مآلات سورية مرسومة؟/ سمير العيطة
إذا استمعنا من جديد إلى الخطاب الأوّل الذي ألقاه الرئيس السوريّ في 30 آذار 2011 عندما كانت الثورة السوريّة منحصرة في درعا وحوران، يخال لنا وكأنّه يلقيه اليوم، ويتحدّث عن أمورٍ تجري الآن. وينتابنا بالتالي شعورٌ عميق أنّه كان يراد للبلاد أن تصل إلى ما وصلت إليه، أو أنّه قد تحقّق ما كان تهديداً آنذاك. لكن يبقى تساؤل كبير عمّا إذا كان مسار تطورّ الأحداث بعد ذلك حتميّاً، أم أنّ أفعالا وعوامل استجدّت وأدّت إلى هذا المصير، سورياً وإقليميّاً؟
هناك محطّات يذكرها الجميع جيّداً. مثلاً كيف أثّرت تطوّرات الأوضاع في لبيبا على تلك في سوريا. بشكلٍ عامّ خلق المثال الليبي وهماً في سوريا أنّه سيمكن التخلّص من النظام عبر تسليح الثورة ودعمها بغطاء جويّ، يشرعنه قرار من مجلس الأمن، تحت تسمية حظر جويّ ولكنّ في الواقع دعم جويّ لمعارك على الأرض، من دون تدخّل جيوش بريّة خارجيّة مباشرة. بمعنى آخر انّ انتصار الثورة سيكون بالانتقال نحو الحرب وعبرها.
لكنّ ذلك التأثير كان أيضاً في التفاصيل. ففي حين كانت تتمّ الدعوة «للحوار الوطني» في مجمّع صحارى في تموز 2011، جرى تأسيس المجلس الانتقالي الليبي والاعتراف به من قبل دول أجنبيّة كممثّل شرعيّ ووحيد، ليخلق وهماً لبعض الأطياف المعارضة السوريّة أنّها يمكن أن تؤسّس على شاكلة هذا المجلس الانتقالي «مجلساً وطنيّاً» يبحث عن اعتراف دوليّ مماثل، ويكون غطاءً سياسيّاً للحرب. في الحقيقة تفجّرت المعارضة السوريّة حينها، ولم يعد يهمّها توحّدها بقدر بحث جزء منها الحثيث عن الاعتراف الدولي سياسيّاً على أمل الدخول في الحرب ميدانيّاً. وذهبت ممارسات السلطة السوريّة آنذاك نحو الدفع بذلك المنحى عبر اعتقالها أو تنكيلها بمن كان يريد حلاًّ سياسياً، بالرغم من محاولة بعض رموز الدولة السوريّة إنجاح مثل ذلك المسعى.
ثمّ سقطت طرابلس الغرب وأحبطت النهاية الدموية لمعمّر القذافي ونظامه جهود احتواء انتشار العنف والطائفيّة في سوريا عبر ابتكار المراقبين غير المسلّحين، العرب ثم الدوليين. وتعاظم الاصطفاف، خاصّة مع تركز المواجهة في حمص، مدينة التمازج الطائفيّ القديم، وأضحى شعار جزء من المعارضة الممثّل بالمجلس الوطنيّ هو «إسقاط النظام بكلّ رموزه وأركانه»، بدل المشروع الأوليّ الذي كان يرتسم في منظور تولّي السلطة بالتعاون مع المؤسسة العسكريّة. وأضحى خيار كلّ من أخذ جانب السلطة القائمة ولم يتضامن مع الثورة لأسبابٍ مختلفة هو القتال حتّى النهاية. توقّفت حينها التظاهرات وارتفعت حصيلة القتلى اليوميّة من الطرفين إلى مستويات غير مسبوقة. وفي الحقيقة، ساهم النظام وقوى إقليميّة (خاصّة عبر وسائل إعلامها) على السواء في تأجيج الصراع وانتقاله تدريجيّاً إلى مواجهات مسلّحة شرسة.
مبادرة المبعوث المشترك كوفي عنان ذات النقاط الستّ خفّفت لأسابيع قليلة من القتل. إلاّ أنّ البحث عن التوافقين الدولي (جنيف 1، أواخر حزيران 2012) وعلى صعيد المعارضة (مؤتمر القاهرة، أوائل تموز 2012) لإرساء حلّ رافقهما صعود وتيرة القتال والانتقال من الصراع المسلّح المحلّي إلى حربٍ شاملة على عموم الأرض السوريّة، مع شحنٍ كبير للرأي العام من خلال المجازر التي ارتكبت في بعض البلدات. وقليلاً ما يتمّ لفت الانتباه إلى أنّ معركة «تحرير» حلب وريفها قد انطلقت بالضبط في وقت إنجاز هذين التوافقين المشار لهما. وكأنّ الأمر جاء لكيّ يغيّر جذريّاً من الواقع الذي قامت على أسسه «وثيقة جنيف» و«وثائق القاهرة»، وجعل أيّ حلٍّ على أساسهما مستحيلاً. واضحٌ أنّ ما أضحى يسمّى الأزمة السوريّة قد انتقل حينها من حالة ثورة شعب ضد سلطة مستبدّة إلى صراع بين فئتين، كلّ منهما أسيرة منطقٍ سائد مختلف، ومدعومة من قوى خارجيّة بالمال والسلاح، بل بمقاتلين أجانب متطرّفين خارج أيّة سيطرة. هكذا أضحى الصراع في سوريا صراعاً على سوريا.
