صفحات العالم

مآلات الثورة السورية

محمد الزباخ
كي نقارب بروح موضوعية مآلات الثورية السورية، لا بد أولا من بيان لواقع الصراع السياسي الراهن في سورية، ذلك أن الحكم على شيء فرع عن تصوره، ويمكن عموما بيانه من خلال العناصر التالية:
1- واقع النظام: على خلاف كل الثورات العربية التي جرت في تونس ومصر واليمن وليبيا، حافظ النظام الأسدي في سورية على مقدار كبير جدا من تماسك مؤسساته القيادية، وهناك أسباب عامة لذلك، وأخرى خاصة. فأما الأسباب العامة، فتتجلى في عاملين رئيسيين هما:
أ- سيادة فكر الطاعة للقائد/ الإمام: والعجيب الغريب أن جل العلمانيين و’الديانيين’ يشتركون في ذلك، كل من رؤيته الفلسفية. إن حزب البعث يتمسك ببشار الأسد مثلما تتمسك كل الأحزاب التوليتارية بـ’الزعيم الملهم’، والعلويون يتمسكون به لأنه في نظرهم إمام حلت في ذاته روح الله، والسنة الرسميون، صوفيون وغير صوفيون، يتمسكون به، أو بالأحرى يبررون تمسكهم به، من منطلق أنه ولي الأمر الشرعي الذي لا يحل الخروج عليه ما دام لم يكشف عن ‘كفر بواح’. ويلتقي هؤلاء جميعا في المنابر الإعلامية الأسدية لتزييف وعي الجماهير، مؤيدين في ذلك بعدد من الإعلاميين المرتشين والفنانين الأنانيين والقومجيين المتعصبين.
ب- شدة بطش النظام: وهذا مما لا يختلف عليه عاقلان، فالنظام الأسدي قبيل قيام الثورة كان يحصي على الناس أنفاسهم، وكان يأخذهم بالظنة أخذا أليما، وأقل شيء يمكن أن يفعله لقمع خصومه أن يقطع عنهم أرزاقهم، وفي مقدمة ذلك فصلهم من الوظيفة العمومية والإيعاز إلى أوليائه البرجوازيين بطردهم من شركاتهم الأخطبوطية.
أما الأسباب الخاصة فترتبط بكل مؤسسة على حدة، وهكذا يعود تماسك المؤسسة العسكرية الأمنية بالدرجة الأولى لكون جل قياداتها من الطائفة العلوية، ويعود تماسك المؤسسة الاقتصادية السياسية لكون جل أعمدتها من الفاسدين الذين لم ينبن ‘نجاحهم’ على الوسائل المشروعة، بل على ارتباطهم العضوي بالنظام الأسدي.
2- واقع المعارضة: تضم المعارضة السورية تلوينات متعددة يمكن اختزالها في معارضة فعلية داخلية تتمثل في الثوار السلميين والثوار المسلحين (يؤطر جلهم الجيش الحر)، وفي معارضة قولية خارجية تتمثل أساسا في المجلس الوطني السوري (قوامه من الإخوان المسلمين والليبراليين) الذي يؤيد التدخل الخارجي، وهيئة التنسيق الوطنية التي ترفض التدخل الخارجي، ويبدو أن علاقة المعارضة الداخلية طيبة إلى حد ما مع المجلس الوطني السوري، وسيئة إلى حد كبير مع هيئة التنسيق الوطنية.
وعموما لم تنجح المعارضة السورية إلى الآن في استقطاب عملي للفئة العريضة الصامتة من الشعب السوري إليها، ولها نصيب من المسؤولية في ذلك، ولا تتمثل هذه المسؤولية في ضعف منسوب التمثيلية لديها، فهي في الجملة تنبذ الخطاب الطائفي وتدعو لمحاربة الفساد والاستبداد، ولا يتمثل في ضعف منسوب الفاعلية، فقد أبان الكثير من المعارضين عن تضحيات عظيمة لأجل قضيتهم العادلة، وإنما يتمثل في ضعف منسوب المصداقية عند بعض أفرادها، وقد تمكن النظام الأسدي في هذا الجانب من تصيد فضائح لهؤلاء وعمل على تضخيمها وتأويلها بخبث بالغ، ومن أبرز ما يضرب منسوب المصداقية لدى هؤلاء عند بعض السوريين، شر لا بد منه، وهو التعاون مع بعض الأنظمة الاستبدادية العربية ومع بعض الدول الإمبريالية الغربية للإطاحة بالنظام السوري.
