجنوبي، غنية بالغاز والنفط كما هي منطقة عبور إلزامية، شيء يشبه مضيق هرمز! ها قد عدنا إلى «نحن»!
الحياة