الحوار الأميركي الإيراني حول الملفّ النوويّ كان له أيضاً أثره. ومن اللافت للانتباه كيف تزامن القصف الكيماوي في الغوطة مع ذلك الحوار. ومن اللافت أيضاً أنّ التوافق الروسي – الأميركي أتى سريعاً على نزع السلاح الكيميائي في سوريا، ممّا غيّر من جديد في وتيرة الصراع، وأنّه لا حسم طالما لم ينزع الكيميائي. ومن هنا أتى ربّما الدفع لعقد جولتي «جنيف 2» في بداية هذا العام، ليس في الحقيقة لكي يكون هناك تفاوض على حلّ، بل لتسجيل مواقف طرفين متنافرين والدول الداعمة لكلّ منهما.
ما يلفت الانتباه كذلك أنّ أزمة أوكرانيا والقرم، وما أثارته من تنافر بين روسيا والولايات المتحدة، لم تغيّر كثيراً من المعادلة السوريّة. استعصاء قبل الأزمة من جرّاء استهزاء طرفي «جنيف 2» بالرأي العام السوريّ الذي تعب اليوم ويبحث عن حلّ، أيّ حلّ لوقف القتل، واستعصاء بعدها. واليوم لا تسارع في توريد السلاح إلى الطرفين، ولا أفق لجولة تفاوض جديدة.
ويلفت الانتباه أن يتمّ السماح اليوم بفتح معركة الساحل على مصراعيها، الآن بالضبط، والتي كانت تمنعها الدول التي تساند المعارضة المسلّحة منذ أشهر، كي تتفجّر المشاعر الطائفيّة، وينتشر خطابها على وسائل التواصل الاجتماعي صراحة من جديد، ويبتعد أفق أيّ حلّ قريب، ربّما تحضيراً لهجرات جماعيّة مستدامة ولتقسيم البلاد.
ما يبدو حتميّاً اليوم هو أنّ سوريا قد تتقسّم، بل تتشظّى وتتصومل حسب التعبير الذي باتت تستخدمه الأمم المتحدة. وأنّ لا شيء يُمكن أن يوقف المسار القائم لأنّ السوريين كما يصفهم البعض أصلاً، طائفيّون. كانت طائفيّتهم كامنة، ولأنّ اسلامهم السنّي متعصّب، لكنّه كان يتخفّى وراء علماء ذوي خطابٍ معتدل، ولأنّهم بطبعهم عنيفون، كان عنفهم مكبوتاً بالاستبداد، ولأنّ الانتماء إلى سوريا الوطن انتماء هشّ.
لكن لا شيء حتميّاً في التاريخ. وما يجري ليس مجّرد نتيجة جنون السلطة وهزال رموز المعارضة وحسب، بل نتيجة أنّهما، السلطة والمعارضة، باتتا أسيرتي منطقٍ قديم يتوجّه إلى واقع تغيّر جذريّاً. لم يفهم كلاهما أنّه لن يسمح لأحدهما بالانتصار على الآخر، وخسر كلاهما أيّ دعمِ شعبيّ لأنّه لا يتطلّع إلى المطلب الأكبر لأغلبيّة أهالي البلاد: أوقفوا هذه الحرب العبثيّة، أوقفوا تدمير البلد، أوقفوا تجويع الناس وتهجيرهم!
والسؤال: من سيجرؤ على الوقوف أمام حتميّة التدمير المتبادل صوناً لوطنه وأهله؟ ومن سيعلن دائماً وبقوّة أنّ السوريين في أغلبيّتهم ليسوا طائفيين، كما ردّدت أصوات حفنة حاقدة هنا وهناك، وأنّ إسلام سوريا السنّي سمح وأصيل، بعيد عن إسلام «التكفيريين»، وأنّ السوريّين لا يحبّون العنف وأنّهم قد سئموه، وأنّ الهويّة السوريّة قويّة لأنّها هويّة البلد الذي تبقّى في المنطقة من إرث عريق.
لن تأتي المبادرة الجريئة لا من السلطة ولا من «المعارضة» بنسختها الحاليّة، بل من المواطنين السوريين العاديين، من تلك السيّدة التي أحرقت نفسها أمام أطفالها غضباً من هذا المصير، كي يستفيق أبناء الوطن الذين يعانون في كلّ مكان، وأيضاً من ذلك المقاتل الذي بات يعرف أنّ السلاح الذي يحمله يقتله ويقتل أهله قبل أن يقتل خصمه الذي هو في الواقع أخوه.
السفير