3- واقع الشعب: الناظر في خريطة الثورة السورية يلمس أن جل السنة هم ضد النظام الأسدي، وأن جل العلويين معه، وأن بقية الأقليات الأخرى مترددة بين دعمه أو لزوم الحياد. وهذا الانقسام العمودي طبيعي ومنطقي، فالسنة هم الأكثرية التي لا تحكم، والعلويون هم الأقلية التي تحكم، وبقية الأقليات مبثوثة في المناطق السنية من جهة، وتخاف من التحول عن العلمانية إلى الحكم الإسلامي. ويلمس هذا الناظر أيضا فرقا واضحا بين سنة الأطراف وسنة المركز، فقد قام سنة الأطراف، ومنذ الأسابيع الأولى للثورة السورية، بحراك ثوري نشط ومستمر. أما سنة المركز الموجودون في مدن دمشق وحلب والرقة، فقد اختار جلهم تعاطفا صامتا مع الحراك الثوري. وقد حار الكثيرون في حل لغز هذا التعاطف الصامت، بل اندهشوا لما رأوا مظاهرات مليونية تخرج من هذه المدن مؤيدة للنظام الأسدي، والحق أن هذا اللغز محير حقا، فعلم نفس الجماعات، يفترض أن تتحرك في أبناء هذه المدن العصبية الدينية ضد الطائفة العلوية التي تسحق ‘إخوانهم’ في مدن الأطراف، ولكن هذا افتراض اختزالي وبدائي، والذي يحل هذا اللغز إلى حد ما هو خلخلة مفهوم السلطة وتمطيطه ليشمل كل ميادين الحياة على الطريقة الفوكوية. إن كثيرا من سنة المركز يمتازون بنمط حياة متحرر، ويحظون بمقدار أكبر من الرفاهية الاجتماعية، وهذا كاف لأن يجعل بعضهم يتحفظ على ثورة يرون أنها تنغص عليهم ما هم فيه من ‘نعمة’، وتهدد بإحلال القيم ‘الرجعية’ محل القيم ‘التقدمية’. وهناك فريق من سنة المركز على خلاف السابقين، يقدر رجال الدين ويقلدهم، وكثير من هؤلاء، وفي مقدمتهم الشيخ البوطي، يوالون النظام الأسدي بشكل مثير للدهشة. وهناك فريق ثالث، وهم الأغلبية، قد أصابهم الوهن وتجذر في نفوسهم، والوهن كما في حديث شريف، هو حب الدنيا وكراهية الموت، ومن حاله هكذا لن يحرك ساكنا إزاء قبضة أمنية وعسكرية رهيبة لا تبقي ولا تذر.
4- الواقع الخارجي: باستثناء المحايدين، نجد أن القوى الإقليمية والدولية منقسمة إلى فسطاطين كبيرين؛ فسطاط داعم للنظام، ويتمثل إقليميا في عموم الشيعة الإماميين والعلويين، ودوليا في روسيا والصين. وفسطاط داعم للمعارضة، ويتمثل إقليميا في عموم السنة السلفيين والحركيين، ودوليا في أمريكا والاتحاد الأوربي. وإذا كانت القوى الداعمة للنظام قد حسمت أمرها في الدفاع عنه إلى آخر مدى، فإن القوى الداعمة للمعارضة مترددة في خيارها هذا، ويعود ذلك لأسباب عديدة أبرزها الخوف من أن يكون البديل هو الإسلاميون، والانشطارات المتوالية للمعارضة، وأيضا الخوف من أن تلحقها بالضرر تبعات الوضع المعقد في سوريا. وعموما، استفاد النظام الأسدي كثيرا جدا من دعم أوليائه له، فيما لم تستفد المعارضة من داعميها إلا شيئا قليلا.
وانطلاقا مما سبق، فإنه يمكن إحصاء خمسة سيناريوهات رئيسية للثورة السورية يمكن توزيعها كما يلي:
1- حسم الصراع في أمد قصير:
أ- السيناريو الأول، انتصار الثورة: يمكن أن يقع بصورة يسيرة إذا انقض الشعب السوري بكافة طوائفه على النظام الأسدي، وهذا ما يبدو مستبعدا جدا. ويمكن أن يقع ذلك بصورة أقل يسرا، إذا انقض عليه سنة المركز انقضاضا عارما، وهنا تظل وحدة سوريا رهينة بالموقف التركي تجاه سكان الساحل العلويين، حيث سيعمد هؤلاء لتشكيل دولة علوية يمكن أن تتمدد داخل الأراضي التركية، وهذا ما يبدو أن النظام التركي يتحاشى من الآن وقوعه بأي ثمن كان.
ب- السيناريو الثاني، إخماد الثورة: هو خيار مستبعد الوقوع، لكن تجارب التاريخ تنبئ عن إمكان حدوثه. إن ذلك كان سيقع مبكرا لولا انشقاق طائفة من الجند عن الجيش النظامي وانضمام بعض الثوار إليهم، وليس أدل على ذلك مدينة حماة التي لم يعد يتظاهر فيها إلا نفر يسير من الناس بعد أن خرج فيها في شهور مضت مئات الآلاف من الثوار. وفي إمكان النظام الأسدي القضاء على الجنود المنشقين إذا نجح من جهة في وقف نزيف انشقاق المزيد منهم من جهة، ونجح من جهة أخرى في منع تسليحهم بأسلحة نوعية من الخارج.
ج- السيناريو الثاني، حل توافقي: على الطريقة اليمينة مع بعض التعديلات، وهذا ما تقدمت به فعلا الجامعة العربية إلى مجلس الأمن بمبادرة من مجلس التعاون الخليجي، دون أن يقبله النظام الأسدي ولا حلفاؤه الإقليميون والدوليون، ولا يبدو أنهم سيقبلونه في الأمد القريب، لأن قبول الديموقراطية بحق يعني موت هذا النظام سياسيا، ومن بعد ذلك محاكمته قضائيا.
2- استمرار الصراع لامد طويل:
أ- السيناريو الأول؛ حرب أهلية: أي أن يتمركز السنة في مناطقهم بعد تحريرها من النظام الأسدي، وأن تتمركز الأقليات العلوية والكردية والدرزية في مناطقها، ويقع بين السنة وهذه الأقليات (وخاصة مع الاقلية العلوية) صراع في مناطق التماس، بحيث يسعى السنة لإخضاع كل سوريا لسلطتهم، وتسعى الأقليات للاستقلال في أكبر مجال جغرافي ممكن. ويمكن لهذه الحرب الأهلية لأن تتحول إلى حرب إقليمية طائفية إذا ألقت إحدى الدول الإقليمية بكل ثقلها في الثورة السورية لصالح النظام أو لصالح المعارضة، وهذا ما يبدو أن كل هذه الدول تتحاشاه نظرا لتكلفته العالية جدا.
ب- السيناريو الثاني؛ حرب عصابات: أي أن يستمر الصراع على ما هو عليه حاليا لسنين طويلة، بحيث تظل سوريا كلها خاضعة للنظام وغير خاضعة له في نفس الآن، أي أن يتمكن النظام من إخضاع منطقة متمردة لفترة من الوقت في الوقت الذي يسيطر فيه الثوار على منطقة أخرى لفترة من الوقت، وأن يستطيع النظام قتل أو اعتقال من شاء من الناس في الوقت الذي تقدر فيه المعارضة على ضرب النظام وأعوانه بين الفينة والأخرى. إنها معركة كر وفر، معركة عض على الأصابع، قد تنتهي في بضع سنوات، وقد تطول لعشرات السنين. والذي تكشفه المعطيات الميدانية والاستراتيجية أن استمرار الصراع لأمد طويل مرفوض من كل القوى الإقليمية والدولية، وبالتالي لن يتعدى حصوله -لو حصل – بضع سنوات، وأرجح السيناريوهات أن سنة المركز سينضمون تدريجيا إلى الحراك الثوري، وأن الأقليات غير العلوية ستلزم الحياد إلى آخر المطاف، وأن الطائفة العلوية ستتمترس في منطقة الساحل، وحينها ستتدخل تركيا بصرامة تامة منعا لقيام دولة علوية فيها.
‘ كاتب من المغرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى